وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

ممدوح عدوان: دون كيشوت الكلمة

دمشق: صورة لحياة الشارع. ممدوح عدوان
دمشق: صورة لحياة الشارع. المصدر: Stijn – CC BY-NC-ND 2.0، Creative Commons.

يوسف شرقاوي
الرجل الذي دافع عن الجنون ولم يتحاشَ موته

حارب الرجل طواحين الريح على أكثر من جبهة، في عالمٍ لم يعد يشعر ويحسّ بفجائعه، في عالمٍ بدأ يفقد إنسانيّته وينزاح إلى التحوين “الحيونة”، وإلى إخراج الجلّاد الذي فيه بأيّة طريقة، من أجل ذلك اشتبك الرجل مع هذا العالم يومياً، وهو يسعى وراء العدل المطلق. وليس العدل على أقساط، فهو ليس بازارجياً، وليس سياسياً، بل رجل احتفل بالجنون ودافع عنه. فكان العيب في نظره “أننا أمة تخلو من المجانين الحقيقيين، ونحن في حاجة إلى الجرأة على الجنون، الجرأة على الاعتراف بالجنون، ففي حياتنا شيء يجنّن. وحين لا يجن أحد فهذا يعني أنّ أحاسيسنا متبلّدة، وأنّ فجائعنا لا تهزّنا، فالجنون عند بعض منا دلالة صحية على شعب معافى لا يتحمل إهانة.. ودلالة على أن الأصحاء لم يحتفظوا بعقولهم لأنهم لا يحسّون، بل احتفظوا بعقولهم لأنهم يعملون، أو لأنهم سوف يعملون، على غسل الإهانة”.

إنّ ممدوح عدوان، الرجل القادم من قيرون قرب مصياف، هو دون كيشوت في عالمنا الأبله الجامد. وجنونه أيضاً من نوعٍ خاص، “فرط حساسية تجاه ما يجري في العالم”. وحين رأى أنه لا يجوز السكوت على ما يجري، خرج يجابه العالم ويشتبك معه رغم معرفته أنه لن يستطيع هزيمته. كان عند دون كيشوت مساعده سانشو، فيما قاتل ممدوح بسلاحٍ واحد هو الكلمة، الكلمة التي يقول عنها “ليست مقروءة جيداً، وليس لها منابر أو قنوات توصيل”. ويرى بنفسه دون كيشوت أكثر بكثير من ذاك المجنون الذي قاتل برمحه، لأنه بقي مصرّاً رغم كل ما يحدث أن يستخدم سلاح الكلمة. وكلما زادت ثقافة الرجل واتّسعت رؤيته للعالم رأى نفسه دون كيشوت أصغر. لكنه بقي يشتبك مع العالم، بالشعر والرواية والمسرح والمقالة والدراما التلفزيونية والترجمة. ولو استطاع أن يمثل ويرسم لازداد فرحه. وكان يخوض اشتباكه بمعدّل سبعين ساعة يومياً. هكذا يبدو للناظر، مشغولاً بالدفاع عن إنسانية الإنسان. وبينما يمرّ الوقت، لا يتحاشى الرجل الموت، بل يؤسس له، متبنياً خطاب الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو. لكنه كان ملقّحاً ضد الإحباط، على أنّ تفاؤله ليس سخياً، لكن على الأقل: كانت المشاكسة عنده أحسن من الخنوع والضعف.

وفيما هو يشاكس العالم، ويشتبك معه، كان يشتكي منه، ومن دعوته الدائمة لنا للتحول إلى حيوانات متوحشة، فالإنسانية كلمة مطّاطة ومشوّشة. أما السؤال الذي يطرحه عدوان فهو: “هل نحن جلّادون؟”. ويستعرض كيفية استخراج الجلاد فينا عن طريق السينما أو الدراما أو القهر الحكومي أو السلطة الدينية والسياسية أو التشريع الاجتماعي. والكتابة عنده فعل صراخ؛ صراخ تنتجه هذه الحساسية المفرطة إزاء ما يحدث في العالم: “أنا أصرخ ويجب أن تبقى لي هذه الحرية. الموجوع الذي لا يصرخ هو ميت. وما يسمونه صراخاً هو ما أسميه لمس المواجع. لا أستطيع أن أمسح الشعر والخد وأنا أدّعي أنني أعالج طعنة في الخاصرة”.

وصراخه هذا هو دفاعه عن الجنون الذي يجب أن يكون فينا. فالجنون حالة طبيعيّة وسط الظواهر غير المألوفة التي تحدث في حياتنا، وسط رداءة العالم الذي نعيشه وقسوته. وإنّ السلاح الوحيد الذي يمكن الدفاع به عن الأحلام المسلوبة التي حلم بها الإنسان، هي الجنون. أو إنّ المقاومة التي يبذلها الإنسان في الدفاع عن تلك الأحلام تأتي بهيئة نوع من أنواع الجنون:

“كان لدى الإنسان حلم جميل، لكن تتالي الأحوال فتح في هذا الحلم جرحاً. وبين الحين والآخر ينتبه الإنسان إلى خسارته الفاجعة هذه، فيدرك أنه صار يجهد لمنع نفسه من الانحدار عن مستواه الإنساني إلى مستوى الحيوان. وحين يقاوم تتخذ مقاومته نوعاً من أنواع الجنون”.

من أجل هذا حارب الرجل، وشاكس، فهو قد يكون الشاعر الوحيد الذي لم يبدأ شعره بقصيدة غزلية، بل سياسية، دفاعاً عن كرامتنا المهدورة، لأنه “حين يحكم السيف تضيع الكرامة”. ولم يكن في الحياة مختلفاً عن الشعر، فقد تجرأ على الصراخ علناً في مؤتمر الجبهة الوطنية التقدمية سنة 1979، وقال: الشعب لا يصدّق الأنظمة السياسية، ولا بيانات المعركة بعدد الشهداء، ولا درجات الحرارة”.

وأدان الأجهزة الإعلامية التي تكذب حتى بدرجات الحرارة، وتخفي الكوليرا، وانتقد المسؤولين وغياب سياسة الاعتراف بالأخطاء، وتفشي الفساد.

أُصيب الرجل بمرضين قاتلين، هما القلب والسرطان. ومع ذلك، بقي الموت عنده معرقلاً للمشاريع، لا يخاف منه:

“كل إنسان يخاف الموت، ولكن هذا لا يشغل تفكيري كثيراً. فالموت لا يعني لي سوى توقف مشاريع. أنا أخاف أن أموت قبل أن أكتب كلّ ما برأسي. وأحب الحياة ومتعلق بها، لكن أحس كأنني أتفرج على شيء في الحياة، لكنه شيء غريب!”

وربما، إثر الظلم الذي عاناه في حياته، رثى نفسه بنفسه، في قصيدة يرثي فيها دون كيشوت، وهو دون كيشوت، طالباً من سانشو أن يستمر، أمام الأوهام والطواحين والطغاة الكذابين، حيث (لا) هي الأجمل بين كلمات اللغة:

“شعر؟
شعر وسط ضجيج صيارفة الأوطان
وسط ذئاب تتناهش
شعر بين النخاسين
يغني الزهرَ ورائحة الأرض
وأحلام الإنسان
جفّ العمر
ولم يبقَ بجسمي إلا الداء
حولي لم يبقَ سوى الأعداء
انهض يا سانشو
انبض قوسك
وارمِ السهم
ولا تلحقه بعينيك
فحيث يصيب السهم
هناك الأعداء
لم يبقَ سوى الأعداء
أشهر سيفك
واضرب كيف تشاء
إن أمامك أوهاماً وطواحين
ليس أمامك غير طغاة كذابين
لم أقبض كفي كي أجني كسباً
بل كنتُ قبضت على الجمر
سرقت النار
ما زال القلب يراوغ عن أسئلتي
يخفق أجوبة
ما زال القلب هو الهادي
ما زالت (لا) في كلمات اللغة هي الأجمل!”

المصادر:

[1] أطياف ممدوح عدوان – حوارات منتخبة، د. محمد صابر عبيد.
[2] دفاعاً عن الجنون، ممدوح عدوان.
[3] جنون آخر، ممدوح عدوان.
[4] حيونة الإنسان، ممدوح عدوان.
[5] ملف: ممدوح عدوان، البوهيمي المتمرد، جريدة الأخبار.
[6] ممدوح عدوان، الباحثون السوريون.

ملاحظة

الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.