ماجد كيالي
ما زالت الحركة الوطنية الفلسطينية تتهيّب طرح أسئلة جديدة أو تبنّي خيارات ورؤى سياسية بديلة، أو موازية، رغم كل التحولات والتطورات، ورغم كل النجاحات والإخفاقات. لكأنها توقّفت عند اللحظة التي تبنّت فيها البرنامج المرحلي (حلّ الدولتين) في منتصف السبعينات أو عند تلك اللحظة التي جرى تحت ضغطها توقيع اتفاق أوسلو في البيت الأبيض في واشنطن (1993).
هذا التهيّب أو ذاك الجمود يمكن تفسيره بضعف مبنى الحركة الوطنية الفلسطينية التي تعيش وضعاً معقّداً يتمثّل بتشظّي حواملها المجتمعية والسياسية، وتاليا، واقع خضوعها لأكثر من سلطة. كما يتمثل ذلك بتضاؤل إمكانياتها في موازين القوى والمعطيات المتّصلة بصراعها مع عدوّها، وبالنظر لاعتمادها في مواردها على الخارج، أكثر من اعتمادها على شعبها.
وفي الحقيقة فثمة أسباب ذاتية أخرى لذلك، أيضاً، تتمثّل بشيوع التخوّف من الجديد، وحال التبلّد الفكري، وضعف المحتوى الديمقراطي في العلاقات الداخلية للحركة الوطنية الفلسطينية، وتسيّد طبقة سياسية بعينها عليها منذ عقود. هذا ما يفسّر، أيضا، ارتهان هذه الحركة لخيار سياسي بعينه، والتمترس عنده طوال عقود عدة على رغم انكشاف ضرره وعدم جدواه.
ولنلاحظ أن هذه الحركة التي انبثقت من أجل تحرير فلسطين (في منتصف الستينات) ظلّت على هذه الحال قرابة ثمانية أعوام، فقط، في حين إنها أقامت على خيار حلّ الدولتين (1974) قرابة أربعة عقود، ضمنهم عقدين تقريباً منذ توقيع اتفاق أوسلو (1993).
ليس القصد هنا التحسّر على الماضي الذي ضاع ولا الهدف إجراء محاكمة سياسية أو أخلاقية لخيار ما وإنما الغرض هنا هو التأكيد على أن الجمود السياسي، وضمنه الوقوع في أسر خيار واحد، مضرّ للحركات التي تتوخّى التغيير وتنشد الأفضل لشعبها، ويتنافى مع أبجديات العمل السياسي الذي يفترض الإدارة الأفضل والاستثمار الأمثل للمعطيات والتفاعلات والموارد المتاحة والممكنة.
معلوم أن التغيير الوحيد الذي شهدته الحركة الوطنية الفلسطينية، منذ تأسيسها في أواسط الستينات، إنما حصل بفعل توقيع اتفاق أوسلو، والتداعيات السياسية الناشئة عنه. فقد نتج من هذا الاتفاق تهميش كيان منظمة التحرير لمصلحة السلطة، وتغيير طابع الحركة الوطنية الفلسطينية من حركة تحرَر إلى سلطة، وتحويلها من حركة تحرير لوطنها وشعبها إلى حركة استقلال لقسم من الشعب على جزء من الأرض؛ ما أثّر على مكانتها التمثيلية كحركة للاجئين. كما نتج من ذلك، أيضاً، تحوّل هذه الحركة من اعتماد المقاومة المسلحة كطريق وحيد للتحرير، إلى اعتماد المفاوضة كطريق وحيد، أيضاً، لتحقيق الاستقلال وانتزاع الحقوق.
طبعاً، ثمة فارق بين لحظتي تبنّي البرنامج المرحلي (في أواسط السبعينات) وتوقيع اتفاق أوسلو (1993)، ففي اللحظة الأولى اقتصرت التغييرات على الحيّز النظري، أي على البرامج والشعارات، لكنها في اللحظة الثانية شملت الحيّزين النظري والعملي، ما انعكس بإعادة هيكلة مجمل الكيانات السياسية وترتيبها بناء على الواقع الجديد (ضمنه تحوّل بني المقاومة العسكرية إلى أجهزة أمنية، أو حلّها).
على أية حال، وبغض النظر عن قبول اتفاق أوسلو أو رفضه، فقد مثّل التوقيع عليه لحظة نكوص كبيرة في واقع الحركة الوطنية الفلسطينية، وهي لحظة حدثت بضغط المتغيرات الدولية والعربية الحاصلة في مطلع التسعينيات (انهيار الاتحاد السوفياتي وهيمنة الولايات المتحدة على النظام الدولي وحرب الخليج الثانية وتفكّك النظام العربي)، وهي متغيرات أفادت إسرائيل وأضعفت الفلسطينيين؛ مع أن ثمة قسط من المسؤولية في ذلك تتحمّله القيادة الرسمية.
الآن، أو منذ سنوات، تقف الساحة الفلسطينية في لحظة مفصلية جديدة، ناشئة عن انسداد الأفق أمام اتفاق أوسلو، وعن وصول خيار الدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع إلى خيار مسدود، وكل ذلك بسبب تملص إسرائيل من استحقاقات اتفاق أوسلو، ورفضها تمكين الفلسطينيين من إقامة دولة مستقلة لهم في الضفة والقطاع. وكما شهدنا فقد عبر الرئيس الفلسطيني عن هذا المأزق، وعن يأسه من إمكان تحقيق هذا الخيار، وذلك بمنحه إسرائيل مهلة عام واحدة لإدارة عجلة التسوية وتمكين الفلسطينيين من إقامة دولة لهم، وأنه في حال تعذر ذلك فإن قواعد اللعبة ستختلف.
طبعا، إسرائيل لن تولي كلام الرئيس الفلسطيني شيئا، مع معرفتها بضعفه، لكن السؤال يطرح على الرئيس الفلسطيني عن أوراق القوة التي يمتلكها، وعن الخيارات التي يمكن أن يذهب اليها بعد عام، ثم ما الذي سيكتشفه في هذا العام ولم يكتشفه طوال 28 عاما من عمر اتفاق أوسلو؟!
ملاحظة
الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.