وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الرجعيّة في وجه أبي خليل القباني

عرض مسرحي في دمشق
صورة تم التقاطها يوم ٢٠ أكتوبر ٢٠٠٨ للممثلين السوريين كفاح الخوص (يسار) وربا حلبي (في الخلف) ويحيى هاشم (يمين) أثناء مشاركتهم في عرض مسرحي تم تقديمه في الشارع تحت عنوان “صندوق الكار” في دمشق. المصدر: LOUAI BESHARA / AFP.

يوسف شرقاوي

تحكي الوثائق القليلة التي وصلت إلينا عن الشراسة التي حورب بها أبو خليل القباني من قِبَل الرجعيّة، وذلك في إحراق مسرحه وتدمير كلّ ما بناه خلال سنوات، إضافة إلى تحريض الصبيان على ملاحقته بالسخرية والأغاني البذيئة، حيث كانوا يلاحقونه مُنادين خلفه: “أبو خليل القبّاني رجاع لكارك أحسلّك”.

لقد اكتسب الرجل لقبه منذ كان عمره اثنتي عشرة سنة، حيث اشتغل “قبّان” في سوق البزورية، مع خاله “عبد الله النشواتي” الذي دعمه بعد طرده من بيته.

لم يعد يستطيع أن يواصل العيش في دمشق، فقد أحرقوا موهبته وعمله، ويشبّه المسرحي سعد الله ونوس ذلك بالقتل. أن يجعلوا عمل الفنان مستحيلاً وبقاءه في بلاده متعذراً، هو أمر شبيه بالقتل، وقد يكون أسوأ منه.

يبدو الهجوم على مؤسس المدرسة الشامية – دمج التمثيل في الغناء والرقص – غير مفهوم، فالقيم والأفكار التي تنطوي عليها نصوصه لا تتصادم، وفي منظور ذلك العصر، النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إلا في حدودٍ ثانوية مع القيم والأفكار التي كانت سائدة في مجتمعٍ محافظ وتقليدي.

لم يمس القباني السلطات بأيّة إساءة في نصوصه، بل على العكس، لقد اختتم جميع ما كتبه بأغنية تمجّد وتدعو للسلطان، باستثناء نصٍ واحد، وقد يكون سقط ذلك منه سهواً.

كما يدعم هذا الرأي الدكتور شاكر مصطفى في كتابه “تاريخ القصة في سوريا”، إذ يقول: “لم تكن الشخصيات التي يقدّمها مسرح القباني سوى شخصيات الأمراء والملوك، ولا كانت القيم والمفاهيم التي يعبّر عنها سوى قيم المجتمع الإقطاعي الوسيط الذي كان لا يزال يعيش في ظلّ السلطان العثماني”.

لماذا إذن حورب الرجل ورُفِعَت “مضبطة” في حقّه إلى الأستانة بيد الشيخ “سعيد الغبرا”؟ كانت المضبطة تحمل تواقيع معظم أعيان دمشق من أجل منع القباني من العمل المسرحي.

أورد كامل الخلعي نص المضبطة في كتابه “الموسيقي الشرقي”، وجاء فيها:

“إنّ وجود التمثيل في البلاد السورية مما تعافه النفوس الأبية، وتراه على الناس خطباً جليلاً ورزءاً ثقيلاً، فيُمثّل على مرأى من الناظرين ومسمع المتفرجين أحوال العشاق، وما يجدونه من اللذة في طيب الوصال بعد الفراق”.

كما أورد إبراهيم الكيلاني بعض العبارات من استغاثة الشيخ سعيد الغبرا أمام السلطان على النحو التالي: “أدركنا يا أمير المؤمنين، فإنّ الفسق والفجور قد تفشيا في الشام، فهُتِكت الأعراض وماتت الفضيلة ووُئد الشرف، واختلطت النساء بالرجال”.

عزا بعض الدارسين غضب الرجعيّة إلى أسباب أخلاقية، إذ أهاج المشايخ ما تضمّنته روايات القباني من مشاهد غرامية وحوارات الحب. لكن آنذاك كانت خيمة “الكراكوز” منتشرة بكثرة في دمشق. وقيل إنّ “مدحت باشا” حين وُلّي على المدينة قام بجولة ليتفقد أحوالها فلفت نظره كثرة المقاهي التي تُمثّل فيها حكايات “خيمة كراكوز”. وانتقد وجهاء دمشق على هذا المستوى المنحط ولامهم لإقبالهم على مشاهدة هذه المناظر المخجلة. فلماذا رُفِعت المضبطة في حق القباني فقط؟

يضيف إبراهيم الكيلاني ما يلي: “وكأنّ أبا خليل القباني بما فُطِر عليه من لطف الحس قد تنبّه إلى الخطر المحدّق بحركته الفنية وهي ما تزال في مهدها، فعمد إلى استرضاء زعماء الرجعية المتسلّطين فقاسمهم الربح، ويظهر أنّ نصيب أحدهم، الشيخ سعيد الغبرا الذي تسلّط على عقول العامة ببيانه ولسانه، كان ضئيلاً، فشدّ رحاله إلى الأستانة، عاصمة الخلافة، بعد أن أعجزته الحيلة عن محاربة القباني في بلده”.

إلا أنّ هذا السبب لا يكفي وحده، فهناك توقيع ما يقارب ٢٩ إنساناً من أعيان دمشق على المضبطة. يذكر قسطندي رزق في كتابه “تاريخ الموسيقى الشرقية” السبب الذي فضّله المسرحي السوري “سعد الله ونوس”، حيث يقول رزق: “وما كادت الفرقة – أي فرقة القباني – تمثّل رواية أبي الحسن المغفل، حتى قام بعض المشايخ الرجعيين وقعدوا لظهور هارون الرشيد على المسرح، على شكل أبي الحسن المغفل، ورفعوا احتجاجاً بذلك إلى الحكومة العثمانية بالأستانة. فأصدرت إرادة شاهانية بمنع التمثيل العربي في سورية”.

كما أنّ عمل أبي خليل كان يُعَد “بدعة” كما يورد الشيخ جميل الشطي في كتابه “أعيان دمشق في القرن الرابع عشر” في معرض كلامه عن الشيخ سعيد الغبرا ورحيله إلى دار الأستانة “لرفع وإبطال كثير من تلك البدع التي ظهرت في دمشق، ولا سيّما تمثيل الروايات التي أضرّت في الأخلاق والأموال، وكان مؤسسها وحامل لوائها أبا خليل القباني”.

عرض مسرحي في دمشق
صورة تم التقاطها يوم ٥ نوفمبر ٢٠١٠ في قلب دمشق لممثلين سوريين وهم يشاركون في مسرحية “غيرة باربوي” التي ألفها المسرحي الفرنسي موليير في القرن السابع عشر. المصدر: RASHED ISSA / AFP.

يحدّد “ونوس” عوامل الخطر التي أحسّها رجال الدين في تجربة القباني على أنها تكمن في الظاهرة المسرحية، وهي ثلاثة، أوّلها هو إنّ ظهور المسرح كان جزءاً من حركة التنوير والنهضة، أما الثاني فيرتبط بالطابع الاجتماعي للظاهرة المسرحية، والثالث هو الذي يتعلق بأخطر عناصر الظاهرة المسرحية، “التشخيص”، فالنظم الإقطاعية الدينية توظف شتى الوسائل لتأكيد وتكريس الحدود الصارمة بين الطبقات، وأن يظل هناك فضاء شاقولي يرفعها عالياً فوق الشعب. لذلك أحسّت بخطورة التشخيص. وكانت الكنيسة قد اكتشفت خطره قبل رجال الدين الإسلامي حين قاومت فرق المسرح المرتجل في إيطاليا. فالتشخيص ينزع عن السادة هالة القدسية، ويتحوّلون من علوّهم إلى أشخاص حاضرين بين المتفرجين. فزلّة الممثل يمكن أن تجعل الملك مضحكاً والأمير سخيفاً، وحين يضحك المتفرج يسقط في أعماقه جدارٌ من الخوف، ثم تبدأ التساؤلات.

لم يكن الجمهور الدمشقي يقف ضد القباني، فقد ذكر محمد كرد علي في كتابه “خطط الشام” أنّ الجمهور الدمشقي “لم يُفاجأ بهذا العمل الفني الجريء – مسرحية الملك وضّاح – بقدر ما أُعجِب بهذه الكوميضة (الكوميديا) المحليّة، يقدّمها له مسلمٌ عريق”.

وفي جو عروض القباني – يقول ونوس – حيث العفوية والارتجال يلعبان أقصى حدودهما، يلعب أداء الممثل دوراً كبيراً في تعرية هؤلاء الذين يقفون في ذروة الهرم الاجتماعي، أو في تمزيق أقنعة القدسية والرهبة عن وجوههم. إنّ الملوك والوزراء والأمراء كانوا يفقدون دلالاتهم السامية بالتقليد.

لذلك قام رجال الدين ولم يقعدوا حين ظهر “هارون الرشيد” على المسرح، ولذلك اتّهموا تجربة القباني بالبدعة.

عاش رائد المسرح السوري حياته على هذا النحو، بين حروبٍ تُشن عليه ورفوض يتعرض لها، فبعد حرق مسرحه في “خان الجمرك” في دمشق، سافر إلى مصر ثم إلى بيروت حيث تقدّم بطلب لمكتب الصدارة العظمى بإسطنبول لمنحه رخصة إقامة “تياترو” (مسرح) لعرضه “لعبيات” (مسرحيات) باللغة العربية.

قوبل الطلب بالرفض، فرجع القباني إلى القاهرة ثم إلى دمشق سنة ١٨٩٠، وظهر في بيروت سنة ١٨٩٢ مع فرقة كبيرة كوّنها، وكان اسمها “مرسح العادات الشرقية”، حيث استعدّ للتوجه إلى شيكاغو للمشاركة بمعرضها الدولي، لكن حتى هناك لم يُترك بحال سبيله، “حيث افترى بعض المفسدين واتهموا القباني وفرقته بمؤامرة تستهدف مكانة السلطنة العثمانية”، وقد شغلت هذه القضية جهاز “الخفية” في ولاية بيروت والعاصمة إسطنبول، كما دفعت القباني لأن يختصر فترة إقامته في شيكاغو من ستة شهور إلى شهرين، وتكتّم على خبر رحلته إلى هناك تسع سنوات، حيث وافته المنية في منزله الدمشقي في اليوم الأخير من سنة ١٩٠٢، بعد أن أصابه وباء الطاعون الذي عمّ البلاد ذلك الحين.

المصادر:

[1] بيانات لمسرح عربي جديد – الملحق الثاني/ سعد الله ونوس.
[2] رحلة أبي خليل القباني إلى أميركا ١٨٩٣/ تيسير خلف.
[3] أبو خليل القباني/ الهيئة العامة السورية للكتاب.
[4] المسرح السوري منذ خليل القباني حتى اليوم/ عدنان بن ذريل.

ملاحظة

الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.