وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

تداعي الحلم بالكلمة: الفعل عند المسرحي سعد الله ونّوس، ودور الجمهور في ذلك

Hamidiya bazaar syria
صورة تم التقاطها يوم ٣ ديسمبر ٢٠١٩ لسوريين وهم يتسوقون في سوق الحميدية الشهير في العاصمة السورية دمشق. المصدر: LOUAI BESHARA/ AFP.

يوسف شرقاوي

لا أظنّ الرجل القادم من حصين البحر قد قتله السرطان فقط، إذ كان للخيبة دور كبير وهام في مقتل الرجل. الخيبة التي توقّعها، ومن الممكن أنه تجهّز لها، لكنّ مرارتها بقيت تقتصّ من جسده كل يوم، في كل زيارة للمسرح، في كل عرض، وعند كل تصفيق، وأثناء كل هزيمة. مع ذلك، رفض الرجل الإذعان بادئ الأمر، وقال قبل سنة من رحيله، في يوم المسرح العالمي ١٩٩٦: “إننا محكومون بالأمل، وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ”.

إلا أنّ التاريخ نفسه قد توقف بعد ذلك بسنة، تاريخ الكلمة التي يستميت صاحبها من أجل أن تصير فعلاً، ثورة، أو انتفاضة حقيقية. لكنّ متلقّي هذه الكلمة يقومون بالتصفيق فقط ويرجعون إلى منازلهم كأنّ شيئاً لم يكن.

قد يكون هؤلاء هم البرجوازيون، أو البرجوازيون الصغار، الذي أراد سعد الله ونوس* معاقبتهم في مقدمة بياناته نحو مسرح عربي جديد، وليس العقاب صعباً أو موجعاً. إنه عقابٌ نفسي، الحملقة في الذات، الوجه الذي يلاحق وجهه في المرآة، ويحدّق في وجوه الآخرين، ربما خائفاً، متوجساً من النظرات. لا أعرف إن كان الاقتراح قد نُفِّذ في بيئة ما، إلا أنه لم يُنفَّذ في مسارحنا. بقي على الورق، ولم يدخل حيّز المسرح الذي يريد له ونوس هذه المرة أن يتطهّر، لا أن يُطهِّر.

كان العقاب أو الاقتراح المعنون بـ “المرآة – الوهم”، يدور على النحو التالي: “أن نضع بدلاً من المرآة – الوهم، مرآةً حقيقية وعلى مقاس الستار، ننصبها أمام الجمهور الكريم. أتصوّر المرآة مغسولة، تربض قبالة هؤلاء الذين يدخلون إلى الصالة المكسوّة بالأضواء، أيديهم تحمل البطاقات، وأرجو أن يكون ثمنها غالياً. المرآة واثقة من نفسها، تقبض عليهم فور دخولهم، في البداية قد يكون الأمر مسلياً، وعندما يغوصون في مقاعدهم، يستعجلون البحث عن وجوههم، ولكن لا تلبث الراحة أن تتحول اضطراباً حين يلمحون أنّ عيوناً أخرى تضبطهم باستمرار. يتعذر الإفلات، الوقت يمر بطيئاً، والأضواء تنسكب كالفضيحة. أما المرآة فهادئة ورابضة كالمصيدة، لا شكّ أنّ الجمهور الكريم سيبدأ بالتململ. ما نهاية هذه اللعبة؟ لا شيء إلا أن تمتد وقتاً أطول وأطول. إنّ المسرح المُتعَب من الخداع والكذب يريد هذه المرة أن يتطهر لا أن يُطهِّر، ويجب أن يمتد الوقت، يمتد ويمتد حتى يبلى وجه هذا المتفرج، أو يعوي خوفاً واضطراباً”.

كان ونوس إذن يطمح إلى نزع القناع، القناع الذي لا يكترث بالهزيمة، وتطهيره، حتى يصير وجهاً جديداً؛ وجهاً ينضح غضباً، يتفجر. وليس هذا عقاباً بقدر ما هو تحذيرٌ أو إخطار، بضرورة نزع الوجه القابع فوق الوجه الخانع لواقعه الرديء، ووجوده الذليل. من أجل ذلك، بحث ونوس عن الكلمة التي يمكن أن تكون فعلاً نضالياً مباشراً يغيّر الواقع، بتعبيرٍ أدق، كان يقول: “كنتُ أطمح إلى إنجاز الكلمة – الفعل، التي يتلازم، ويندغم في سياقها، حلم الثورة وفعل الثورة معاً”.

استمرّ هذا البحث الدؤوب حتى وفاته، أو مقتله، واشتدّ بعد هزيمة ٥ حزيران، النكسة**. في ذلك الوقت كان ونوس يحسّ الكلمة شَرَكاً سقط في حبائله، كانت – كما يقول – خديعة، أو جثّة تتحلّل، وتتحوّل غازاتها في دخائلنا خجلاً صامتاً وعاراً بارداً.

ويسأل الرجل الذي بدأت خيبته تفتك به: “هل تستطيع الكلمة أن تكون فعلاً حقيقياً؟”.

كان قد اعتقد أنّ ذلك ممكن. وعندما مضى في كتابة مسرحية “حفلة سمر من أجل ٥ حزيران”، فقد غمره إحساسٌ بالتوازن. يشرح ذلك بقوله: “كنتُ فقط أتصوّر، وغالباً بانفعالٍ حسّي حقيقي، أنني أعرّي واقع الهزيمة. أمزّق الأقنعة عن صانعيها في سياق هبّة جماهيرية، تبدأ مضطربة ومرتجلة، ثم تتّسق وتنمو حتى تضمّنا في فورة عمل فعلي، مظاهرة، أو انتفاضة شعبية حقيقية. كان الإيقاع يتصاعد، ويتحقق الفعل المؤكد”.

مُنِعَت المسرحية بادئ الأمر، ثم عُرِضت بعد وقت، وكان الرجل قد تهيّأ للخيبة. ومع هذا كلّه، كان يحسّ مذاق المرارة يتجدّد كل مساء في داخله.

كانت خيبة الرجل تتجسّد على النحو التالي: “ينتهي تصفيق الختام، ثم يخرج الناس كما يخرجون من أيّ عرضٍ مسرحي، يتهامسون، أو يضحكون، أو ينثرون كلمات الإعجاب. ثم ماذا؟ لا شيء آخر، أبداً لا شيء. لا الصالة انفجرت في مظاهرة، ولا هؤلاء الذين يرتقون درجات المسرح ينوون أن يفعلوا شيئاً ما، إذ يلتقطهم هواء الليل البارد، حيث تعشش الهزيمة وتتولد”.

يصرّح ونوس بعد ذلك. يعلن الهزيمة الكاملة، ويعترف بالخيبة، التي أصابته بفعل فاعل؛ فاعل كان فعله ببساطة أنه لم يفعل شيئاً:

“الكلمة كلمة، المسرح مسرح، وإنّ الكلمة ليست فعلاً، وإنّ المسرح ليس بؤرة انتفاضة. كان الاستنتاج مخيباً ومرّاً، وكان الحلم ينأى منطوياً في سرابٍ ووهم. نعم، تبدد الحلم وانطوى”.

هذا الاعتراف بالهزيمة، هو الذي أتخيّله قتل الرجل. كان الحلم أقوى من السرطان، الحلم بالثورة التي تولد وتكبر في المسرح، وانتشر الحلم كما الجرثومة عبر أنحاء الجسد. تمركز في القلب، في الدماغ، وكان الورم الذي يكبر معه، الورم المزروع زرعاً بالأيادي التي تصفّق ولا تهتف، والأقدام التي تخرج من المسرح ببطء، ولا تصطف، الساق لصق الساق، كان هذا الورم هو خيبة الرجل.

ملاحظة

الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.