وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الهجمات الإرهابية والتساؤلات المطروحة على ولاء مسلمي فرنسا للجمهورية

الشرطة تمنع الوصول إلى كنيسة “نوتردام دو لاسومبسيون بازاليكا” في نيس يوم ٢٩ أكتوبر ٢٠٢٠، وذلك في أعقاب مقتل ثلاثة أشخاص في الكنيسة على يد رجل مسلّح بسكين. وأسفر الهجوم عن قطع عنق أحد الضحايا على الأقل، ما تعامل معه المسؤولون الرسميون باعتباره أحدث الهجمات الجهادية التي تهز هذه الدولة. Photo: Valery HACHE / AFP

نشر موقع “The Conversation” مقالة سلطت الضوء على الحوادث الإرهابية الأخيرة التي شهدتها فرنسا وما طرحته هذه الحوادث من تساؤلات كبيرة حول المسلمين الفرنسيين وما يواجهوه من اتهامات حول ولائهم للجمهورية الفرنسية. ويقوم صاحبا المقالة وهما غريغ بارتون، أستاذ كرسي السياسات الإسلامية العالمية بمعهد ألفريد ديكين للمواطنة والعولمة، وفتحي منصور، الأستاذ بجامعة ديكين، باستعراض ردود الفعل الداخلية والخارجية على هذه الهجمات وأثر ذلك على مستقبل المسلمين في فرنسا.

ويبدأ بارتون ومنصور مقالتهما بالإشارة إلى حادثة الطعن التي وقعت في مدينة نيس الفرنسية الأسبوع الماضي وأسفرت عن مقتل ثلاثة أشخاص. ووصف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هذا الهجوم بـ “هجوم إرهابي إسلاموي”، وهو ما بتنا نشعر وكأنه أمراً مألوفاً رأيناه من قبل.

إذ يتربص وسط حزننا من الطريقة البشعة التي سُلبت بها أرواح الأبرياء نذير شؤمٍ حول ما يوشك على الوقوع استناداً إلى ما حدث مراراً وتكراراً من قبل.

وعانى الشعب الفرنسي من شن العديد من الهجمات الإرهابية خلال العقود الأخيرة. ولم يقتصر الأمر على حالة العنف الفظيعة التي ارتبطت بصعود تنظيم “الدولة الإسلامية”، ولكن أيضاً سلسلة لا نهاية لها من الهجمات تعود بدايتها إلى تفجير قطار ستراسبورغ-باريس في يونيو 1961، ما أسفر حينها عن مقتل 28 شخصاً.

بيد أن صعود نجم تنظيم “الدولة الإسلامية” عام ٢٠١٤ أدى إلى ظهور نوع جديد من الهجمات الإرهابية في فرنسا. إذ ظهرت البنادق الآلية في الهجوم على صحيفة “شارلي إبدو” وفي حصار سوبرماركت كوشر في يناير 2015 وفي الهجوم على مسرح “باتاكلون” في نوفمبر من العام نفسه.

لكن أكثر الهجمات ترويعاً، من عدة جوانب، كان الهجوم المنفرد الذي شنّه سائق شاحنة في مدينة نيس في 14 يونيو 2016 عندما دهس مئات الأشخاص الذين اجتمعوا للاحتفال بيوم الباستيل على كورنيش المدينة، ليسفر الهجوم حينها عن وقوع 86 قتيلاً وما يزيد عن 400 جريحاً.

أما مسلمو فرنسا البالغ عددهم 6 ملايين فيزداد حزنهم الحالي بالخوف والقلق.

وقد كان ذبح المدرّس صمويل باتي حسن النية في 16 أكتوبر الماضي، والهجوم المماثل على سيدة مسنة واثنين آخرين في كنيسة نوتردام في نيس بعدها بأسبوعين من أعمال العنف المقصود منها إثارة الغضب.

لقد كانت بربرية متعمدة هدفها تقسيم فرنسا وشعبها.

ماكرون يستهدف الإسلامويين

في استطلاع رأي أُجري بعد مقتل المدرّس باتي، أعرب 79% من المشاركين عن شعورهم بأن “الإسلاموية قد أعلنت الحرب” على فرنسا والجمهورية الفرنسية. ورأت نسبة أعلى أن نهج فرنسا العلماني الصارم بات مهدداً.

وفي مجتمعٍ يعيش فيه مهاجر واحد على الأقل من بين كل عشرة أشخاص، فإن كونك فرنسياً يعني أن تتصرف كفرنسي، وتعني فيه العلمانية ألّا وجود لمساحة تعبير في الحياة العامة عن الهوية الدينية أو الالتزام الديني باستثناء الكاثوليكية الفرنسية.

وكلّ هجوم إرهابي إسلاموي يثير موجة جديدة من الاستجواب العام لمسلمي فرنسا عن ولائهم للجمهورية وقيَمها.

French Republican Guard
أحد عناصر الحرس الجمهوري وهو يحمل صورة سامويل باتي أثناء فعالية وطنية تم عقدها لتأبينه. المصدر: Francois Mori / POOL/ EPA.

ولذلك سعى المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية إلى إزالة أي شك حول موقف المسلمين الفرنسيين بعد مقتل باتي: “يذكّرنا الاغتيال الشنيع… بالآفات التي تميّز واقعنا للأسف من تفشٍ للتطرف والعنف والإرهاب بدعوى الإسلام، وهو ما يؤدي إلى وقوع ضحايا من كل الأعمار والفئات والمعتقدات”.

من جانبه، أعرب ماكرون عن مشاعر مماثلة في خطابه المؤثر في الجنازة الوطنية التي تم تنظيمها لتأبين باتي، إذ قال: “لقد قُتل صمويل باتي لأن الإسلامويين يريدون الاستيلاء على مستقبلنا، ولأنهم يعلمون أنهم لن يحصلوا على مرادهم أبداً بوجود أبطال صادقين من أمثاله. إنهم يفرقون بين المؤمنين والكافرين”.

مسلمو فرنسا في مأزق

رغم توافق ما قاله ماكرون مع ما تؤمن به الأغلبية العظمى من المواطنين الفرنسيين (المسلمون منهم وغير المسلمين على حدٍّ سواء)، فإن كلمات الرئيس الفرنسي تضع للأسف مسلمي فرنسا في مأزق. فهم لا يستطيعوا أن يكونوا فرنسيين بما فيه الكفاية مهما حاولوا إلا إذا تركوا الإسلام، في المجال العام على الأقل، وولّوا ظهورهم لما يؤمنون به.

وعلى الفور، ندد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بماكرون وتساءل عن صحته العقلية، وكذلك فعل رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان لكن بتغريدة أكثر رزانة كتب فيها التالي: “كان الوقت مناسباً ليضفي الرئيس ماكرون لمسة مداواة ويحرم المتطرفين من استغلال الموقف بدلاً من خلق مزيد من الاستقطاب والتهميش الذي يؤدي حتماً إلى التطرف”.

أما رئيس وزراء ماليزيا الأسبق مهاتير محمد فلم يحاول الاقتراب من الاعتدال عندما غرّد باستفزاز التالي: “للمسلمين الحق في أن يشعروا بالغضب وأن يقتلوا ملايين الفرنسيين رداً على مجازر الماضي”.

pakistan France
تجار باكستانيون يحرقون العلم الفرنسي في إحدى الاحتجاجات. المصدر: Muhammad Sajjad/AP.

وفي الوقت الذي أدلى فيه إردوغان وعمران خان بتصريحيهما، فإنهما كانا يشخصان بناظريهما على السياسة الداخلية لبلديهما. أما مهاتير محمد، صاحب التاريخ الطويل من التصريحات الاستفزازية، فيبدو أنه كان يحاول جذب الانتباه فحسب غير مبالٍ باللعب بالنار.

وفي سياق ردود الفعل على الهجمات الإرهابية في فرنسا، ردّد رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو كلمات قادة المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، قائلاً: “هذه أعمال إجرامية شنيعة وظالمة بكل الأحوال، وإهانة لقيَمنا كافة. المجرمون والإرهابيون والقتلة بدم بارد الذين نفّذوا هذه الهجمات لا يمثلون الإسلام. لا يمكنهم أن يعبّروا عن الإسلام في فرنسا ولا كندا ولا أي مكان في العالم”.

يدرك ترودو الذي يتحدث بالفرنسية طبيعة فرنسا جيداً، لكنه يدرك كذلك التعددية الثقافية التي تتسم بها مجتمعات المهاجرين مثل كندا على خلاف ماكرون.

فرغم أنه يقود مجتمعاً جعلته الهجرة تعددياً في أعماقه، فإن الأمة الفرنسية تصارع ممارسة التعددية ولغتها.

في المقابل، تتمتع التعددية الثقافية في كندا والولايات المتحدة وأستراليا ونيوزيلندا بهامشٍ أكبر من الحرية. ولهذه البلدان نمط من الوحدة الوطنية يتيح التعبير العلني عن الاختلاف.

تطرف في مواجهة تطرف

بعد ساعات من هجوم مدينة نيس، قتلت الشرطة رجلاً في مدينة أفينيون كان يهدد صاحب متجر من شمال أفريقيا بعدما رفض إلقاء سلاحه.

وظهر المهاجم مرتدياً سترة كتب عليها “الدفاع عن أوروبا” وهو شعار جماعة “جيل الهوية” اليمينية المتطرفة والمعادية للمهاجرين. وتتبنى هذه الجماعة نفس الأفكار التآمرية عن “الاستبدال الكبير” من المسلمين للمسيحيين البيض، وهي فكرة تبناها الأسترالي الذي قتل 51 مسلماً في هجومه على مساجد في مدينة كرايست تشيرش النيوزيلندية.

شبح المواجهة بين المتطرفين وتصاعد دوائر العنف هو آخر ما تتمناه فرنسا وهي مقبلة على إغلاق جديد بسبب الموجة الثانية من فيروس كورونا، في ظل معاناة اقتصادها ومخاوف مواطنيها وقلقهم.

ويرى صاحبا المقالة أن هذه الفترة عصيبة الطابع على أي فرنسي، لكنها أصعب ما يكون إذا ما كان المرء مسلماً فرنسياً.

ويختم بارتون ومنصور مقالتهما بالتالي: “يدرك ماكرون هذا، وهو يقرّ بالعقبات التي تمثّلها نسب البطالة العالية بين الشباب الفرنسي بشكل عام والشباب المسلم بشكل خاص، وهو يقرّ بالمشكلة العميقة للعنصرية المنهجية والتعصب الأعمى. وحتى الآن، ما يزال عالقاً هو والأمة الفرنسية في مسارٍ يحفّهم فيه تأطيرٌ هوياتي متصدع وحصر ضيق للانتماء لا داعي له، مكررين بذلك أخطاء الماضي بلا نهاية. إنه بالتأكيد أمر رأيناه من قبل”.

“الآراء الواردة في هذه المقالة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر فنك”.