وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الجهاد العالمي, كيفية النمو

المجاهدون في العصر السوفيتي

برزت ظاهرة الجهاد العالمي في العصر الحديث في سبعينيات القرن المنصرم، وذلك مع بدايات الغزو السوفيتي لأفغانستان. نُظر إلى الأمر حينها على أنه غزو “شيوعي” لبلد “مسلم”، في زمن شكلت فيه الشيوعية العدو الأيديولوجي الأول للإسلام، مما استفز مشاعر الكثير من المسلمين في شتى أنحاء المعمورة، وأدى إلى توافد الآلاف منهم من كل مكان إلى أفغانستان للمشاركة في تحريرها.

كانت الحرب الباردة على أشدها، وكان للغرب ـ وعلى رأسه الولايات المتحدة ـ مصلحة كبرى في تقويض نفوذ الاتحاد السوفيتي في آسيا دون الدخول في مواجهة مباشرة معه، فقامت الولايات المتحدة بتسهيل ودعم عمليات التجنيد والتمويل والتسليح والتدريب للمتطوعين. وشكلت دول الخليج العربي الخزان الأكبر للأفراد والتبرعات العينية دعماً للقتال في أفغانستان، وكان كل ذلك تحت شعار “الجهاد” ذوداً عن حياض المسلمين.

ويعتبر “الجهاد” أو “الجهاد في سبيل الله” أحد أهم مفاهيم الديانة الإسلامية، وهو بحسب الشريعة الإسلامية يعني جميع الأفعال والأقوال التي تتم لنشر الإسلام أو للدفاع عن أرواح أو أموال أو أراضي أو أعراض المسلمين في حال تعرضها للعدوان، كما يدخل الامتناع عن إرضاء الشهوات المحرمة ـ خاصة في حال وجود الإغراء ـ ضمن معاني الجهاد.

جماعات وأهداف جديدة

تحررت أفغانستان من قبضة الاتحاد السوفيتي في أواسط العام 1987، فما كان من المجموعات الجهادية التي تشكلت هناك إلا أن بدأت بإعادة ترتيب صفوفها، ومع حلول العام 1988 قام كل من أسامة بن لادن وعبد الله عزام بالتأسيس لتنظيم “قاعدة الجهاد” أو ما بات يعرف اليوم اختصاراً بتنظيم بالقاعدة، وبعد نحو عام من ذلك جرى الإعلان عن “الجبهة العالمية الإسلامية للجهاد ضد اليهود والصليبيين” بترتيب من تنظيم القاعدة، وفي خطوة أوضحت تحولاً جذرياً في بوصلة جهاديي أفغانستان.

لم يعد السوفييت وحدهم مستهدفين، فقد توسع بنك أهداف الجهاديين ليشمل الغرب ومصالحه والأنظمة المتعاملة معه، كما شكل ذلك تحولاً في هيكلية العمل الجهادي من مجموعات متمركزة في بلد واحد (وهو أفغانستان) إلى فكر وعمل عابر للقارات يعتمد على خلايا سرية تتواجد في شتى أصقاع الأرض.

أخذ الفكر الجهادي ينتشر انتشار النار في الهشيم في مناطق شتى، وشرعت المجموعات الجهادية ـ سواء المرتبطة منها بالقاعدة أو التي تحمل أجندتها الخاصة ـ تظهر في كل مكان من العالم، فتشكلت فروع محلية لها في دول الخليج (قاعدة الجهاد في جزيرة العرب) والمغرب العربي (قاعدة الجهاد في المغرب الإسلامي) والعراق (قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين)، ومؤخراً (الدولة الإسلامية في العراق والشام) و(جبهة النصرة لأهل الشام)، إلى جانب مجموعات مماثلة في الصومال والفيليبين وكشمير والشيشان واندونيسيا وغيرها.

بدأت تلك التنظيمات بشن هجمات تستهدف مصالح الغرب ومصالح الأنظمة المتعاملة معه من مؤسسات وأفراد على نحو دموي أثار قلق العالم بأسره، وجاءت هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) في العام 2001 بمثابة نداء استفاقة، إذ نجح تنظيم القاعدة بضرب عمق الولايات المتحدة في مشهد هز العالم بأسره.

أسباب النمو

شكل ذلك علامة فارقة في التاريخ الحديث، فالعالم منذ ذلك اليوم لا يشبه بشيء العالم قبله. جرى تعديل القوانين وشُنت الحروب وجرى تبني مئات الإجراءات وفرض آلاف القيود. لكن رغم الجهود والميزانيات الضخمة التي كرستها الدول الغربية وغيرها في محاربة “الإرهاب”، لم تنجح تلك الدول قط في بتر دابر الأيديولوجيا الجهادية. وما زال الجهاد العالمي حاضراً بفكره وأنشطته بعد سنوات طويلة من الجهود الدولية للقضاء عليه.

وبحسب الباحث في مركز الإمارات للدراسات السياسية والإستراتيجية محمد برهومة فإن “جماعات الجهاد العالمي تقوم بتوظيف القرآن والسنة النبوية في تبريراتها وفتاواها، وتقدم نفسها كقوة قادرة على هزيمة الأنظمة مما يلامس حاجة نفسية لدى شرائح معينة من الجمهور المستهدف الذي يعاني غضبا وتهميشا وفراغا ناجما عن الشعور بالانكسار الناشئ عن الصعوبات المعيشية، الأمر الذي يحيل فكرة الخلاص مدخلا أساسيا في استراتيجيات التجنيد من قبل الجماعات الجهادية”. كما يعزو برهومة استمرار الانجرار وراء الفكر الجهادي إلى انحسار الطبقة الوسطى في كثير من مجتمعات الشرق الأوسط.

ويقترح ثلة من المحللين أن خطاب استعداء الغرب الذي تبنته كثير من أنظمة الدول ذات الأغلبية المسلمة والقائل بأن “الدول الغربية تنهب خيرات المسلمين وتدعم إسرائيل في احتلالها لمقدساتهم” كان له أثر واسع في تغذية الفكر الجهادي، إذ زرع في الأذهان أن المسلمين في حالة استهداف دائم ويجب أن يقوموا بأي شيء للدفاع عن أنفسهم. ويرى الباحث السياسي فاضل الخطيب أن “الديكتاتوريات ساعدت هذا النهج كموقف سياسي وفكري على حساب المعارضة الوطنية، فالتعصب الإسلامي المتطرف موجود في دول مختلفة، وحتى في داخل الدولة الواحدة يمكن أن نجد له أشكال عدة”.

وفي نفس الوقت يلقي معظم الباحثين بجل اللوم فيما يخص انتشار الجهاد العالمي العنفي واستمراره على الأفكار التي أسس لها رجال دين متطرفين ذوي كاريزما من أمثال رجل الدين المصري سيد قطب في كتابه “معالم في الطريق”، وعلى ديمومة التفاسير التي وضعها هؤلاء لشواهد معينة من القرآن والحديث والسيرة النبوية.

وقد شكلت حالات الفوضى التي أعقبت الربيع العربي مرتعاً للجماعات الجهادية، خاصة أن بعض الصراعات الدائرة والتي نجمت عنه اتسمت بالطائفية والتعصب الديني. ويقول برهومة أن “فكرة التنظيمات الجهادية المسلحة ترتكز علي فشل الدول وهشاشة المجتمعات، وهي لا تعيش ولا تترعرع في ظل أنظمة معتدلة سياسياً أو غير قمعية أو غير دموية”.

ويقترح الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية سالم النعيمي أن “الأوضاع والمعطيات السياسية الدولية شكلت عاملاً مهماً في ظهور الجهاد العالمي، وهو مفهوم إرهابي يعتمد على العزلة الحضارية بين الشعوب من خلال خطف الدين كرهينة قابلة للمفاوضة لإحداث التوازن المفقود بعيداً على القانون والتشريعات الدولية.”

ويشرح النعيمي أن الجهاديين يقتنعون بأنهم “الفئة المنصورة” حتى وإن هم لاقوا حتفهم، فالنصر من منظورهم هو “الظفر بالنعيم” بعد الموت، بكل ما ينطوي عليه ذلك من مُتع يصورها لهم رجال الدين من دعاة الجهاد. “فالأمر هو في الحقيقة عملية خلاص روحي وتوبة متوهمة يفقد فيها الشخص إنسانيته لتركيزه على ديمومة المصير في جنة الخلد، فالرحلة الحياتية نفسها ليس لها معنى، ولذلك يعطي نفسه الحق المطلق في أن يقتل ويخطف ويخرب ضمن خطة القدر التي يؤمن بها، فالتضحية ضرورة للفت نظر العالم لقضية ما، أو الدفاع عنها وهو أمر في غاية التعقيد”.

مجاهدون من أوروبا

لكن تعليل استمرار الفكر الجهادي بالعوامل الاجتماعية أو الاقتصادية أو حتى الأيديولوجية لا يشرح انخراط الآلاف من مسلمي أوربا في الجهاد العالمي. تشير الدراسات إلى أن نحو 3000 أوربي غادروا إلى سورية والعراق ـ حتى الآن ـ للانضمام لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) والذي يعد أحدث وأكبر تجليات الفكر الجهادي في الوقت الراهن. وقد سبق هؤلاء المئات من مسلمي أوربا الذين شاركوا في الجهاد في أفغانستان والعراق ومناطق أخرى، إلى جانب كثيرين ممن قاموا بأعمال جهادية على الأراضي الأوربية نفسها لصالح تنظيمات جهادية كالقاعدة وغيرها.

وحسب عدد من الدراسات فإن معظم الأوربيين الذين شاركوا أو يشاركون حالياً في العمل الجهادي ينتمون إلى الطبقة الوسطى، وتثبت الأمثلة أن جلهم لم يعان من العزلة في مجتمعه الأوربي، ولم يكن حتى متديناً أو عارفاً بالدين الإسلامي كما يجب.

يشرح المحلل رافايللو بانتوتشي من معهد الخدمات الملكية المتحدة في بريطانيا أن الشعور بالضياع والافتقار إلى الاهتمام بشيء ما في الحياة قد يكون السبب الأبرز لتبني أعداد من الشباب المسلم في أوربا الفكر الجهادي: “ينجرف بعض الأشخاص لعدم وجود شيء مثير للاهتمام في حياتهم”. فالرابطة الأخوية التي تجمع الجهاديين والإثارة التي يحملها السلاح والقتال تشكل عوامل جذب قوية للشبان الأوربيين الذي يقومون بأعمال مملة لا مجال فيها للنمو المهني. ويضيف آخرون أن سهولة الوصول إلى الفكر الجهادي من خلال شبكة الإنترنت والمواقع الجهادية يعتبر أيضاً عاملاً مهماً في انجراف مسلمي أوربا إلى هذا النفق.
ويرى النعيمي الحل لهذه المعضلة في العمل من أجل تحقيق عدالة اجتماعية واقتصادية واقعية، وقياس وتتبع الظواهر الدينية والفكرية والأنماط الاجتماعية السائدة ومعالجتها بمشاركة كل أفراد المجتمع ومواجهة خطاب المظلومية وتحليل جذوره للقضاء عليه”.

ويجمع العديد من الباحثين أن ثمة حاجة إلى الشجاعة في مراجعة الموروث الديني الإسلامي فيما يتعلق بمفهوم الجهاد، خاصة ما وقع منه في أخطاء لا تغتفر في فهمه وتفسيره، إذ يرى النعيمي أنه “قد حان الوقت لكسر قيود معصومية تفسير النصوص السماوية والتشريعات الدينية وربطها بالعلم قدر المستطاع لإيجاد حلول ناجعة لتحديات لا ينفع معها أنصاف الحلول”.

Advertisement
Fanack Water Palestine