وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

العرب والحرب الأوكرانيّة: حسابات الاقتصاد والسياسة

العرب والحرب الأوكرانيّة
صورة تم التقاطها يوم ٢ مارس ٢٠٢٢ لجنود من القوات العسكرية الأوكرانية وهم ينتظرون في مواقعهم في منطقة لوهانسك. المصدر: Anatolii Stepanov / AFP.

علي نورالدين

لم تفهم الدول الغربيّة الموقف الخجول لحلفائها العرب تجاه الحرب الدائرة الأوكرانيّة، وبالأخص حلفائها في مصر والخليج العربي، الأكثر تأثيرًا على الموقف الرسمي لجامعة الدول العربيّة. موقف الجامعة الرسمي، اكتفى بإبداء الرغبة بتقديم المساعدة وتنسيق الجهد لمساعدة الجاليات العربيّة في أوكرانيا، مع الحرص على تأكيد الجامعة حيادها وعدم لوم أو إدانة أي طرف، نظرًا لوجود علاقة “صداقة ومصالح مشتركة تربط الدول العربيّة بكل من روسيا وأوكرانيا”. في خلاصة الأمر، لم يذهب البيان الرسمي الصادر عن مجلس الجامعة أبعد من الدعوة إلى حل الأزمة عبر “الحوار والدبلوماسيّة”، وطلب “احترام مبادئ القانون الدولي والتهدئة وضبط النفس”.

في مجلس الأمن، جاء الموقف الصادم من دولة الإمارات العربيّة المتحدة، التي امتنعت –إلى جانب الهند والصين- عن التصويت على مشروع قرار اقترحته الولايات المتحدة، يقضي برفض الهجوم العسكري الروسي على أوكرانيا. ورغم أن القرار سقط بفعل استخدام روسيا حق النقض في وجهه، كان الموقف الإماراتي مجرّد تعبير رمزي عن تردّد الدول الخليجيّة في الوقوف إلى جانب حلفائها الغربيين في المعركة الدبلوماسيّة ضد روسيا. وفي مكانٍ آخر، كانت السعوديّة تذهب إلى تحييد نفسها عن تبعات الحرب بقرارات عمليّة ومؤثّرة، تتجاوز الموقف الرمزي، عبر الإصرار على عدم تلبية الطلب الأميركي بزيادة إنتاجها من النفط، بالرغم من ارتفاع أسعار المحروقات عالميًّا إلى أعلى مستوياتها منذ سبع سنوات، نتيجة الحرب الأوكرانيّة.

وبهذا الموقف، كانت السعوديّة تتمسّك –بعكس المطالب الأميركيّة- باتفاقها السابق مع روسيا في إطار مجموعة “أوبك+”، المتعلّق بكميات النفط التي تضخها دول المجموعة في الأسواق. وكما هو معلوم، سيؤدّي التمسّك السعودي بكميات إنتاج النفط السابقة، وعدم زيادتها، إلى استمرار الزيادات في سعر برميل النفط نتيجة الحرب الدائرة، وبالتالي استمرار الضغط الذي تمثّله هذه الأسعار على اقتصادات الدول الصناعيّة الغربيّة. وبذلك، كان الموقف السعودي يعني من الناحية العمليّة عدم سحب سلاح أسعار النفط من يد روسيا، كما اشتهت الولايات المتحدة.

على هذا النحو، جاءت مواقف معظم سائر الدول العربيّة التي نأت بنفسها عن تبعات هذه الحرب أو تطوّراتها. مصر، لم تذهب أبعد من طلب تغليب لغة الحوار والحلول الدبلوماسيّة، التي من شأنها تسهيل تسوية الأزمة سياسيًّا، فيما تميّز الموقف الرسمي المصري برفض العقوبات الاقتصاديّة التي تم فرضها على روسيا. وحتّى المملكة الأردنيّة، التي تُعتبر من حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، اكتفت في تعليقاتها الرسميّة بالتشديد على أهميّة بذل الجهود لضبط النفس، وخفض حدّة التصعيد، وتسوية النزاع بالطرق السلميّة. أمّا قطر، فوازنت في حديثها عن الأزمة بين الحديث على احترام سيادة أوكرانيا على أراضيها، وإبداء الحياد بين الطرفين من خلال التركيز على حلّ الخلاف بالطرق الدبلوماسيّة، فيما حرص وزير الخارجيّة القطري على الاتصال بالطرفين لتظهير الموقف القطري المتوازن بين الطرفين.

باختصار، لم تخرج المواقف العربيّة عن إطار الحذر والابتعاد عن التورّط في مواقف حادّة، مع استثناءات قليلة كسوريا التي ذهبت بعيدًا في التضامن مع روسيا في حربها، إلى حد التصويت في الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة ضد مشروع قرار يطالب روسيا بالتوقّف عن استخدام القوّة ضد أوكرانيا. مع الإشارة إلى أن عدد الدول التي صوّتت ضد هذا القرار لم يتجاوز الخمس دول فقط، بينها روسيا وسوريا، في مقابل تصويت 141 دولة مع القرار، وامتناع 35 دولة عن التصويت. وعلى أي حال، كان من الواضح أن إشادة الرئيس السوري بشار الأسد بالعمليّة العسكريّة الروسيّة، والتي ذهبت إلى حدود اعتبار العمليّة “تصحيحًا للتاريخ”، مرتبطة بالدعم العسكري الروسي لنظام الأسد، وباعتماد النظام السوري على هذا الدعم للاستمرار.

في المقابل، جاءت أقسى المواقف العربيّة المنددة بالعمليّة العسكريّة الروسيّة من جانب ليبيا، التي نددت حكومة الوحدة الوطنيّة فيها بالهجوم الروسي، معتبرةً العمليّة انتهاك للقانون الدولي. وعمليًا، بدا أن حكومة الوحدة الوطنيّة الليبيّة تأخذ بعين الاعتبار في موقفها حاجتها الماسّة للدعم الغربي للاستمرار في عملها وبسط سلطتها، وبإمكانيّة طرح ليبيا كمصدر بديل للغاز الطبيعي لتأمين حاجة السوق الأوروبيّة، بعد تعليق مشروع “نورد ستريم 2” الذي كان يُفترض أن يمد السوق الأوروبيّة بالغاز الروسي. مع الإشارة إلى أنّ وزارة الخارجيّة اللبنانيّة أخذت موقف شبيه يدين التدخّل العسكري الروسي بشكل صريح، لكنّ البيان أحدث انقسام داخل الحكومة اللبنانيّة حول الموقف الرسمي الذي يفترض أن يتبنّاه لبنان.

هكذا، وباستثناء بعض الحالات التي ترتبط بحسابات سياسيّة واضحة، التزمت الدول العربيّة الحذر والتحفّظ الهادئ في مواقفها اتجاه الحرب في أوكرانيا، ما دفع البعض إلى الاعتقاد أن بعض الدول العربيّة، وخصوصًا الإمارات العربيّة المتحدة، عقدت صفقة مع روسيا لخذلان شركائها الغربيين. ورغم أن معظم الدول العربيّة، وجميع الدول الخليجيّة، عادت وصوّتت مع قرار مطالبة روسيا بوقف العمليّات العسكريّة في الهيئة العامّة للأمم المتحدة، بعد امتناع الإمارات عن التصويت في مجلس الأمن الدولي، ظلّت المواقف الرسميّة توحي بانتهاج الغالبيّة الساحقة من الدول العربيّة الحياد بين الأطراف المتنازعة. مع الإشارة إلى أن هذا النهج ظهر أيضًا من خلال ابتعاد الدول العربيّة، وخصوصًا دول الخليج المؤثّرة ماليّة، عن الاندفاع خلف موجة العقوبات الاقتصاديّة التي بدأ الغرب بفرضها على روسيا، ما زاد من شعور المسؤوليين الغربيين بالخذلان من جانب حلفائهم العرب.

في واقع الأمر، لا يمكن تفسير هذا التحفّظ من جانب معظم الدول العربيّة بعيدًا عن حسابات المال والاقتصاد والسياسة. فدول الخليج تلمّست باكرًا الفرص والمنافع الاقتصاديّة التي يقدّمها لها النزاع العسكري الأوكراني الروسي، وخصوصًا من جهة ارتفاع سعر النفط وزيادة الطلب على الغاز المُسال، وهو ما دفع دول كالسعوديّة للابتعاد عن محاولة إنقاذ الشركاء الغربيين بخطوات يمكن أن تلجم ارتفاع سعر النفط الخام. في المقابل، كان من الواضح أن ثمّة دول أخرى، كمصر والأردن، تلمّست باكرًا خطورة النزاع على مصالحها الاقتصاديّة، وخصوصًا من جهة خطوط إمداد القمح والغذاء من روسيا وأوكرانيا معًا، وهو ما دفعها للضغط باتجاه الحلول السلميّة والدبلوماسيّة، دون التورّط في تأجيج المواجهة مع أي من الطرفين. وأخيرًا، ارتبطت هذه التطورات بمقايضة المواقف داخل مجلس الأمن، كما حصل بين الإمارات التي امتنعت في المجلس عن التصويت ضد روسيا، وروسيا التي صوّتت على قرار المجلس القاضي بفرض حظر للسلاح على الحوثيين.

الخليج: فرص السياسة والمال

أجّجت الحرب في أوكرانيا مخاوف أسواق المال الدوليّة، ما أطلق عنان ارتفاع مفاجئ وسريع في أسعار النفط والغاز. لغاية يوم الخميس 3 آذار/مارس، كان سعر برميل خام غرب تكساس الأميركي قد ارتفع إلى حدود 110.3 دولار للبرميل، وهو مستوى قياسي لم يسبق أن تم تسجيله منذ العام 2013. أمّا سعر برميل نفط برنت، فارتفع ليلامس ال111.44 دولار للبرميل، ما مثّل بدوره مستوى قياسيا غير مسبوق منذ العام 2014. في المقابل، شهدت أسعار الغاز تقلّبات لم تقل قسوة عن تقلّبات سعر النفط الخام، مع ارتفاع سعر غالون الغاز الطبيعي إلى حدود ال3.52 دولار للغالون، بزيادة بنحو 21 سنتًا عن سعر الغالون خلال الشهر الماضي، وبنحو 90 سنتًا عن سعر الغالون خلال العام الماضي. مع الإشارة إلى أن ارتفاع أسعار الغاز في السوق العالميّة مثّلت الإشارة الأكثر حساسيّة، لجهة ارتباط السوق الأوروبي بواردات الغاز الروسي، وتزامن الحرب في أوكرانيا مع ارتفاع الطلب على الغاز خلال فصل الشتاء.

بالنسبة إلى دول الخليج، لم يعنِ هذا التطوّر سوى ارتفاع واردات من بيع النفط والغاز في الأسواق العالميّة، وتعويم ميزانيّاتها التي تعاني من ثقل الديون التي تراكمت خلال فترات انخفاض سعر برميل النفط سنة 2020. ومن هذه الزاوية بالتحديد، يمكن فهم الموقف السعودي الذي رفض التدخّل وزيادة معدلات الإنتاج، بما يتجاوز اتفاق المملكة مع روسيا في إطار مجموعة “أوبك+”، رغم جميع الضغوط الأميركيّة التي حاولت إقناع السعوديين بزيادة معدلات الإنتاج. فزيادة معدلات الإنتاج، كما تطلب الولايات المتحدة الأميركيّة، سيعني ببساطة كبح زيادة الأسعار التي تستفيد منها حاليًّا دول الخليج بالذات.

مع الإشارة إلى أن دول الخليج تلقّفت أيضًا خبر تعليق العمل بخطوط غاز نورد ستريم 2، التي كان من المفترض أن تغذّي السوق الأوروبيّة بالغاز الروسي. وهذا التطوّر عنى بالنسبة إلى الدول الخليجيّة، وخصوصًا قطر، زيادة اعتماد السوق الأوروبيّة في المستقبل على الغاز المُسال المنتج في الدول العربيّة، بدل اعتمادها على الغاز الروسي. وزيادة اعتماد الأسواق الأوروبيّة على الغاز العربي المُسال لن تعني فقط زيادة عوائد الدول الخليجيّة من تصديره، بل زيادة القوّة التفاوضيّة التي تملكها دول الخليج العربي في وجه شركائها الغربيين. بمعنى آخر، جاءت التطوّرات في أوكرانيا لتفتح فرصا ماليّة وسياسيّة في الوقت نفسه أمام الدول الخليجيّة.

لكن الدول الخليجيّة وجدت في الوقت نفسه فرصا سياسيّة بالغة الأهميّة في النزاع الدائر في أوكرانيا. فالإمارات العربيّة المتحدة التي امتنعت عن التصويت في مجلس الأمن إلى جانب الولايات المتحدة ضد روسيا، تمكّنت في المقابل من حصد الصوت الروسي إلى جانبها، في القرار المتعلّق بحظر السلاح للحوثيين. بمعنى آخر، كانت الإمارات قادرة على استثمار الأزمة سياسيًّا لمصلحتها، من خلال مقايضة الصوت الروسي ضد الحوثيين في الملف اليمني، بامتناعها عن التصويت ضد روسيا في الملف الأوكراني. مع العلم أن كسب صوت روسيا في التصويت على قرار حظر السلاح عن الحوثيين يتسم بأهميّة استثنائيّة بالنسبة إلى الإمارات، بالنظر إلى امتلاك روسيا حق النقض في مجلس الأمن. أمّا روسيا، فوجدت في امتناع الإمارات عن التصويت دعما رمزيا بالغ الأهميّة، بالنظر إلى تكتّل الغالبيّة الساحقة من دول العالم ضدها في الملف الأوكراني.

حسابات دول الخليج لم تقتصر على الاستفادة اقتصاديًّا من الحرب في أوكرانيا، أو على عقدها بعض الصفقات الجانبيّة مع روسيا كما حصل في مجلس الأمن. فالدول الخليجيّة امتلكت مؤخرًا الكثير من المصالح الاقتصاديّة المتشعّبة التي دفعتها إلى تحييد نفسها عن هذا النزاع، والابتعاد عن اتخاذ أي موقف حاد اتجاه روسيا. على سبيل المثال، دخل صندوق الثروة السيادي وجهاز قطر للاستثمار خلال العام 2019 كشركاء في شركة “روسنفت” الروسيّة النفطيّة العملاقة، وباتا يمتلكان وحدهما نحو 19% من أسهم هذه الشركة. كما تمتلك قطر استثمارات أخرى بالغة الأهميّة في روسيا، مثل استحواذها على حصّة تتجاوز قيمتها ال500 مليون دولار في مصرف VTB، بالإضافة إلى حصّة تتجاوز ال25% من أسهم مطار بولكوفو.

أمّا الإمارات، فباتت تأخذ بعين الاعتبار أولويّات اقتصاديّة بالغة الأهميّة عن مقاربتها الملف الروسي، بعد أن ارتفعت قيمة تجارتها مع روسيا مؤخرًا بنحو 78%، مقارنةً بالعام 2019. في المقابل، من جهة السعوديّة، وبالإضافة إلى كل علاقاتها التجاريّة والاستثماريّة مع روسيا، ما زالت تعتبر روسيا شريك لا غنى عنه في قيادة مجموعة “أوبك+”، التي لعبت دورًا أساسيًا في هندسة سوق النفط العالميّة وتحديد معدلات الإنتاج، بما يتماشى مع مصالح الدول المصدّرة للنفط كروسيا والسعوديّة.

باختصار، لدى دول الخليج أسبابها لمهادنة روسيا والابتعاد عن إبداء المواقف الحادّة ضدها في ملف أوكرانيا، وخصوصًا من ناحية مصالحها الاقتصاديّة. كما لدى هذه الدول ما يكفي من صفقات جانبيّة، ومنافع اقتصاديّة، نتجت مؤخرًا عن اندلاع النزاع في أوكرانيا، وهو ما يفسّر اكتفاءها بموقف المتفرّج، دون إبداء الكثير من الاستعداد للتورّط في مساعدة الدول الغربيّة للضغط على روسيا. وأخيرًا، تفسّر المصالح الاقتصاديّة الخليجيّة في روسيا، وخصوصًا استثمارات قطر في قطاعي النفط والمصارف، الموقف القطري الذي شدّد على استنكار استعمال سلاح العقوبات الاقتصاديّة ضد روسيا، لكون هذه العقوبات ستمس في النهاية بالاستثمارات القطريّة.

الدول العربيّة وهواجس الغذاء

العرب والحرب الأوكرانيّة
صورة تم التقاطها يوم ٢٧ فبراير ٢٠٢٢ للخباز توفيق وهو يفحص رغيف خبز صنعه في منطقة المنزة بالعاصمة التونسية تونس. وقد يعني الغزو الروسي لأوكرانيا وجود عدد أقل من أرغفة الخبز على الموائد في مصر ولبنان واليمن وغيرها من الدول العربية التي يعاني فيها الملايين للحصول على قوت يومهم. وتعتمد تونس بنسبة ٦٠ بالمئة من استهلاكها الإجمالي للقمح على الواردات الأوكرانية والروسية، وذلك بحسب خبير وزارعة الزراعة عبد الحليم قمصي. المصدر: FETHI BELAID / AFP.

تتجاوز كميّة القمح الذي يتم تصديره إلى الأسواق العالميّة ال207 طن، منها نحو 17% من القمح الذي يتم تصديره من روسيا، و12% من القمح الذي يتم تصديره من أوكرانيا، ما يعني أن الدولتين تستحوذان معًا على نحو 29% من منتوج القمح الذي يتم تصديره إلى الأسواق. هذه المسألة بالتحديد، هي ما يفسّر الهلع الذي أدّى إلى ارتفاع أسعار القمح إلى أعلى مستوياتها منذ أكثر من عقد، وهو ما يفسّر أيضًا الخوف من انقطاع سلاسل توريد القمح إلى الدول العربيّة. ولهذا السبب بالتحديد، باتت الكثير من الدول العربيّة، كالأردن ومصر، تتحسّب لتأثيرات ارتفاع أسعار القمح العالميّة على أسعارها، ناهيك عن احتمالات انقطاع مخزون القمح المتوفّر لديها.

بالنسبة إلى مصر، النتيجة الفوريّة للنزاع المسلّح كانت ارتفاع أسعار طن القمح بنحو 1000 جينيه مصري، لتلامس حدود ال6500 جينيه للطن الواحد، أي بارتفاع تقارب نسبته ال18%. وهذا الارتفاع السريع في أسعار القمح العالميّة هو ما دفع الحكومة المصريّة إلى إلغاء مناقصتين لشراء القمح، لزيادة مخزون البلاد الاستراتيجي من القمح، نتيجة ارتفاع كلفة زيادة هذا المخزون على الخزينة المصريّة. لكن خشية مصر الفعليّة تكمن اليوم من أي انقطاع محتمل في سلاسل توريد القمح من روسيا أو أوكرانيا، نظرًا لاعتماد مصر على البلدين لتأمين أكثر من 80% من القمح الذي تستورده. وفي حال حصول سيناريو كهذا، فستواجه مصر معضلتين معًا: ارتفاع كلفة تأمين القمح أوّلًا، وصعوبة تأمينه من الأسواق الدوليّة ثانيًا. مع العلم أن ارتفاع كلفة استيراد القمح سيعني بالنسبة إلى دولة كمصر زيادة الضغط على ميزان مدفوعاتها، أي صافي التحويلات الماليّة بين مصر والخارج، ما سيؤثّر حتمًا على سعر صرف العملة المحليّة.

في المقابل، توجه الأردن المعضلة ذاتها، خصوصًا في ظل اعتمادها على الاستيراد لتأمين نحو 90% من حاجتها السنويّة للقمح. بالنسبة للأردن، التي تبلغ فاتورة الاستيراد فيها نحو 5 مليار دولار أميركي، أي ارتفاع في أسعار القمح العالميّة –كما حصل اليوم- سيعني زيادة الضغط على ميزان مدفوعات الدولة، وزيادة حاجتها للعملة الصعبة لاستيراد الغذاء. مع الإشارة إلى أن الأردن تحديدًا ينعم باحتياطي وازن من القمح يتجاوز ال1.3 مليون طن، ما يسمح بتأمين حاجة البلاد إلى القمح لأكثر من 15 شهر، وهو ما يعطي الكثير من المرونة للحكومة الأردنيّة في التعامل مع المسألة.

على أي حال، من الواضح أن الدول العربيّة التي نأت بنفسها عن المواقف المتشنّجة اتجاه النزاع، كمصر والأردن، امتلكت حساباتها المتعلّقة بالانصراف إلى الاهتمام بأمنها الغذائي، وهو ما دفعها إلى الضغط باتجاه حل الأزمة بالطرق الدبلوماسيّة والسلميّة. كما بدا واضحًا أن هذه الدول تحاول الحفاظ على علاقة متوازنة مع كل من روسيا وأوكرانيا، كي لا تتأثّر واردتها الغذائيّة بالاصطفاف الحاصل نتيجة هذا النزاع.

لكل هذه الأسباب، اجتمعت العوامل التي دفعت الدول الخليجيّة إلى اتخاذ موقفها المتوازن اتجاه روسيا وأوكرانيا، مع العوامل التي دفعت معظم الدول العربيّة الأخرى إلى الابتعاد عن المواقف المتشنّجة اتجاه هذا النزاع، وهو ما انعكس في الموقف المتحفّظ والهادئ الذي اتخذته جامعة الدول العربيّة. وباستثناء بعض الدول كسوريا وليبيا ولبنان، لم تذهب الدول العربيّة بعيدًا في التضامن مع الغرب في وجه الاجتياح الروسي لأوكرانيا، في ترجمة عمليّة للتوازنات السياسيّة والاقتصاديّة التي تحكم مواقف هذه الدول.