وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

مصر والسودان وإثيوبيا، صراعٌ على النيل الأزرق

إضغط للتكبير. @ Fanack

تنشغل مصر اليوم بمفردها بمحنتها الوجودية المتمثلة في سد النهضة الاثيوبي الذي تعتبره خطراً داهماً وأكثر الحاحاً من كل التهديدات الأخرى التي تواجه الأمن القومي المصري، خاصة وأنه ليس بيدها الكثير مما يمكن أن تفعله لدفع هذا الخطر الماحق إلا بالوسائل الدبلوماسية التي تستغرق وقتاً طويلاً وغالباً ما تنتهي بحلولٍ وسطى لا تفضلها ولا تحتملها مصر.

فقد انتهت الجولة السابعة عشرة من المباحثات بين مصر والسودان واثيوبيا، التي تتشارك بمياه النهر، يوم 13 نوفمبر 2017 دون التوصل لاتفاق. ولا تزال مشكلة ملء وتشغيل السد دون التأثير على دول المصب موضع نزاع. وقد عبر الرئيس السيسي عن ذلك في 18 نوفمبر 2017 بقوله بنبرة حازمة “إن حصة مصر من مياه النيل غير قابلة للتفاوض، محذراً من أن المسألة “حياة أو موت لشعب [مصر].”

إلا أن مصر نفت مراراً وتكراراً أي نيةٍ لتعطيل بناء السد عسكرياً. وفي الوقت الراهن، تبدو عازمةً على إيجاد حلٍ سياسي تفاوضي للنزاع، بما في ذلك تقديم اعتراض أمام مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة من أجل ممارسة أقصى قدرٍ من الضغوط الدبلوماسية والسياسية على إثيوبيا.

بدأت اثيوبيا بتشييد سد النهضة (سد الالفية) عام 2011 بعد عقودٍ من الحلم بهذا المشروع الذي من شأنه أن يغير وجه الحياة في اثيوبيا الفقيرة. ويقام السد على نهر النيل الأزرق في منطقة بني شنقول الأثيوبية، التي تبعد 40 كيلومتراً عن الحدود السودانية و700 كيلومتراً عن العاصمة أديس أبابا. ويوفر النيل الأزرق 86% من اجمالي إيرادات مياه نهر النيل الذي يعتمد عليه السودان جزئياً ومصر كلياً. وتقوم بتنفيذ المشروع شركة ساليني إمبريجيلو الايطالية.

وبمجرد الإنتهاء منه ، ستبلغ السعة التخزينية المقدرة للسد 74 مليار متر مكعب، وهو ما يعادل مجموع حصتي مصر والسودان السنوية من مياه النيل تقريباً، ليصبح اكبر سد مائي للطاقة الكهرومائية في أفريقيا لإنتاج 6000 ميجاوات من الكهرباء وهو ما يقارب ثلاثة اضعاف انتاج السد العالي في مصر.

يكلف المشروع حوالي خمسة مليارات دولار تجتهد الحكومة الاثيوبية في توفيرها من مواردها الخاصة وحملة استكتاب الشعب الاثيوبي، إضافة لقدرٍ محدود من القروض الأجنبية.

قلق مصري متصاعد

أعلنت أثيوبيا مراراً وتكراراً أن سد النهضة يشيد لأغراض توليد الكهرباء فقط، وأنها لن تحتجز أو تستخدم أي كمية من المياه لأغراض الري.

وإن منطقة بناء الخزان منطقة جبلية لا تصلح للزراعة أصلاً وأنها تلتزم بمبدأ الاستخدام المنصف والمعقول لموارد المياه.

لكن القلق المصري لم يهدأ ابداً منذ الشروع في تشييد خزان النهضة. ومن الواضح أن القلق المصري مبرر وإن كانت اثيوبيا ستخزن المياه لأغراض توليد الكهرباء فقط لأن ملء بحيرة الخزان كفيلة بتهديد هبة مصر من مياه النيل إذا لم يتم التوصل، على الأقل، لاتفاقٍ واضح حول كيفية وفترة ملء بحيرة السد.

وتشير الدراسات إلى ان حصة مصر من مياه النيل، والتي تبلغ حالياً 55 مليار متر مكعب من المياه سنوياً، كما هو منصوصٌ عليه في اتفاقية المياه لعام 1929 مع البريطانيين، التي أصبحت فيما بعد قوة استعمارية، واتفاق 1959 مع السودان، لا تفي أصلاً باحتياجاتها المائية. على الرغم من أن الاتفاق الأخير خصص لمصر حصة أكثر مرتين ونصف سنوياً من المياه التي يحصل عليها السودان، الذي تبلغ حصته على 18 مليار متر مكعب.

رد فعلٍ عدائي

بالرغم من وضوح مبررات القلق المصرية، إلا أن ردود فعل القاهرة اتسمت لوقتٍ طويل بالحدة والتوتر وعدم تفهم المصالح المشروعة لدول حوض النيل الافريقية.

بلغ الغضب المصري أوجه في اجتماعٍ بث حياً على الهواء في عهد الرئيس السابق محمد مرسي في 3 يونيو 2013، حيث صدرت تهديدات بشن هجوم عسكري على اثيوبيا. أعلنت الحكومة بعدها أن الحديث أذيع عن طريق الخطأ وأنه لا يمثل رأى الحكومة المصرية.

وعلى النقيض من ذلك، كان الرئيس السيسي، الذي أطاح بمرسي من السلطة بعد شهرٍ من ذلك بانقلابٍ عسكري، أكثر تصالحاً. فقد وقع اعلان الخرطوم مع الرئيسين السوداني البشير والاثيوبي ديسالين في 23 مارس 2015، والذي تعهدت بموجبه البلدان الثلاثة بضمان التوصل إلى اتفاقٍ كامل حول أسلوب وقواعد ملء خزان السد وتشغيله السنوي. يشتمل الاتفاق على عشرة مبادىء أساسية تتسق مع القواعد العامة لمبادىء القانون الدولي حول الأنهار الدولية لعام 1966. وقال الرئيس السيسي حينها إن “مشروع سد النهضة يشكل مصدر تنمية لملايين المواطنين الاثيوبيين من خلال إنتاج طاقة نظيفة ومستدامة، لكن بالنسبة لأشقائهم الذين يعيشون على ضفاف النيل في مصر، والذين يماثلونهم في العدد تقريباً، فإنه يمثل مصدر قلق.”

Sudan- Grand Renaissance Dam
صورة التقطت عام 2015 لسد النهضة الجاري العمل على تشييده بالقرب من الحدود السودانية الإثيوبية. بدأت إثيوبيا تحويل مسار النيل الأزرق في مايو 2013 لبناء السد، الذي سيكون أكبر سد في إفريقيا. Photo AFP

إن أكثر ما تخشاه مصر هو أن تعمل اثيوبيا على ملء بحيرة الخزان خلال فترة خمسة سنوات أو أقل، مما سينجم عنه حسب تقديراتٍ مصرية حرمان مصر من مواردها المائية، وتجفيف جزء مقدر من أراضيها الزراعية وتخفيض مخزون بحيرة السد العالي والطاقة الكهربائية التي تولدها.

كما حذرت بعض التقارير المصرية من مخاطر انهيار السد على السودان، ذلك أنه لا يبعد سوى 40 كيلومتراً من الحدود السودانية واقل من 100 كيلومتر من سد الرصيروص على النيل الأزرق في السودان.

لم تلتفت الخرطوم لهذه التحذيرات، بل عمدت إلى مباركة سد النهضة منذ الشروع في تشييد السد عام 2011. وفي ذلك الوقت، أعلنت وزارة الخارجية “أن الجهات الفنية بوزارة الكهرباء والموارد المائية، أكدت أن الخطوة الاثيوبية الأخيرة لا تسبب للسودان أي ضرر وان هنالك تفاهمات بين البلدين بشأنها.”

ويرى الدكتور سلمان محمد سلمان، الخبير المتخصص في نزاعات المياه الدولية لدي البنك الدولي، أن سد النهضة يحقق مصالح مؤكدة للسودان منها ضمان استقرار ايراد النيل الأزرق من المياه على مدار السنة بدلاً عن الفيضانات السنوية الخطرة، كما أنه يحمي الرصيروص وسنار الاستراتيجيين من ملايين الاطنان من الطمي التي يحملها اليهما النيل الأزرق سنوياً مما يقلص طاقتهما التخزينية لحوالي النصف.

وعلاوة على ذلك، سيوفر السد طاقة كهربائية نظيفة بأسعار تفضيلية للسودان. ويضيف الدكتور سلمان “إن التحذير من انهيار الخزان، تخويفٌ لا معنى له، لأن مصر تدير السد العالي منذ أكثر من نصف قرن ويدير السودان خمسة سدود على ثلاثة أنهار تجاوز عمر أقدمها التسعين عاماً، فلماذا ينهار السد الاثيوبي الذي يبني بمعارف وخبرات وتكنولوجيا ومواد أفضل واحدث؟”

ومع ذلك، يشكك خبراء سودانيون آخرون في منافع سد النهضة للسودان ويحذرون من تأثيراته السلبية لأسباب تكاد تكون مشابهة للأسباب المصرية، وهي أن تشغيل سد النهضة سيؤدي إلى خفض موارد السودان المائية ويهدد الزراعة.

ولا يبدي المصريون أي تفهمٍ للموقف السوداني الرسمي المؤيد لسد النهضة ويعتبرونه طعنة في الظهر من ذوي القربى وتناولته الصحافة المصرية بغضبٍ وسخط. ويري هاني رسلان، نائب رئيس مركز الاهرام للدراسات الاستراتيجية في مصر، أن هذا موقف سياسي تريد به الخرطوم مساومة مصر على قضايا أخرى، الأمر الذي يفاقم سوء الفهم والتوتر الصامت القائم بين البلدين أصلاً. ولا بد أن نشير هنا إلى أن النخب الحاكمة والمعارضة في السودان تجمع على أن اتفاقية مياه النيل الموقعة بين البلدين عام 1959 كانت مجحفة في حق بلادهم، وربما يرى بعضهم في سد النهضة الاثيوبي سبيلاً للتعويض.

وحالياً، أكملت إثيوبيا حوالي 60 % من المشروع، على الرغم من أن دراسةً فنية عن أثر السد على السودان ومصر لم تسكتمل بعد.وبحسب عطية عيسوي، الذي يغطي الشؤون الإفريقية لصحيفة الأهرام المصرية فإن “إثيوبيا تريد أن تضع مصر أمام الأمر الواقع إلى حين استكمال إنشاءات السدّ، وبالتّالي التغاضي عن الملاحظات المصريّة بشأن الإنشاءات نفسها، ثمّ تذهب للتفاوض فقط على سنوات ملء خزّان السدّ ومنظومة التشغيل بشكل يراعي فترات تشغيل السدود المماثلة لدى القاهرة والسودان، بحيث لا يكون تشغيل السدود في الدول الثلاث بالتوقيت نفسه.”

وأضاف أنه أياً كان الحل الذي ستتوصل إليه الدراسة الفنية، فسيكون على حساب مصر بعض الشيء، إذ قال: “سيكون هناك ضرر لمصر لا محالة.”