علي نور الدين
عام 2013، قدّمت الصين نموذجها الخاص للعولمة، من خلال مبادرة الحزام والطريق، التي باتت جزءًا أساسيًّا من سياسة الصين الخارجيّة إلى حد إدراجها من ضمن الدستور الخاص بالحزب الشيوعي الصيني.
ومنذ البداية، قامت المبادرة على شبكة ضخمة من الاستثمارات المتصلة والعابرة للدول، في قطاعات المواصلات والبنية التحتيّة والتعليم ومواد البناء وشبكات الطاقة وغيرها، في محاولة لبناء سوق متكامل يسمح للصين بتوسيع نفوذها عبر مناطق آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا ووسط وشرق أوروبا.
وعمليًّا، قامت المبادرة على أنقاض ما كان يُعرف بطريق الحرير، والذي يمثّل مجموعة من خطوط التجارة التي نشأت خلال القرن التاسع عشر، بما سمح يومها بربط الصين تجاريًّا بالأسواق التي تشملها اليوم مبادرة الحزام والطريق. مع الإشارة إلى أنّ هذه المبادرة، تسمح من جهة بتوظيف فوائض الرساميل الصينيّة في هذه المشاريع المربحة، كما تسمح من جهة أخرى بخلق خطوط التجارة والنقل التي يحتاجها غزو الإنتاج الصيني لأسواق العالم.
أهميّة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مبادرة الحزام والطريق
لا يحتاج المرء لكثير من التحليل لفهم أهميّة منطقة الشرق الأوسط في إطار هذه الاستراتيجيّة الصينيّة. فالصين باقتصادها الضخم والمنتج تمثّل اليوم أكبر مستورد لمصادر الطاقة في العالم، فيما يأتي نصف نفطها المستورد من المنطقة العربيّة بالتحديد. وفي ظل التوتّرات التي خيّمت طوال السنوات الماضية على أسواق النفط العالميّة، بات انفتاح الصين على منطقة الشرق الأوسط، ومحاولة تعزيز النفوذ الصيني هناك، ضرورة استراتيجيّة في حسابات أمن الطاقة الصيني، والذي يتصل بدوره بإنتاجيّة القطاعات الصناعيّة الصينيّة.
ومن المعلوم أيضًا أن منطقة الشرق الأوسط تحتل موقعًا جغرافيًّا استراتيجيًّا، كنقطة وصل ما بين أسواق شرق أسيا من جهة، وأفريقيا وأوروبا وحوض البحر المتوسّط من جهة أخرى. وبما أن استراتيجيّة الحزام والطريق ترتكز أساسًا على الاستثمار في خطوط النقل التجاريّة والبنية التحتيّة المسهّلة للتجارة الدوليّة، فمن الطبيعي أن يكون الشرق الأوسط حلقة وصل استراتيجيّة في هذه المبادرة.
لا بل تشير التحليلات الاستراتيجيّة اليوم إلى أنّ نجاح الصين في توسيع نفوذها في منطقة الشرق الأوسط، وربطه بخطوط إمدادها التجاريّة في أفريقيا وأوروبا وشرق أسيا، بات النقطة التي يعتمد عليها نجاح مشروع مبادرة الحزام والطريق. ففشل الصين في تعزيز حضورها في هذه النقطة الجغرافيّة بالتحديد، سيعني الفشل في استكمال شبكة خطوط الإمداد التي تراهن الصين على تكاملها بين القارّات الثلاث.
من هنا، يمكن فهم توسّع نطاق الاستثمارات الصينيّة في منطقة الشرق الأوسط والدول العربيّة، خلال العام 2021. فخلال العام الماضي، ارتفعت حصّة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من استثمارات مبادرة الحزام والطريق من 8% إلى 38%، في إشارة واضحة إلى الاهتمام الذي تعطيه الصين اليوم لهذه المنطقة.
ولهذا السبب بالتحديد، ارتفعت قيمة الاستثمارات الصينيّة في المنطقة العربيّة والشرق الأوسط بنسبة 360% خلال العام الماضي وحده، فيما ارتفعت قيمة الاستثمارات الصينيّة في قطاع البناء في هذه المنطقة بنسبة 116%. وبذلك، باتت قيمة الاستثمارات الصينيّة في المنطقة العربيّة وحدها تتجاوز حدود ال213.9 مليار دولار في نهاية العام 2021.
باختصار، كل ما سبق عرضه من أرقام يشير إلى أن الصين أدركت مؤخّرًا أهميّة منطقة الشرق الأوسط ضمن إطار خططها الاقتصاديّة على المستوى الدولي، وهو ما انعكس في طفرة الاستثمارات في المنطقة خلال العام الماضي.
مع الإشارة إلى أنّ الصين عمدت إلى مواءمة مبادرة الحزام والطريق مع الخطط الاقتصاديّة التي قامت بها كل دولة من دول المنطقة على حدة، كرؤية مصر 2030 ورؤية الأردن 2025 ومشروع مدينة الحرير الكويتي، ومشروع مدينة محمد السادس الذكيّة في طنجة المغربيّة. وهذه الخطوة بالتحديد، سمحت بتلقّف المشاريع الصينيّة بترحاب أكبر على المستوى المحلّي، نظرًا لتكاملها مع التوجهات الاقتصاديّة المحليّة والأهداف الخطط التي وضعتها كل من هذه الحكومات.
براغماتيّة وصمت وتحفّظ
لتتمكّن الصين من توسيع حضورها في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على هذا النحو، انتهجت سياسة زاوجت ما بين البرغماتيّة والصمت والتحفّظ، والعمل بهدوء بعيدًا عن الضوضاء. وبهذه الطريقة، تغلغلت الصين ووسّعت حضورها في معظم دول المنطقة، بدبلوماسيّة رصينة وذكيّة، مستفيدةً في بعض الحالات من انكفاء الولايات المتحدة وتراجع حضورها في بعض أسواق ودول المنطقة.
براغماتيّة الصين برزت بوضوح خلال الأشهر الماضية، من خلال سعيها لبناء علاقات استراتيجيّة مع عدّة أقطاب أساسيّين في منطقة الشرق الأوسط في الوقت نفسه، بمعزل عن التناقضات والخلافات التي تحكم علاقة هؤلاء الأقطاب ببعضهم البعض. فعلى سبيل المثال، وفي بداية هذا العام، كانت الصين تستضيف وزراء خارجيّة الدول الخليجيّة العربيّة، للتباحث في مشاريع اقتصاديّة وأمنيّة مشتركة.
وفي الوقت نفسه، كانت الصين تدشّن مجموعة من المشاريع المشتركة مع إيران، التي تتجاوز قيمتها ال400 مليار دولار، والتي سمحت لإيران بتجاوز العديد من القيود الناتجة عن العقوبات الغربيّة عليها. وكل ذلك، تزامن مع إطلاق رزمة من المشاريع الصينيّة الاستثماريّة في العراق، والتي تركّزت في مجال إعادة الإعمار بعد الدمار الذي نتج عن الحرب مع تنظيم داعش.
بصورة عامّة، لم تجد الصين حرجًا من مواءمة علاقات متعددة ومتناقضة في الوقت نفسه، مع الأطراف التي تتنافس على الهيمنة الإقليميّة، وهذا تحديدًا ما يجعل سلوك الصين في المنطقة مفرطًا في البراغماتيّة.
مع الإشارة إلى أنّ هذه العلاقات البراغماتيّة لا تستثني إسرائيل، التي تحوز وحدها على نحو 18 مليار دولار من الاستثمارات الصينيّة، في قطاعات الموانئ والنقل والسكك الحديديّة والاتصالات السلكيّة واللاسلكيّة، بالإضافة إلى قطاعات الزراعة ومعدات الطاقة الشمسيّة والمنتجات الصيدلانيّة. وهذه المشاريع تشمل على سبيل المثال عقود تطوير وتشغيل ميناء حيفا، وبناء ميناء جديد في أشدود، وبناء أنفاق المترو في تل أبيب، بالإضافة إلى خطط مستقبليّة تشمل مشاريع لتحلية المياه وبناء خطوط نقل تربط تل أبيب بالمدن السياحيّة الإسرائيليّة.
وبذلك، كانت الصين مستعدة لتطوير علاقتها مع أقرب حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، بل والعمل على مشاريع تعزّز الحضور الصيني في إسرائيل على المدى الطويل، بمعزل عن سياسات إسرائيل الخارجيّة.
وللتمكّن من المزاوجة بين جميع هذه التناقضات، حرصت الصين على انتهاج سلوك متحفّظ، من خلال النأي بالنفس عن النزاعات المحليّة الإقليميّة، ومحاولة البناء على نقاط تقاطع المصالح مع كل طرف من أطراف النزاع.
وفي الوقت نفسه، حرصت الصين على الحفاظ على أداء هادئ وصامت، من خلال العمل على هذه المشاريع بأقل قدر ممكن من الضجيج السياسي، الذي يمكن أن يشوّش على علاقات الصين مع الأطراف الإقليميّة المختلفة. باختصار، كل ما يجري يشير إلى أننا أمام توسّع كبير صامت في النفوذ الصيني الاقتصادي في المنطقة، وهو توسّع سيسمح للصين بالبناء عليه لإكمال شبكة الاستثمارات التي يقوم عليها مشروع مبادرة الحزام والطريق.
ثمار التوسّع الصيني
في النتيجة، تمكّنت الصين من حصد ثمار هذا التوسّع في الحضور الاستثماري والاقتصادي في المنطقة، وخصوصًا على مستوى علاقاتها مع الدول الخليجيّة. فالصين باتت اليوم الشريك الاقتصادي الأوّل للدول العربيّة، سواء من خلال حجم صادراتها الضخم إلى هذه الدول، أو جهة استحواذها على حصّة الأسد من صادرات هذه الدول النفطيّة، أو حتّى من خلال حجم تدفقات الرساميل الصينيّة إلى الدول العربيّة.
وخلال العام الماضي بالتحديد، ارتفع حجم التبادلات الصينيّة مع الدول العربيّة إلى نحو 332.2 مليار دولار أميركي، في زيادة بنسبة 37% مقارنة بالعام السابق. وبذلك، يمكن القول أن استفادة الصين من علاقاتها مع الدول العربيّة لن تقتصر على عوائد المشاريع الاستثماريّة، بل ستشمل أيضًا عوائد تصدير السلع الصينيّة إلى الأسواق العربيّة.
باختصار، لعبت الصين بذكاء على وتر المصالح الاقتصاديّة المشتركة، وسيكون بإمكانها حتمًا استثمار توسّع حضورها الاقتصادي في المستقبل من خلال توسيع حضورها السياسي. لكن أهم ما في الموضوع، هو أنّ تنامي الحضور الصيني في المنطقة لم يكن وليد قرارات مفاجئة حصلت خلال العامين الماضيين، بل كان نتاج تخطيط بدأ منذ العام 2014، حين وضع الرئيس الصيني أهداف قضت بمضاعفة تبادلات الصين مع دول المنطقة العربيّة بحلول العام 2023.
أمّا السؤال الأهم، فيبقى عن قدرة الصين على بناء تحالفات سياسيّة مع الدول العربيّة، بما يترجم ويعكس تنامي العلاقات الاقتصاديّة، في ظل التناقضات التي تحكم علاقة الصين بعدّة أطراف إقليميّة متنازعة في ما بينها.