علي نور الدين
بعد تراجع القوات الروسيّة الكبير في شمال وشرقي أوكرانيا، أمام تقدّم القوّات الأوكرانيّة، قررت روسيا اعتماد تكتيك جديد، لمحاولة تخفيف ضغط الهجوم الأوكراني. فعلى نحوٍ يومي، يشن الجيش الروسي هجمات مكثّفة باستخدام أسراب كبيرة من الطائرات المسيّرة، على البنية التحتيّة الأوكرانيّة، وخصوصًا تلك التي تتصل بخطوط الإمداد العسكري ومصادر الطاقة.
وكان من الملفت في هذه الهجمات الروسيّة المرتدّة والمستجدّة، أن الضربات طالت مختلف الأراضي والمدن الأوكرانيّة، حتّى تلك التي تقع بعيدًا عن خطوط المواجهة المباشرة. ببساطة، استعمل الروس الطائرات المسيّرة والرخيصة، الصغيرة الحجم، والقادرة على التحليق على علو منخفض دون أن تكشفها الرادارات، بما يسمح لها بتفادي أنظمة الدفاع الجوّي. كما تم تحميل هذه المسيّرات بمتفجّرات تسمح للطائرات بتفجير نفسها بالأهداف الأوكرانيّة، ما أعطى هذه الهجمات لقب “هجمات الكاميكازي”. وبما أن الروس أطلقوا هذه المسيّرات بأعداد ضخمة، وفي وقت واحد، لم يتمكّن الجيش الأوكراني من تتبعها بكفاءة وفعاليّة.
لفهم هذا التحوّل المستجد في مسار الحرب الأوكرانيّة، ينبغي العودة للدور الإيراني بالتحديد، وخصوصًا لجهة تزويد الجيش الروسي بالطائرات الإيرانيّة المسيّرة، وبهذه الأعداد الضخمة. فعمليًّا، من المعلوم أن الروس استعملوا في مراحل سابقة من الحرب الأوكرانيّة أنواعا شتّى من المسيّرات، إلا أنّ الانتقال إلى استعمال المسيّرات كوسائط تفجير انتحاريّة، وباعتماد نمط الأسراب الكبيرة والهجمات الكثيرة المتزامنة، لم يحدث إلّا بعد توسّع إيران في توريد الطائرات المسيّرة الى روسيا.
فبالتوازي مع حصول هذه الهجمات، كانت المعلومات الاستخباراتيّة الأميركيّة والأوروبيّة تشير إلى أنّ إيران قامت خلال شهر أكتوبر/تشرين الأوّل بإرسال مجموعات من خبرائها إلى شبه جزيرة القرم، لتزويد الجيش الروسي بالتدريب والمشورة بشأن كيفيّة استعمال المسيّرات الإيرانيّة. وفي الوقت نفسه، كانت هذه المعلومات تشير إلى أنّ إيران فعّلت خلال الأسابيع الماضية خطوط إمدادها باتجاه روسيا، لتزوّدها بمئات المسيّرات التي يمكن استعمالها كوسائط تفجير انتحاريّة.
وبالإضافة إلى ذلك، كان الجيش الأوكراني يعلن بشكل متكرّر عن تأكّده من المنشأ الإيراني لهذه المسيّرات، بعدما تمكّن من إسقاط وتفحّص بعضها. وهكذا باتت إيران في موقع المتّهم في هذا الملف أمام المجتمع الدولي، خصوصًا أن أوكرانيا الغارقة في أتون حربها مع روسيا، قدّمت لوسائل الإعلام صورا عن الطائرات الإيرانيّة المستخدمة في تلك الهجمات.
تسويق واختبار السلاح في أوكرانيا
تورّط إيران في الحرب الأوكرانيّة بهذا الشكل، لم يأتِ إلّا ضمن سياق اندفاع الكثير من الدول لتجريب أسلحتها في ميدان المعركة الأوكرانيّة، واختبار فعاليّتها، ومن ثم تسويقها على المستوى الدولي.
على هذا النحو مثلًا، قامت شركة بايكار التركيّة التي تصنع مسيّرة بيرقدار بافتتاح محطّة تصنيع لهذه المسيّرات داخل الأراضي الأوكرانية، بهدف تزويد الجيش الأوكراني بمسيّراتها على نحو منتظم. وطوال الفترة الماضية، كانت تركيا تسوّق الفيديوهات التي تستعرض كفاءة هذه المسيّرات على أرض المعركة في أوكرانيا، وقدرتها على استهداف أهداف متنوّعة بفعاليّة، كالمدرّعات المتحرّكة والتحصينات الثابتة والمشاة وغيرها من أنواع الأهداف.
سرعان ما حصدت تركيا ثمار استعراض طائراتها على الساحة الأوكرانيّة. فالإمارات العربيّة المتحدة على سبيل المثال، اندفعت بعد هذه التطوّرات للتفاوض مع تركيا، لشراء نحو 120 طائرة مسيّرة من نوع بيرقدار، التي تم استعمالها من قبل الجيش الأوكراني. وبعد أن بدأت تركيا بالفعل بتوريد هذه الطائرات الى الإمارات، دخلت السعوديّة على الخط، لتفاوض شركة بايكار من أجل إنشاء مصنع لها على الأراضي السعوديّة، فيما تستعد الكويت لتوقيع اتفاق جديد مع تركيا لشراء كميّات من طائرات بيرقدار.
وحتّى الدول الغربيّة، كانت تستعرض إعلاميًّا طوال الأشهر الماضية نوعيّة الأسلحة التي أرسلتها إلى الجيش الأوكراني، من مضادات للدروع ومدافع دقيقة ومنظومات دفاع جوّي وغيرها. كما حرصت هذه الدول على تزويد وسائل الإعلام بما يكفي من معلومات وأدلّة تشير إلى الدور الذي لعبه كل نوع من أنواع أسلحتها على أرض المعركة.
وهكذا كان هدف كل هذه الأطراف مزدوجًا. فإلى جانب تسويق الأسلحة بشكل صريح عبر استعراض فعاليّتها، كانت هذه الدول تنكب على دراسة أداء أسلحتها في أرض المعركة الأوكرانيّة، لكشف مواطن قوّة وضعف هذه الأسلحة، والثغرات التي يمكن تطويرها في المستقبل. وكان واضحًا أنّ التقدّم الأوكراني السريع في شرق وشمال البلاد حقق دعاية نادرة لكل أصناف الأسلحة التي استخدمها الجيش الأوكراني، خصوصًا أن الأوكرانيين تمكنوا من تحقيق هذا النجاح في وجه الجيش الروسي، الذي تميّز بتفوّق عددي كبير.
إيران ومسيّرات شاهد 136
هكذا، دخل الإيرانيّون على خط الحرب الأوكرانيّة لتسويق واختبار مسيّراتهم، تمامًا كما فعلت الدول الغربيّة وتركيا من قبل، في محاولة لمنافسة هؤلاء وتوسيع حصّة إيران من سوق السلاح العالمي. مع الإشارة إلى أنّ تركيا بالتحديد تمثّل أبرز منافسي إيران الإقليميين في سوق الطائرات المسيّرة، بالنظر إلى الشهرة والشعبيّة التي حققتها مسيّرة بيرقدار مؤخّرًا، في الوقت الذي تحاول إيران تسويق نماذجها الخاصّة من الطائرات المسيّرة.
مثّلت طائرة “شاهد 136” أبرز أنواع المسيّرات التي أدخلتها على خط الحرب الأوكرانيّة، حيث تمكنت هذه الطائرات من الوصول إلى عمق الأراضي الأوكرانيّة، وضرب أهداف لم يتوقّع الجيش الأوكراني أن تصل الضربات إليها. وكان المسؤولون العسكريون الأوكرانيون قد توقعوا أن يؤدّي دخول هذا النوع من الطائرات إلى مسرح العمليّات إلى تغيير قواعد اللعبة، نظرًا لقدرتها على المناورة وتتبع الأهداف بدقّة، حتّى المتحرّكة منها.
هذا الصنف من المسيّرات الإيرانيّة بالتحديد كان قد نال شهرة واسعة في 25 مارس/آذار 2022، عندما تم استعمالها لاستهداف منشآت شركة آرامكو، عملاق النفط السعودي، من قبل الحوثيين. يومها، لفتت هذه المسيّرة أنظار الخبراء العسكريين، بعدما تم توجيهها كطائرات انتحاريّة قادرة على تخطّي رادارات المملكة العربيّة السعوديّة، لتستهدف أكثر الأهداف حساسيّة في عمق الأراضي السعوديّة.
ومنذ ذلك الوقت، نشطت إيران على خط محاولة عقد صفقات مربحة لبيع نماذج من هذه المسيّرة، وهو ما يفسّر سعيها لتسويقها على الأرض الأوكرانيّة اليوم، عبر تزويد الجيش الروسي بكميات منها. وتجدر الإشارة إلى أنّ إيران كانت قد عملت خلال الفترة الماضية على عرض هذه المسيّرة في مناورات عديدة في الداخل الإيراني، سعيًا لتأمين شهرة إضافيّة لها.
تحدّي دفاعات الناتو
بالنسبة إلى إيران، أهم ما في دخولها إلى ساحة الحرب الأوكرانيّة كان اختبار دفاعات الناتو، في مواجهة مسيّراتها، للتحقق من قوّة هذه الدفاعات في وجه الوسائط الإيرانيّة الهجوميّة. وخلال المرحلة الأولى من الهجمات، يمكن القول أن مسيّرة “شاهد 136” تمكنت بالفعل من تحقيق نجاح استثنائي في وجه دفاعات الناتو الجويّة، الموجودة في الوقت الراهن بحوزة الجيش الأوكراني، وهو ما يفترض أن يمثّل نقطة تُسجّل لصالح الإيرانيين.
إلا أنّ التحقق من نتيجة هذا الاختبار النهائيّة، أو بالأحرى التحدّي بين مسيّرة شاهد 136 ودفاعات الناتو، يقتضي التريّث وانتظار الدفاعات الجويّة الإضافيّة، التي سيقدّمها الناتو لأوكرانيا خلال الأيام القليلة المقبلة. فبمجرّد حدوث هذه الهجمات، أدركت قيادة الناتو حساسيّة هذه التطورات على مستوى توازن القوى بين الجيشين الروسي والأوكراني، كما أدركت حساسيّتها على مستوى سمعة أصناف الأسلحة التي تم تقديمها للجيش الأوكراني. ولهذا السبب، قرر الناتو سريعًا تقديم وسائط دفاع جوي إضافيّة، مخصصة للتعامل مع هذا النوع من المسيّرات الصغيرة والسريعة، والقادرة على التحليق على مستويات منخفضة.
في خلاصة الأمر، وككل الحروب، حملت الحرب الأوكرانيّة على هامشها كتلة ضخمة من المصالح التي تغذّت عليها، وخصوصًا في ما يتصل بأسواق السلاح ومنتجيه. إلا أنّ كلفة هذه المصالح تأتي اليوم على حساب الخسائر الماديّة والبشريّة الناتجة عن اختبار الأسلحة بهذا الشكل، دون الأخذ بعين الاعتبار نتائج استخدامها. وللدلالة على ذلك، تكفي الإشارة إلى أنّ استخدام المسيّرات الإيرانيّة في الحرب الأوكرانيّة، لمصلحة روسيا، أدّى إلى تدمير 30% من محطات الطاقة الأوكرانيّة، دون أن يخدم ذلك أي هدف عسكري واضح وصريح.