خالد محمود
تخطط الميليشيات المسلحة في العاصمة الليبية طرابلس، على ما يبدو، لانقلاب عسكري جديد ضد السلطة الانتقالية التي تضم المجلس الرئاسي برئاسة محمد المنفي وحكومة الوحدة بقيادة عبد الحميد الدبيبة، بينما تبقى ليبيا أسيرة الفوضى السياسية والعسكرية، بعد تعثر المسار السلمي وتأجيل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي كانت مقررة في الرابع والعشرين من ديسمبر 2021.
اجتماعات سرية وتحركات مريبة
ورصد دبلوماسيون غربيون في العاصمة طرابلس، وفقا لمعلومات خاصة لموقع “فنك”، انعقاد عدة اجتماعات سرية في المدينة الى جانب اجتماعات مماثلة في مدينة مصراتة بغرب البلاد، المشترك الأعظم فيما بينها، هو حضور قادة الميليشيات المسلحة المنتمية إلى المدينتين.
وقال دبلوماسي عربي في طرابلس، طلب عدم تعريفه: “ثمة حشود عسكرية تتوافد عبر أرتال ومدرعات وعناصر مسلحة على تخوم طرابلس منذ بضعة أيام”.
وتابع: “هذه التحركات تتم بمعزل عن السلطة الانتقالية وأغلب مسؤوليها ليسوا على علم بها، وحتى إن علموا، فإنهم لا يمتلكون القدرة على منعها أو حتى مجرد إطلاق تساؤلات علنية بشأنها”.
وامتنع الناطقون باسم المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة عن التعليق على المخاوف المثارة بشأن انقلاب عسكري متوقع في طرابلس، لكن مسؤولين في الجيش الوطني المتمركز في شرق البلاد عبروا في المقابل عن مخاوف من اندلاع معارك عنيفة بين الميليشيات المنقسمة على نفسها والتي يقتصر ولاءها على قادتها فقط.
وطبقا لما رواه مسؤولان أحدهما إعلامي مقرب من المنفى والدبيبة والآخر من بعثة الأمم المتحدة لدى ليبيا، فإنهما (أي المنفي والدبيبة) طلبا مؤخرا من ستيفاني ويليامز، مستشارة الأمين العام للأمم المتحدة، مضاعفة الإجراءات الأمنية لحمايتهما.
ورفضت قيادة القوات الأمريكية العاملة في أفريقيا والمعروفة باسم “أفريكوم”، التعليق على معلومات بشأن قيام عناصر من القوات الخاصة الأمريكية بتأمين المنفى والدبيبة إلى جانب مهامهما الاعتيادية في تأمين وليامز الدبلوماسية الأمريكية السابقة التي عادت مؤخرا إلى ليبيا كمستشارة خاصة للأمين العام للأمم المتحدة.
التهديد بالتمرد
الدبيبة رئيس الوزراء المؤقت لم يتحدث علانية عن التحركات المريبة لميليشيات طرابلس، لكنه قام وفي حركة استعراضية، بتفقد مفاجئ لوسط العاصمة وأهم ميادينها بعد ساعات من تداول لقطات مصورة لانتشار ميليشيات مسلحة على أطراف ومداخل العاصمة.
وظهر الدبيبة برفقة حراس مسلحين، في رسالة ضمنية بأنه وخلافا للواقع، لا زال مسيطرا على الأوضاع في المدينة بعد هذه التحركات التي تمت من دون الرجوع إليه، في سلوك عسكري غير منضبط ولكنه متوقع من عناصر الميليشيات التي لا تعرف الانضباط العسكري ولا التراتبية الرسمية للجيوش الاعتيادية.
اللافت هنا أن إلغاء الانتخابات التي كانت مقررة في 24 من ديسمبر 2021 وفقا لبرنامج البعثة الأممية وملتقى الجوار السياسي الليبي الذي ترعاه في مدينة جنيف السويسرية، كان يعني انتصار إرادة الميليشيات التي سبق وأن عبرت عن رفضها لهذه الانتخابات، في بيان أصدرته مطلع شهر نوفمبر الماضي.
سطوة الميليشيات
قادة المجموعات المسلحة في غرب ليبيا فرضوا إرادتهم ومنعوا إجراء الانتخابات بحجة أن قوانينها “مطعون فيها قانونيا، وغير مبنية على أي توافق سياسي”، ما دفع المفوضية العليا للانتخابات إلى تأجيلها إلى 24 من الشهر الجاري، لكنها أيضا لن تتم لنفس السبب، وهو استمرار الميليشيات المسلحة في تعطيل العملية الانتخابية.
سلوك الميليشيات هو القوة القاهرة التي استندت إليه المفوضية في قرار تأجيل الانتخابات، لكن من دون أن تملك القدرة على تسمية الأشياء بمسمياتها، علما بأن المفوضية وفي إطار رصدها للمخاطر الأمنية بالانتخابات، اعتبرت في تقرير لها منشور عبر موقعها الإلكتروني الرسمي أن من بين عوامل الخطورة الخارجية “وجود عناصر مسلحة غير تابعة للدولة”.
لكن هذه لم تكن المرة الأولى التي تنجح فيها الميلشيات في فرض سياستها، فقد حمل بيان وقعه 12 من قادة الميليشيات المسلحة قبل بضع أسابيع، كلا من المنفى ومجلسه الرئاسي باعتباره القائد الأعلى للجيش الليبي، والدبيبة بوصفه وزير الدفاع بحكومة الوحدة التي يترأسها، مسؤولية التبعات المترتبة على قرار إقالة اللواء عبد الباسط مروان مؤخرا من منصبه كقائد لمنطقة طرابلس العسكرية.
لغة التهديد التي كشف عنها البيان، الذي وصف الموقعون عليه أنفسهم بأنهم من قادة وأمراء الأجهزة الأمنية داخل مدينة طرابلس، تضمنت بوادر تمرد عسكري ستنفذه هذه الميليشيات في حالة تجاهل المنفى والدبيبة لمطالبهم، وهو ما دفعهما لاحقا الى تجميد قرار إقالة مروان، واعتباره كأن لم يكن!!!
ومن بين الموقعين على البيان كتيبة ثوار طرابلس والقوة الثامنة النواصي وجهاز الردع وكتيبة 42 مشاة والأمن المركزي أبو سليم وغرفة العمليات المشتركة وجهاز الأمن العام والمركزي وكتيبة الشهيدة وآمر قوة الرابع وأمن محور عين زارة ورئيس مكتب الدعم المركزي وكتيبة فرسان جنزور.
وكل هذه المسميات العسكرية والأمنية تتلقى تمويلها من المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة، علما بأنها كانت أيضا هي نفس الكيانات الداعمة لحكومة الوفاق السابقة برئاسة فائز السراج.
بادي يرسم ملامح الانقلاب
وبالتزامن مع ذلك، عاد صلاح بادي قائد مليشيات الصمود المنتمي إلى مدينة مصراتة، المعاقب محليا ودوليا، لاستخدام لغة التصعيد ضد السلطة الانتقالية في البلاد، عبر تحريضه علنا وعلى الملأ مجموعة من قادة الكتائب التقى بهم في مصراتة على الإسراع في تنفيذ انقلاب عسكري، حيث خاطبهم قائلا: “عليكم بالذهاب فورا إلى العاصمة لطرد خونة ثورة 17 فبراير”.
ورسم بادي في نفس اللقاء ملامح وطريقة هذا الانقلاب، وادعى أنه سيتم الاتفاق على إلغاء الانتخابات، وتشكيل مجلس عسكري ثوري حاكم لتسيير شؤون البلاد وإقرار دستور يمنع المجرمين من الترشح.
وقال إن قوات مصراتة هي من أسقط القذافي والمتحكمين في المشهد اليوم هم أنصاره الذين يحاولون إعادة الصنم لأنهم اعتادوا على العبودية.
الدبيبة يمول الميليشيات المسلحة
يواصل الدبيبة منح ميليشيات مسلحة حصة معتبرة من ميزانية الدولة الليبية، وعلى الرغم من أنه تولى منصبه فقط في مارس 2021، لا يكاد يمر شهر واحد دون أن يمهر الدبيبة شيكا مصرفيا لتحييد الميليشيات المسلحة الخارجة عن القانون والتي ورث تبعيتها من حكومة السراج.
تصرف الميليشيات وكأنها دولة خارج الدولة، وازدياد سطوتها، رغم تورطها في العديد من جرائم الحرب ضد المدنيين على مدى السنوات العشر التي تلت إسقاط نظام العقيد الراحل معمر القذافي عام 2011، يثير تساؤلات حول زواج السفاح ما بين السلطة التنفيذية وهذه الميليشيات التي لا تعترف بوجود الدولة أصلا.
في إطار سعيه لترتيب أوراقه وتشكيل تحالفات عسكرية على الأرض تضمن التواجد على الساحة، تجاهل الدبيبة توصيات اللجنة العسكرية الليبية (5+5)، بإعادة دمج أكثر من 8 كيانات مسلحة في غرب ليبيا، ونقل تبعيتها إلى رئاسة الأركان العامة ووزارة الداخلية.
اللجنة التي لاحظت العديد من المجموعات المسلحة التي كلفت بمهام أو منحها صلاحيات متداخلة عسكرية وأمنية خاصة، دون وضع حدود واضحة لواجباتها ومهامها، اعتبرت أن ذلك أدى لخلق زعزعة وضعف في أداء دور المؤسسة العسكرية والأمنية، وهذا أخطر ما يمكن أن تعانيه المؤسستان.
وسمت اللجنة 9 أجهزة أمنية وعسكرية موالية لحكومة الوحدة، وأوصت بضرورة إعادة النظر في تبعية تلك المجموعات، ووضع ميزانيتها المالية برئاسة الأركان العامة ووزارة الداخلية وليست مستقلة.
كيان عسكري جديد
لكن ومع ذلك، فقد تم في الاجتماع الذي حضره عددٌ من قادة الميليشيات المسلحة في مدينة جادو بالجبل الغربي يوم الاثنين 10 يناير 2022 للإعلان رسميا عن تدشين كيان عسكري جديد باسم اتحاد المجالس العسكرية.
الاتحاد الذي أعلن في بيان نقلته وكالة الأنباء الليبية الرسمية تبعيته للسلطة الانتقالية ممثلة في وزارة الدفاع بحكومة الوحدة وقيادة أركان القوات الموالية لها، وادعى دعمه لمؤسسة الجيش، سرعان ما كشف عن هدفه الحقيقي، على لسان أحمد يخلف، رئيس مجلس جادو العسكري، الذي قال لوكالة أنباء الأناضول التركية الرسمية: “جئنا من كل ليبيا من أجل إنشاء كيان لحماية الثوار، يجب أن يكون للثوار جسم يحميهم”.
وبعدما نصح أي مجموعة بأن تحتكم للمجالس العسكرية، اعتبر يخلف أن هذه الخطوة تمثل إعادة للنواة الرئيسية والأساسية التي قامت بها ثورة 17 فبراير.
في الثامن من الشهر الجاري، أشاد الدبيبة لدى اجتماعه مع رئيس وأعضاء لجنة حكومية معنية بتنظيم واستيعاب ودمج الميليشيات المسلحة، بعمل هذه اللجنة التي لا تحمل اسما، بل مجرد رقم 410، وتم تغيير مصطلح استخدامها إلى استيعاب ودمج الشباب بدلا من الميليشيات.
في الاجتماع، تحدث الدبيبة عن تسهيل إجراءات ضم هذه الفئة واستيعابها بالكامل في مشاريع حقيقية وعملية. كما أوصى بضرورة إيجاد مشاريع عملية وحقيقية لهذه الشريحة التي اعتبر أنها تمثل العمود الفقري لبناء الدولة المدنية.
هذا الكلام الإنشائي التقليدي، والذي خلا من أي إشارة حقيقية إلى أعداد المطلوب استيعابهم أو الميزانية المخصصة لذلك والفترة الزمنية لتحقيقه، ليس بجديد على الإطلاق، فقد مرت أكثر من 3 شهور على تدشينه ما يسمى بالمشروع الوطني للتأهيل وإعادة الإدماج برعاية وزارة العمل بهدف إدماج الشباب المنضوين تحت التشكيلات المسلحة والراغبين في الالتحاق بمؤسسات الدولة، دون أن يحدث أي تقدم.
في المقابل، توعد الجيش الوطني على لسان مسؤول توجيهه المعنوي اللواء خالد المحجوب الدبيبة بـ “انتقام إلهي”، بعدما اتهمه بتجويع قوات الجيش عبر منعها مرتباتها للشهر الرابع على التوالي.
في مرثية لما وصلت إليه الأحوال، خلص المحجوب إلى أن الدبيبة “قد أفلس أخلاقيا وتتالت فضائحه وظهرت حقيقته وتحول إلى أداة تجويع الليبيين”.
في اجتماعهما الأخير في مدينة سرت، اتفق محمد الحداد رئيس أركان قوات حكومة الوحدة والفريق أول عبد الرزاق الناظوري رئيس أركان الجيش الوطني وقائده المكلف، على تشكيل لجان مشتركة لدراسة توحيد المؤسسة العسكرية، بالإضافة إلى وضع خطة شاملة لتنظيم واستيعاب التشكيلات المسلحة.
تعداد جيش الميليشيات
لا يوجد إحصاء رسمي لعدد عناصر الميليشيات المسلحة في غرب ليبيا تحديدا، لكن ثمة تقديرات تذهب إلى أن عدد المسجلين أسماؤهم في كشوفات عشرات الميليشيات التي تخضع لسيطرة الدولة شكليا يتجاوز أكثر من ربع مليون، وهو رقم ضخم بالنسبة لعدد السكان البالغ قرابة 7 مليون نسمة.
ولا تتفق الجماعات المسلحة القوية فيما بينها وتتصارع بشكل مستمر على مناطق النفوذ والسيطرة، وقاومت على الدوام كل المحاولات الرسمية والحكومية لإقناعها أو إجبارها على التخلي عن السلاح والانضمام الى جيش منظم.
وسعت الحكومات المتعاقبة على السلطة في طرابلس لاستيعاب بعض آلاف المقاتلين السابقين بإدراج بعضهم على قوائم أجور الدولة، ما أدى إلى وجود خليط من القوى الأمنية والوحدات العسكرية شبه الرسمية، على نحوٍ عزز أسطورة الميليشيات المسلحة.
وتتمسك مجموعات الثوار السابقين والجماعات المسلحة بإدارة مصالحها الخاصة وشؤون عناصرها وميزانيتها الضخمة بعيدا عن أعين أي سلطة رقابة ولا تخضع لأي تراتبية عسكرية أو أمنية.
ولا تبدي هذه العناصر المسلحة أي استعداد للتخلي عن السلاح أو الاصطفاف خلف حكومة سوى فقط للحصول على المزيد من الأموال.
وظهر معظم قادة الميليشيات على شاشات وسائل الإعلام وعدسات المصورين وهم يجلسون على طاولة واحدة مع المنفى والدبيبة، وهو نفس المشهد الذي اعتاد عليه الليبيون منذ إسقاط نظام العقيد القذافي وحتى الآن.
ومعظم الميليشيات ممولة من الدولة، وتم إنفاق ملايين الدولارات من مخصصات الميزانية على تجهيزها لتكون جيش البلاد، لكنها في المقابل متورطة في ارتكاب جرائم حرب وانتهاكات حقوق الإنسان، بالإضافة إلى ضلوعها في عمليات تهريب الأسلحة والمخدرات واللاجئين.
وربما هذا هو ما دفع منظمة العفو الدولية إلى أن تطالب السلطات الليبية في بيان لها عبر موقع تويتر، بإطلاق سراح المئات من طالبي اللجوء والمهاجرين، بعد أن قامت الميليشيات باعتقالهم بشكل تعسفي في طرابلس، في تكرارٍ لما سبق أن لفتت إليه في تقرير صدر في شهر أكتوبر 2021، بشأن استخدام قوات الأمن والميليشيات المسلحة في طرابلس القوة المميتة غير المشروعة وأنواعاً أخرى من العنف في عمليات اعتقال غير مسبوقة لأكثر من 5000 رجل وامرأة وطفل من أفريقيا جنوب الصحراء، واحتجازهم في ظروف مروعة حيث يتفشى التعذيب والاعتداء الجنسي.
الواقع المؤلم
وبينما تواصل الإدارة الأمريكية عبر سفارتها لدى ليبيا وبعثة الأمم المتحدة جهودها لتحقيق توافق مفتقد بين مجلسي النواب والدولة حول القوانين المنظمة للعملية الانتخابية، لا يحمل الأفق القريب أي مؤشر على إمكانية أن يحقق الليبيون قريبا حلمهم بانتخاب رئيسهم المقبل في مناخ آمن ومستقر، على حساب الميليشيات المسلحة التي تتهيأ مجددا لابتلاع السلطة الانتقالية وتطويعها، كما فعلت مع نظرائها وأسلافها في السابق.
وتسابق الديبلوماسية الأمريكية ستيفاني ويليامز عامل الوقت الذي يهدد شرعية السلطة الانتقالية بحلول شهر يونيو المقبل، على اعتبار أنه نهاية هذه الفترة وفقا لملتقى حوار جنيف.
من وجهة نظر ويليامز، فإن المؤسسات الوطنية في ليبيا تواجه أزمة في شرعيتها لا يمكن حلّها إلا من خلال الانتخابات التي يتعين إجراؤها بحلول هذا التاريخ، في ترحيل جديد لموعد الاستحقاق الانتخابي التاريخي.
هذا الملف الذي يعكس عمق الأزمة التي لا زالت تعاني منها ليبيا حتى الآن، باعتبار أن آفة هذه الدولة النفطية هي ميليشياتها المسلحة، لكن يبقى أن استقرارها بعدما وقعت منذ عام 2011 وعلى مدى عقد كامل، في براثن الفوضى وأتون الحرب الأهلية لا زال ضربا من الخيال ومجرد تمنيات تصطدم بواقعها المؤلم.