خالد محمود
قبل نحو أسبوعين من إجراء أول انتخابات رئاسية مباشرة في تاريخ ليبي، لا يبدو أن المواطنين الليبيين سيتوجهون إلى صناديق الاقتراع في موعده المحدد بحلول الرابع والعشرين من ديسمبر 2021، حيث يتجه قطار الانتخابات الليبية الى التأجيل الحتمي، رغم إصرار أمريكي لافت للانتباه على قيادته، في تجاهل تام لكل المخاطر والتهديدات المحتملة.
ومع احتدام الجدل حول مسار الانتخابات التي تستهدف إنهاء حقبة الفوضى والاضطرابات التي شهدتهما ليبيا على مدى السنوات العشر الماضية، أثارت عدة وقائع جرت مؤخرا غرب ليبيا مخاوف من اضطرابات على نطاق أوسع خلال التصويت إثر اقتحام مسلحين خمسة مراكز انتخابية وسرقة بطاقات الاقتراع.
اضطرابات وقلاقل أمنية
وإلى جانب الهاجس الأمني وانعدام تواجد قوات أمنية وعسكرية قادرة على تأمين عملية الانتخاب، يبقى الانقسام السياسي حول القوانين المنظمة للانتخابات ما بين مجلسي النواب (المتواجد في مدينة طبرق) والأعلى للدولة (المتواجد بالعاصمة طرابلس). كما أن هناك ثمة صخب إعلامي وسياسي صاحب دخول عبد الحميد الدبيبة رئيس حكومة الوحدة قائمة المتنافسين في الانتخابات الرئاسية برغم تعهده الخطي السابق بعدم الترشح.
صناديق الاقتراع أو الذخيرة!!
وبينما يفترض أن يتوجه 2.8 مليون ناخب ليبي إلى صناديق الاقتراع لاختيار رئيسهم المقبل وممثليهم في مجلس النواب الجديد، فإن ما صاحب عملية الترشح لمرشحين مثيري للجدل، مثل سيف الإسلام النجل الثاني للعقيد الراحل معمر القذافي والمشير خليفة حفتر الرجل القوي في شرق البلاد والقائد العام للجيش الوطني الذي تهيمن قواته على أغلب مناطق شرق وجنوب البلاد (بعدما تقاعد استعدادا للترشح)، يلقى بظل من الشك حول مدى استعداد الليبيين أنفسهم سياسيا للجوء إلى صناديق الاقتراع بدلا من الذخيرة لحسم مستقبلهم السياسي.
لم يتوانى خالد مازن وزير الداخلية بحكومة الوحدة عن الاعتراف مؤخرا بالعجز الأمني عن تأمين الانتخابات. كما لم يتوقف تيار جماعة الإخوان المسلمين المتحالف مع تركيا من التلويح باستخدام السلاح لمنع إجراء الانتخابات.
الصادق الغرياني، المفتي المقال من منصبه بقرار من مجلس النواب، دعا صراحة إلى اللجوء لما وصفه بقعقعة السلاح للحيلولة دون إتمام العملية الانتخابية بشكلها الراهن، وهو ما سبق إليه خالد المشري رئيس مجلس الدولة وأحد أبرزقيادات جماعة الإخوان المسلمين.
ودخل عماد السايح رئيس مفوضية الانتخابات العليا على خط الأزمة، ما دفع مجلس النواب إلى مساءلته عن هذا التورط الذي يجعل المفوضية جزءاً من المشكلة وليس الحل.
وعبر عبد الله بلحيق الناطق الرسمي باسم المجلس عن ذلك بقوله إن أعضاء المجلس يأملون عدم تأجيل الانتخابات المقبلة، لافتا إلى مناقشة ترشح الدبيبة الذي اتهمه باستخدام أموال الشعب الليبي في حملته الانتخابية وبعدم الالتزام بقوانين الانتخابات.
ملف المرتزقة ما بين موسكو وأنقرة
وغير بعيد عن ذلك، ورغم التغير المذهل والمفاجئ في نبرة تركيا السياسية حيال استعدادها للعمل مع أعدائها في المنطقة الشرقية، بما في ذلك الجيش الوطني ومجلس النواب، وفتح قنصلية في بنغازي، فإنه لا توجد مؤشرات على أن أنقرة مستعدة على الفور لسحب قواتها العسكرية من ليبيا إلا بعد الحصول على صفقة سياسية شاملة.
هذا الموقف عبرت عنه ضمنيا تصريحات اللواء خالد المحجوب مسؤول إدارة التوجيه المعنوي بالجيش الوطني وأعضاء اللجنة العسكرية المشتركة 5+5 التي تضم طرفي النزاع العسكري في ليبيا، بعد تنقلها ما بين روسيا وتركيا لبلورة اتفاق يسمح بخروج المرتزقة والقوات الأجنبية من الأراضي الليبية قبل موعد الانتخابات.
وبينما اعترف مسؤولو الجيش الوطني الليبي بصعوبة إخراج المرتزقة قبل هذا الموعد الوشيك، فإن ورقة المرتزقة تظل أحد أدوات الضغط التركي على مناوئ أنقرة في ليبيا وعنصر مساومة مع روسيا في رسم حدود ومستقبل وخارطة التواجد العسكري الروسي والتركي في منطقة الشرق الأوسط.
عودة وليامز من جديد
لم يعد بإمكان إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إخفاء أصابعها أكثر من ذلك في ملف الأزمة الليبية، فقد ألقى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، مساء يوم الاثنين، بآخر أوراقه في محاولة لإنقاذ الانتخابات من مصير التأجيل، عبر تعيينه الدبلوماسية الأمريكية ستيفاني وليامز مستشارة خاصة له معنية بالشأن الليبي.
وحدد بيان منسوب إلى المتحدث باسم غوتيريش المهام الجديدة للسيدة وليامز في قيادة “جهود المساعي الحميدة والوساطة والانخراط مع أصحاب المصلحة الليبيين الإقليميين والدوليين لمتابعة تنفيذ مسارات الحوار الليبي الثلاثة – السياسية والأمنية والاقتصادية – ودعم إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في البلاد”.
البيان نفسه لفت الى ما وصفه بالخبرة الواسعة لوليامز في الدبلوماسية وسياسة الأمن الخارجي، على الصعيدين الدولي وفي بلدها، بما في ذلك عملها كممثلة خاصة بالإنابة ورئيسة بعثة الأمم المتحدة في ليبيا (أونسميل) في الفترة بين 2020-2021، ونائبة الممثل الخاص للبعثة في الفترة بين 2018-2020.
ولم يفوّت البيان الفرصة للإشارة بوضوح الى أن وليامز بصفتها عضو رفيعة المستوى في السلك الدبلوماسي برتبة وزيرة – مستشارة، تولت عام 2018، مهام القائمة بأعمال السفارة الأمريكية بالنيابة في ليبيا، من مقرها المؤقت في تونس.
وكان لافتا أيضا إشادة غسان سلامة المبعوث الأممي السابق إلى ليبيا بهذه الخطوة، حيث أثنى في تغريدة له عبر موقع تويتر على إعادة من أسماها بالزميلة ويليامز إلى موقع المسؤولية في ليبيا لما يعرفه “عن حنكتها وقدراتها وعزمها على استكمال ما بدأناه معاً”، متمنيا لها “كلّ التوفيق في أداء مهمتها لما فيه الخير العميم لهذه البلاد العزيزة ولأهلها”.
قيادة أمريكية واضحة
عودة وليامز بالأساس إلى صدارة عملية البحث الدولية عن حل للأزمة التي تعاني منها ليبيا بعد عقد كامل من الإطاحة بنظام حكم العقيد الراحل معمر القذافي، تعني أيضا عودة واشنطن لقيادة هذه العملية بدون مواربة.
لكن العودة لم تكن مفاجئة تماما، حيث سبقتها تسريبات أمريكية بتفكير الأمين العام للمنظمة الدولية أنطونيو غوتيريش في الاستعانة مجددا بويليامز لتجنب إجراء تصويت مثير للجدل في مجلس الأمن الدولي بعد الاستقالة المفاجئة للدبلوماسي السلوفاكي يان كوبيتش من منصبه كرئيس للبعثة الأممية بدعوى رفضه ممارسة عمله من مقرها في العاصمة الليبية طرابلس.
مجلس الأمن المكون من 15 دولة ويعمل بالإجماع، تعد موافقته ضرورية لتعيين مبعوث جديد، لكن القلق الأمريكي من روسيا دفع واشنطن إلى البحث عن بديل آخر لتواجد وليامز على رأس البعثة الأممية دون الحاجة إلى موافقة المجلس.
ليبيا تستهلك الموظفين الدوليين
ورغم أن الأزمة الليبية استهلكت حتى الآن 8 مبعوثين أمميين من مختلف الجنسيات، من بينهم ثلاث دبلوماسيين عرب، اثنان من لبنان وأردني شغلوا مناصب وزارية في بلدانهم، لكن رجوع الأمريكية وليامز إلى عملها يبدو محاولة أمريكية لقطع الطريق على تعيين دبلوماسي بريطاني لشغل المنصب.
بعد استقالة كوبيتش الذي أمضى في منصبه أقل من عشرة شهور فقط منذ بدء عمله في فبراير2021 تداول دبلوماسيون معلومات عن احتمال الاستعانة بجهود الدبلوماسي البريطاني المخضرم نيكولاس كاي الذي عمل في السابق في جهاز المخابرات البريطانية وشغل رئيس البعثة الأممية في الصومال، بعدما كان سفيرا لبريطانيا في الكونغو والسودان ومسؤولاً عن الإدارة الإفريقية بوزارة الخارجية البريطانية.
ورغم أن اسم كاي كان يتردد منذ عام 2016 باعتباره أحد المرشحين المحتملين لرئاسة البعثة الأممية إلى ليبيا، فإن كوبيتش هو ثالث مبعوث أممي يستقيل من منصبه في ليبيا بعد استقالة زميليه اللبناني غسان سلامة والبلغاري نيكولاي ملادينوف.
البحث عن معجزة سياسية
وبينما يراهن الكثيرون على قدرة وليامز على تحقيق معجزة سياسية جديدة في ليبيا بعدما ساهمت في تدشين السلطة الانتقالية التي تولت زمام الأمور شكليا عقب ملتقى الحوار السياسي الليبي الذي رعته في مدينة جنيف السويسرية عام 2019، بما في ذلك المجلس الرئاسي برئاسة محمد المنفي وحكومة الوحدة برئاسة عبد الحميد الدبيبة، فإن المخاوف لا تزال قائمة حيال مستقبل العملية الانتخابية في ليبيا.
من وجهة نظر خوسيه ساباديل رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي في ليبيا فإن رؤية ويليامز ستكون مفتاحا لنجاح العملية السياسية، وهو رأي يشاطره إياه الكثيرون ممن يرونها بمثابة اضافة كبيرة لحلحلة الأزمة.
لكن وسائل الإعلام الأمريكية الرصينة أبدت تحفظا ليس فقط على أداء إدارة بادين في الملف الليبي، وإنما في إمكانية أن يسفر ذلك عن حل.
وعلى سبيل المثال، خلصت مجلة فورين بوليسي إلى أن ما وصفته بالانتخابات المستعجلة “لن تجلب السلام لليبيا”، فيما اعتبرت صحيفة واشنطن بوست أنه رغم تمني الليبيين أن تنهي الانتخابات عقدا من النزاع، ” لكن لديهم مخاوف من أنها ستمزق البلاد”.
طبول الحرب تدق مجددا
تعيين وليامز ليس منفصلا عن اهتمام أمريكي رسمي متصاعد بالملف الليبي، وليس أدل على ذلك من جلسة الاستماع التي عقدتها يوم الخميس لجنة الخارجية بمجلس النواب الأمريكي المختصة بشؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تحت عنوان “ليبيا: ماذا بعد؟ الطريق إلى السلام”، برئاسة عضو الكونغرس تيد دويتش، ومشاركة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية وحضور مسؤولي وزارة الخارجية الأمريكية.
وبينما تهيمن الميليشيات المسلحة المؤثرة في ميزان القوى على مساحات شاسعة من ليبيا، فإن هناك مخاوف حقيقية من اندلاع فوضى بسبب الانتخابات في ظل مساندة جماعات مسلحة لمرشحين متنافسين.
طبول الحرب تدق في كل الحالات، فاتمام الانتخابات بشكلها الحالي يعني اندلاع حرب، تماما مثل تأجيلها، لعدة عوامل محلية وإقليمية لعل أبرزها المتعلق بعدم وجود مؤسسة عسكرية وأمنية وطنية ليبية قادرة على فرض السيطرة على البلاد وإنهاء التواجد العسكري الأجنبي فيها.