عندما أعلن اللواء الليبي المتقاعد، خلفية بلقاسم حفتر، بداية “عملية الكرامة” في وقتٍ سابق هذا العام، مما أثار بعض ردود الفعل الحذرة من قبل المجتمع الدولي، ردد العديد من الخبراء أنّ الأمور، على أية حال، لا يمكن أن تزداد سوءاً. كانت ليبيا تعاني من اضطرابات شديدة وأياً كان الإجراء المتخذ، سيكون بالتاكيد مُجدياً: الإقتصاد منهار، والبلاد بأكملها تعاني شللاً وظيفياً بسبب تقطيع أوصالها من قبل المليشيات المسلحة، إلى جانب الإغتيالات السياسية، وتهريب الأسلحة والمخدرات وما إلى ذلك.
شكّل حفتر بشعره الأبيض، ولباسه العسكري المتكامل الأنيق، وصوته الخافت، ومظهره الأبوي الحنون، بديلاً جذاباً عن الإسلاميين الملتحين، أو أفراد الميليشيات الأصغر سناً مفرطي الحماس. أضافت مسيرته في الجيش وخبرته في العديد من الحروب، فضلاً عن السنوات التي قضاها في المنفى، في الولايات المتحدة الأمريكية، المزيد من البريق إلى صورته. وفي نظر المراقبين الأجانب والعديد من الليبيين، كان رجل المواقف وأمل ليبيا.
ولكن بدخول شمال افريقيا أكثر المراحل سواداً منذ بداية الربيع العربي قبل أكثر من ثلاثة أعوام، أدى انقلاب حفتر العسكري إلى تفاقم الوضع بالتأكيد. يُسيطر المتطرفون الذين تعهد بالتخلص منهم على معظم الاراضي الليبية، كما انّ البلاد منقسمة إلى جزئين (على الأقل)، في حين أنّ الإقتصاد في تراجعٍ مستمر. ويُقال أن حفتر هرب إلى مصر، حيث منبع دعمه الأساسي.
في 14 فبراير 2014، سجّل اللواء حفتر بياناً تلفزيونياً مصوراً مدعياً فيه بسط سيطرته على مختلف أنحاء البلاد: انقلاب من الطراز القديم! أرسلت التحذيرات إلى مجالس الوزراء في جميع أنحاء العالم، بينما تصدرت الأخبار العاجلة شاشات التلفاز. بعد مضيّ دقائق، وساعات، وحتى أيام، لم يوجد أيّ أثر يُذكر لحفتر في العاصة الليبية أو في أي مكانٍ آخر. سرعان ما اتضح عكس ذالك تماماً ليتبين أنّ الأمر لا يعد سوى انقلاب إعلامي أمام كاميرات التلفزيون، ليُلقب “الإنقلاب التلفزيوني”!
عاود حفتر الظهور بعد شهرين، في 16 مايو ليعلن بداية “عملية الكرامة”. كان خطابه قومياً وذو منحني أمني، معارضاً الإسلاميين بلغة الدين وبواجهةٍ ديمقراطية. نصّب حفتر نفسه كزعيم وموحد ليبيا، إلا أنه ايضاُ لم ينسى تصوير نفسه كبطلٍ من شمال افريقيا يعمل من أجل إجتثاث الإرهاب. كان يسعى إلى إرضاء كلٍ من المجتمع الليبي الممتعض والمجتمع الدولي.
في البداية، كانت تحركاته العسكرية محدودة في الجزء الشرقي من ليبيا، وحول بنغازي- معقل الإسلاميين. كان مقر قيادة أركان عملية الكرامة جنوب تلك المدينة (حيث تعرض لمحاولة اغتيال يقودها انتحاري وتعرض لجروحٍ طفيفة). بعد مضاعفة الهجمات البرية، أرسل اللواء المخادع طائرات مقاتلة لقصف قواعد الإسلاميين. وأصبح من الواضح أنه يحظى بالدعم والإمدادات من جارته مصر، التي يعتبر رئيسها، المشير السابق عبدالفتاح السيسي، قدوة حفتر.
قاد السيسي انقلاباً في يوليو 2013، بعد مظاهرات شعبية مناهضة للرئيس من جماعة الإخوان المسلمين، محمد مرسي (المنتخب في يونيو 2012). سلم السلطة آنذاك للحكومة المؤقتة (رمزياً)، طمعاً منه بكرسي الرئاسة. ومع إجراء الإنتخابات الرئاسية في مايو 2014، حصل على نسبة 97% من الأصوات. عمل على حظر جماعة الإخوان المسلمين، ويبدو أنه فاز في المعركة أمامهم (حتى الآن). ولكنه أعاد مصر مجدداً إلى الحكم الإستبدادي.
ولكن لا يمكن محاكاة نموذج السيسي في ليبيا بهذه البساطة، ذلك أنّ حفتر يكاد يكون صورة كاريكاتورية للسيسي. على مدى السنوات الثلاث الأخيرة، اهتزت مصر بسبب الإضرابات العامة وقمع الشرطة، بينما دخلت ليبيا براثن الحرب الأهلية. يوجد في مصر مؤسسات عاملة، بينما لم يتبقى شيء منها، تقريباً، في ليبيا. مصر لديها جيش قوي يعدّ الدعامة الرئيسية للدولة منذ عقود ولربما قرون، بينما لطالما كان الجيش الليبي ضعيفاً ومنقسماً. ترعرع السيسي في صفوف القوات المسلحة، ولم يغادر الثكنات العسكرية قط، إلى أنّ ترأس الجيش عام 2012. في حين انقطع حفتر عن القوات الليبية لأعوام. يبلغ السيسي 59 عاماً، بينما حفتر في عامه الواحد والسبعين… الخ.
وبالتالي، في حين نصّب حفتر نفسه رئيساً للجيش الوطني الليبي، بهدف استعادة النظام وتصحيح مسار الديمقراطية، كان يخاطب في الواقع مجموعة من الجنود، لا تتجاوز بضعة آلاف، وضعهم تحت إمرته حيث تمكن من إقناع بعضهم، وجذب القسم الآخر بالمال، إذ لم يملك قط جيشاً مثل السيسي. تتركز أعماله في المنطقة حول بنغازي، وأفعاله محدودة دوماً، سواء من ناحية الحجم أو النتائج.
ومع ذلك، حققت عملية “كرامة ليبيا” بعض الأهداف. اتضح بعد الهجوم المسلح ضد البرلمان (المؤتمر الوطني العام) في طرابلس، وهي مدينة تقع غرب ليبيا وأقرب إلى الحدود التونسية والجزائرية، في مايو الماضي، وجود مؤيدين لحفتر داخل العاصمة. بالإضافة إلى ذلك، أدت الحركة إلى تسريع العجلة السياسية وجرت الإنتخابات التي طال انتظارها أخيراً في 25 يونيو.
ضاق الشعب الليبي ذرعاً بالإسلاميين اللذين حكموا البلاد ما يقرب العامين، وقام بإقصائهم. تألف البرلمان الجديد (مجلس النواب) إلى حدٍ كبير من القوميين والمستقلين (الأقرب إلى القوميين). ومع ذلك، كان الإقبال منخفضاً جداً (18%)، ولم تفتح العديد من مراكز الإقتراع ابوابها غداة يوم الإنتخابات. كما انقسمت البلاد باكملها بين مؤيدٍ ومعارض، إذا لم يتقبل من في السلطة، القادمون الجدد، بينما أراد القادمون الجدد سحب البساط من بين أقدام من في السلطة. لعبة جديدة دون أي محصلة على وشك أن تبدأ.
رد الإسلاميين
ومع رفضهم للهزيمة، وشعورهم بتحالفٍ وشيك بين مجلس النواب وحفتر ضدهم، اتحد الإسلاميون وبخاصة ميليشيات من طرابلس ومصراتة فيما أطلق عليه “عملية فجر ليبيا” حيث أعادوا السيطرة على العاصمة، في حين حاولوا مهاجمة مطار طرابلس الدولي في يوليو الماضي، والذي كان يخضع لسيطرة قبيلة الزنتان، وهي ميليشيا متحالفة مع حفتر من المنطقة الغربية. كما بدأت جماعات إسلامية أخرى هجوماً واسع النطاق في بنغازي.
وصفت هذه الفترة باعتبارها الأكثر تصعيداً منذ نهاية الحرب الأهلية ضد القذافي عام 2011. غادر معظم المغتربين والدبلوماسيين البلاد، بينما فر عشرات الآلاف من اللاجئين إلى تونس ومصر. وتجاوز عدد الضحايا الألف، في حين لا يوجد تعداد دقيق للمصابين. تعطلت المدارس وبدأت العديد من السلع تختفي من المدن الرئيسية.
في 17 أغسطس، أعلن الإسلاميون سيطرتهم التامة على بنغازي، والذين اتهم بعضهم باقتحام السفارة الأمريكية في سبتمبر 2012، مما أسفر عن مقتل السفير كريستوفر ستيفنز. وبعد بضعة أيام، في 23 أغسطس، سيطر حلفائهم في طرابلس على المطار (مما نتج عنه تدمير عدة طائرات، وتضرر العديد من مباني المطار وناقلات النفط). ومن غير الواضح ما إذا كانت تلك الميليشيات الإسلامية المختلفة على استعداد للعمل معاً في المستقبل، لكن فيما يخص شن الحرب، يدٌ واحدة. خسر حفتر الجولة الأولى من “عملية الكرامة”.
الآن، أمست طرابلس، ومصراتة، وبنغازي، ثلاث من المدن الرئيسية في ليبيا، تحت سيطرة الإسلاميين (وتمت إعادة إنعاش المؤتمر الوطني العام). وانتقل مجلس النواب إلى أقصى شرق البلاد، مدينة طبرق، التي على ما يبدو تحميها مصر، لتشكّل ما يشبه المنطقة العازلة بين مصر و”ليبيا الإسلامية”. تُسيطر ميليشيات مسلحة أخرى على مناطق أخرى في الأجزاء الشمالية والغربية والجنوبية للبلاد. وتجري قوى أجنبية (مثل مصر، والإمارات العربية المتحدة، والولايات المتحدة الامريكية…) غاراتٍ عسكرية محدودة ومتقطعة في البلاد، ومع ذلك لا يلوح في الأفق أي مخرجٍ لهذه الأزمة.
أصبحت ليبيا أكثر انقساماً وتهالكاً من ذي قبل.