علي نور الدين
ليس هناك أدنى شك بأنّ ثمّة ما يكفي من مصالح سياسيّة واقتصاديّة وأمنيّة استراتيجيّة دفعت الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون إلى زيارة الجزائر في أغسطس 2022، بوفد ضخم ضم تسعين شخصيّة، بينهم سبعة وزراء.
ضخامة الوفد المرافق بحد ذاتها، دلّت على الأهميّة الاستثنائيّة التي أعطاها ماكرون لهذه الزيارة، وكذلك الإعلان المشترك الذي أبرمه ماكرون مع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون، والذي حمل عنوان “شراكة متجددة وملموسة وطموحة“.
إلا أنّ تطوير هذه الشراكة التي يحتاجها ماكرون بشكل ملح اليوم، مازال يواجه جروح الذاكرة بين الجزائر وفرنسا. وهذه الجروح تراكمت بفعل الأحداث الشائكة التي حكمت العلاقات بين الدولتين طوال القرنين الماضيين، بما فيها أحداث حقبة الاستعمار وحرب التحرير الوطنيّة الذي ذهب ضحيّتها مئات آلاف الجزائريين.
وماكرون تحديدًا كان أحد اللاعبين الذي زادوا من تأزّم هذه العلاقة منذ نحو عام، يوم اعتبر في تصريحات استفزازيّة أن الجزائر لم تكن موجودة كأمّة قبل أن تستعمرها فرنسا، ما انعكس على مستوى الترحيب الشعبي بزيارته الأخيرة في الجزائر.
لماذا تحتاج فرنسا الجزائر اليوم؟
ثمّة ما يحتاجه ماكرون من الجزائر اليوم، وخصوصًا على مستوى إمدادات الغاز. فقبل الحرب الأوكرانيّة، اعتمدت فرنسا على روسيا لتأمين 17% من حاجتها للغاز، فيما بدأت شركة غازبروم الروسيّة الآن بتعليق شحناتها من الغاز المباعة لشركة الطاقة الفرنسيّة إنجي، بحجّة “خلاف بين الطرفين على تطبيق العقود“.
ومن المعلوم أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بدأ منذ اندلاع الحرب الأوكرانيّة بتقليص كميات الغاز المتدفّق نحو أوروبا، ردًّا على العقوبات التي تم فرضها على روسيا، وهو ما دفع الفرنسيين للاستعداد لسيناريوهات انقطاع الغاز الروسي بشكل تام. وهكذا، تمثّل كل هذه التطوّرات كابوسًا مرعبًا بالنسبة للأوروبيين، على أعتاب الشتاء الذي يشهد في العادة ارتفاعًا في معدلات الطلب على مصادر الطاقة، من أجل التدفئة.
اتجه ماكرون سريعًا للجزائر، بوصفها الدولة المثاليّة التي يمكن أن تساهم في ملء فجوة تناقص إمدادات الغاز الروسي. فالجزائر تملك اليوم نحو 159.05 تريليون قدم مكعّبة من احتياطات الغاز المؤكّدة، لتحتل بذلك المرتبة العاشرة عالميًّا على هذا الصعيد.
ومن الناحية العمليّة، ترتبط الجزائر أساسًا بخطوط غاز مع أوروبا، عبر الأراضي الإيطاليّة، وهو ما كان كافيًا لتغطية 11% من الطلب الأوروبي على الغاز. وهكذا، لم يخف ماكرون خلال زيارته للجزائر رهانه على التعاون مع الجزائر لتنويع إمدادات الغاز باتجاه السوق الأوروبي، في إشارة إلى اتجاه الأوروبيين لتقليص اعتمادهم على الغاز الروسي، وزيادة اعتمادهم على مصادر أخرى للغاز، ومنها الجزائر.
وللتأكيد على هذه المسألة، توازت الزيارة مع أنباء صحفيّة عن قرب توصّل شركة إنجي الفرنسيّة لاتفاق مع الجزائر، لزيادة واردات الغاز الطبيعي نحو فرنسا، وهو ما يمكن أن يعوّض انخفاض الغاز الوارد إلى هذه الشركة الفرنسيّة من روسيا. مع الإشارة إلى أنّ فرنسا تعتمد على الجزائر لتأمين 8% فقط من حاجتها للغاز الطبيعي، وهي نسبة يمكن زيادتها بشكل كبير خلال الأشهر المقبلة، وخصوصًا إذا ما بذلت السلطات الفرنسيّة الجهد الدبلوماسي اللازم لذلك.
على أي حال، يراهن ماكرون على الجزائر في ملف الغاز من ناحية أخرى أيضًا. فالجزائر تدشّن في الوقت الحالي مشروعا لمد أنابيب غاز تصلها بدول أفريقيّة أخرى كنيجيريا والنيجر. وهكذا سيكون بإمكان هذه الدول الأفريقيّة أن تصدّر غازها الطبيعي إلى الجزائر عبر هذه الأنابيب، قبل إعادة تصدير هذا الغاز إلى أوروبا عبر الأنابيب التي تصل الجزائر بإيطاليا.
وبهذه الطريقة ستكون الجزائر قد ساهمت مرّة بهذه الطريقة أيضًا بتقليص الفجوة الناتجة عن تراجع إمدادات الغاز الروسي باتجاه أوروبا. مع الإشارة إلى أنّ الدول وقّعت عقود هذا المشروع الضخم، الذي ستبلغ كلفته 13 مليار دولار، فيما سيسمح بنقل 30 مليار متر مكعّب من الغاز سنويًّا إلى أوروبا.
بالإضافة إلى كل ذلك، يحتاج ماكرون إلى التنسيق الأمني مع الجزائر في قضيّة الهجرة غير الشرعيّة، والتي يشير الفرنسيون إلى أنّ جزءا كبيرا منها يمر من أفريقيا عبر الأراضي الجزائريّة باتجاه أوروبا.
وماكرون أشار بالفعل بعد لقائه الرئيس الجزائري إلى أنّ فرنسا دعت الجزائر لأن تكون “أكثر فعاليّة في محاربة الهجرة غير القانونيّة”، من خلال “العمل معًا وفي مناخ من الثقة الجماعيّة”، من أجل استباق هذه الهجرة ومنعها. وبهذا المعنى، يطلب ماكرون من الجزائر التعاون لمنع انطلاق المهاجرين غير الشرعيين عبر شواطئها، قبل وصولهم إلى السواحل الأوروبيّة.
جروح الذاكرة
تمكّن ماكرون من تحصيل بعض المكاسب من زيارته إلى الجزائر، وخصوصًا لناحية زيادة واردات الغاز إلى شركة إنجي الفرنسيّة. لكنّ هذه الزيارة لم تخلُ من العديد من المؤشّرات على أنّ جروح الذاكرة الجزائريّة لم تندمل بعد، وخصوصًا على المستوى الشعبي.
فجولات ماكرون في مدينتي الجزائر ووهران قابلتها مظاهرات شعبيّة هتفت في وجه الرئيس الفرنسي للجزائر واستقلالها، في إشارة إلى عدم ترحيب أهالي المدينتين بهذه الزيارة.
ولعل تصريحات ماكرون السابقة، التي أشارت إلى عدم وجود أمّة جزائريّة قبل استعمار البلاد من قبل فرنسا، ساهمت في خلق ردة الفعل السلبيّة هذه في وجه زيارة ماكرون، خصوصًا أن هذه الزيارة لم تترافق مع أي مراجعة فرنسيّة جديّة لتاريخ العلاقة بين البلدين.
وحتّى المنصّة التي اعتلاها ماكرون للحديث مع وسائل الإعلام خلال زيارته، حملت إسم “الرئاسة الجزائريّة” باللغتين العربيّة والإنكليزيّة، في إشارة من منظمي الاستقبال إلى سعي الجزائر للنأي بنفسها عن إرث الحقبة الاستعماريّة، والتي أورثت الجزائر الاعتماد على اللغة الفرنسية كلغة ثانية في البلاد.
مع الإشارة إلى أنّ الرئيس الجزائري نفسه كان قد بدأ أساسًا بالتوجّه نحو تقليص اعتماد بلاده على اللغة الفرنسيّة بشكل متدرّج، لمحو آثار الحقبة الاستعماريّة، من خلال قرارت قضت باعتماد اللغة الإنكليزيّة في الصفوف الابتدائيّة بدل اللغة الفرنسيّة. كما كانت وزارة التربية والتعليم قد أعلنت عام 2019 عن التوجّه لتكثيف تعليم اللغة الإنكليزيّة في صفوف الدراسات العليا، تحضيرًا لاعتمادها بشكل تام بدل الفرنسيّة.
باختصار، لا يبدو أن ماكرون قد قدّم للجزائريين ما يكفي لمعالجة إشكاليّات التاريخ بين البلدين. فهو لم يقدّم الاعتذار الذي يطالب به الجزائريون اليوم عن كل ما اقترفته فرنسا خلال فترة استعمارها للجزائر، وعن مئات آلاف الضحايا الجزائريين الذين سقطوا خلال حرب التحرير الجزائريّة.
وفي هذه المسألة، يبدو أنّ ماكرون بات مقيّدًا من قبل اليمين المتطرّف الفرنسي، الذي يزايد عليه شعبيًّا داخل فرنسا، ويعارض إعادة قراءة تاريخ فرنسا وتجاوزتها خلال فترة الاستعمار. وكان ماكرون قد كلّف المؤرّخ الفرنسي بنجامين ستورا، المولود في الجزائر، بإعداد تقرير حول ملف الذاكرة، لكنّ التقرير الذي صدر في كانون الثاني/يناير الماضي لم يتضمّن بأي توصية بتقديم الاعتذار للشعب الجزائري.
لكل هذه الأسباب، لم يحظ ماكرون بالاستقبال الذي أراده، ولو أنّه حاول التعويض عن عدم اعتذاره بالدعوة إلى تشكيل لجنة مشتركة بين الدولتين، لدراسة الحقبة الاستعماريّة، وهو ما بدا كتملّص من الاعتذار المباشر الذي يطالب به الجزائريّون.
كما لم يلبّ ماكرون أي من المطالب الشعبيّة الجزائريّة الأخرى، وفي طليعتها معالجة مسألة التأشيرات التي قلّصت فرنسا منحها للجزائريين إلى النصف خلال خريف العام الماضي. وهكذا، اكتفى ماكرون بتقديم بعض الوعود لدراسة هذه المسألة، التي لطالما استعملتها فرنسا للضغط على حكومات دول المغرب العربي، دون أن يتم التوصّل إلى اي تفاهم جدّي بخصوص المشكلة.
في جميع الحالات، من الواضح أن ما جرى لم يكن سوى زيارة أراد منها ماكرون تحصيل بعض المكاسب الأمنيّة والاقتصاديّة، وخصوصًا في ملفات تصدير الغاز إلى أوروبا والهجرة غير الشرعيّة.
وقد تكون الجزائر قد استفادت بالفعل من زيادة التعاون مع فرنسا في ملف الغاز، خصوصًا أن زيادة صادرات الجزائر من الغاز إلى أوروبا، واستعمال أراضيها لتصدير غاز النيجر ونيجيريا إلى أوروبا، سيزيدان من العوائد الماليّة للدولة الجزائريّة. لكن رغم كل ذلك، لن تساهم كل هذه التطوّرات، ومنها زيارة ماكرون الأخيرة، في رأب الصدع التاريخي بين فرنسا والجزائر بهذه السرعة.
ملاحظة
الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء الكاتب الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.