خالد محمود
في الوقت الذي تسعى فيه مصر لعبور أزمتها الاقتصادية الجديدة، فقد أظهرت وسائل الإعلام تخبطاً ملحوظاً حول عملية صنع القرار في هذه الدولة. وبينما يحاول الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي احتواء معارضيه، فإنه يشدّد على عدم مسؤولية حكمه عن الوضع الاقتصادي المأزوم الذي تمر به البلاد.
السيسي الذي ضاق ذرعاً بمحاولات مناوئيه الاستفادة من مبادرة الحوار الوطني أبدى امتعاضه من الانتقادات الموجهة لما أطلقه في سنين حكمه من مشاريع للتنمية. وعلى هامش تدشين عدد من القطع البحرية الجديدة في قناة السويس، قال السيسي منفعلا : “حد مش فاهم يعني إيه دولة وعايز يعمل معايا نقاش. بيقولولي إيه لازمة مشروعات التنمية… اللي بيتكلم مش فاهم يعني إيه دولة”.
كلام السيسي جاء كرد غير مباشر على رفض الحركة المدنية الديمقراطية “لاندفاع السلطات في اتخاذ إجراءات اقتصادية وسياسية ذات طابع إستراتيجي قبل انطلاق الحوار، خاصة أن تلك الإجراءات تمس معيشة المواطنين وتزيد من حجم الأعباء الملقاة على عاتقهم”.
وتشير بعض الشواهد إلى وجود مشكلة مفاجئة في عملية صنع القرار السياسي في مصر، بما في ذلك التغييرات الوزارية الأخيرة وإقالة محافظ المصرف المركزي. يأتي ذلك بالتزامن مع الإعلان عن قرض وشيك من البنك الدولي، وسط مخاوف من تحرير سعر الصرف وما يعكسه ارتفاع الدولار مجددا على الأزمة الاقتصادية في البلاد.
ويرى الاقتصادي زياد بهاء الدين أن إصلاح المشاكل الهيكلية المتعلقة بالاقتصاد الحقيقي بيد الحكومة لا البنك المركزي. وبحسب بهاء الدين، فإنّ تعاطي الإعلام مع تغيير محافظ البنك المركزي كحدث سيؤدي إلى انفراج الأزمة الاقتصادية هو تصويرٌ مخالف للواقع وغير مفيد للمستقبل. وأضاف: “الإيحاء بأن الأزمة ستنفرج بمجرد تولي محافظ جديد فيه مبالغة شديدة، ويُحمّل (القائم بأعمال محافظ البنك المركزي) حسن عبدالله بما يفوق طاقته وسلطته الدستورية”. واعتبر أن هذا الإيحاء “يرفع توقعات الناس أكثر مما ينبغي، بما يهدد مصداقية أي جهود مخلصة للنهوض بالاقتصاد الوطني”.
ويواجه حسن عبد الله مهمة شاقة ، إذ يتوجب عليه إصلاح اقتصادٍ تضرر بفعل تقييم العملة بأعلى من قيمتها الحقيقية وارتفاع التضخم واستنزاف غالبية ما لدى النظام المصرفي من نقد أجنبي.
وستكون الأدوات المتاحة أمام البنك المركزي محدودة، فحرب أوكرانيا التي أحدثت هزات عالميا، أضعفت الاستثمارات في محفظة الأوراق المالية والسياحة كما رفعت تكاليف استيراد السلع.
وبحسب تقرير لوكالة رويترز، فقد تضرر الكثير من سكان مصر من إجراءات التقشف التي تم تطبيقها عقب اتفاق الحكومة مع صندوق النقد الدولي على استدانة 12 مليار دولار أمريكي في 2016. ويبلغ معدل التضخم السنوي الآن 13.6 بالمئة، وهو الأعلى منذ مارس 2019.
ويبدو أن خفض قيمة العملة وبيع بعض الأصول الحكومية من الشروط الأساسية للتوصل لاتفاق جديد مع الصندوق. وتعهدت مصر في عام 2022 ببيع أصول مملوكة للدولة بعشرة مليارات دولار سنويا على مدى السنوات الأربع المقبلة.
مغازلة الفقراء
في محاولة لمغازلة الطبقة الأفقر، وجه السيسي بزيادة الدعم الاستثنائي للأسر الأكثر احتياجا على بطاقات التموين إلى 300 جنيه بدلا من 100. كما وجه بالتجهيز لحملة إجراءات حماية اجتماعية تصل إلى مليون أسرة.
وبحسب وكالة أنباء الشرق الأوسط الرسمية، فقد شملت القرارات ضخ 32 مليار جنيه لدعم الخبز. كما تمت زيادة أعداد الأسر المُغطاة بالدعم النقدي ضمن برنامج ” تكافل وكرامة ” من 4.1 مليون إلى 5 ملايين أسرة. ويعني ذلك استفادة نحو 22 مليون مواطن مصري من برنامج الدعم النقدي المشروط.
يأتي ذلك في الوقت الذي أكد فيه السياسي المصري حمدين صباحي قبول الحركة المدنية الديمقراطية دعوة السيسي للحوار الوطني خوفاً من انفجار الوضع مصر. وقال صباحي: “نحن لم نكن شركاء في صنع الأزمة، لكننا مستعدين أن نكون شركاء في صياغة الحل إذا سُمح لنا بتوفير ضمانات حقيقية”.
الحوار كما يراه المرشح الرئاسي الأسبق والمقبل المحتمل، هو بين “سلطة ومعارضة، وليس بين سلطة وموالاة لها”.
وبعد مرور عام على إطلاق الإستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، ما زال المعارضون السلميون يتعرضون للاستهداف والإخفاء القسري والسجن بحسب ما ذكره مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان. كما يتواصل احتجاز الصحفيين والمدافعين عن حقوق الإنسان خلف القضبان. ويأتي ذلك في الوقت الذي يستمر فيه تفشي ممارسات التعذيب والحرمان من الرعاية الصحية الواجبة وحالات الوفاة أثناء الاحتجاز.
ويشير المركز بوضوح إلى مواصلة السلطات المصرية “الهيمنة على الخطاب العام، في ظل سيطرة محكمة على المجالين العام والسياسي”.
وفي نفس السياق، طالبت منظمة العفو الدولية السلطات المصرية بإسقاط جميع التهم الموجهة لأربع صحفيات مستقلات من موقع “مدى مصر” الإلكتروني. ودعت المنظمة القاهرة إلى التوقّف عمّا وصفته بـ “مضايقة إحدى المنصات الإعلامية المستقلة القليلة المتبقية في مصر”.
ودخلت هيومن رايتس ووتش على الخط باتهام السلطات المصرية “بفرض عقبات” على عمل المجموعات البيئية المصرية، وذلك قبل أسابيع على استضافة مصر لمؤتمر الأطراف الدولي للمناخ “كوب 27”.
وبحسب المنظمة، فقد أجبر القمع الحكومي عشرات النشطاء وجماعات المجتمع المدني الرائدة على مغادرة البلاد أو تقليص نشاطهم أو تركه بالكامل. وأغلقت عدة منظمات حقوقية وبيئية أجنبية مكاتبها في مصر منذ 2014.
و تراهن مصر على استضافة هذه القمة للعودة إلى صلب المشهد الدبلوماسي الإقليمي. وفي حين هنّأت العديد من العواصم الأجنبية مصر على اختيارها لاستضافة “كوب 27″، شجبت المنظمات غير الحكومية هذا الاختيار.
ورأت هذه المنظمات في الاستضافة “مكافأةً للنظام القمعي”. كما أن هذه الاستضافة تضفي مزيداً من الشرعية على دولة تشهد ركوداً سياسياً واقتصادياً بسبب مشاريع ضخمة ومكلفة يجري تنفيذها في الوقت الذي يعتبر فيه ثلث سكانها من الفقراء.
ومؤخرا قدّمت منظمتان أمريكيتان غير حكوميتين شكوى ضد مسؤولين مصريين وفرنسيين لشبهة استخدام عملية مكافحة إرهاب فرنسية في مصر لأغراض القمع الداخلي.
ينظر البعض إلى المشهد السياسي الراهن على أنه محاولة من النظام الحاكم، لما يمكن اعتباره بتجيير المعارضة لصالحه قبل قمة المناخ الدولية التي ستعقد في نوفمبر 2022.
على سبيل المثال، يعتقد خالد داوود ، الذي اختير كمقرر مساعد للجنة الأحزاب السياسية في سادس اجتماعات مجلس أمناء الحوار الوطني، أن الأخير يشعر اليوم بثقة أكبر من أي وقت آخر منذ أن تولى منصبه في يونيو 2014.
ومع عودة المزيد من المعارضين التقليديين للسيسي إلى البلاد، بمن فيهم وائل غنيم الذي كان أحد أساطير ما عرف بثورة 25 يناير، يظهر السيسي مقدرة على احتواء معارضيه وإعادة تموضعهم إن صح التعبير بما يخدم المشهد السياسي، الذي يبقى منتصرا فيه على حساب الوضع الاقتصادي.
صناعة القرار
تعتمد آلية صنع القرار بشكل معتاد على حشد من المستشارين في مختلف التخصصات. لكن عملية صنع القرار في مصر تنحصر في الدائرة المغلقة بين الرئيس ومستشاريه. وكان السيسي قد استحدث سلسلة من المستشارين ، ما فتح ا لمجال لظهور بعض المدّعين وال محتالين ضمن هؤلاء هذه الدائرة.
ويبدو أن بعض هذه التعيينات جاء كترضية للبعض. ومن الأمثلة على ذلك، تعيين طارق عامر المقال من منصب محافظ البنك المركزي كمستشار للرئيس من دون اختصاصات معينة.
ويعرف المصريون جيدا الدكتور محمد عوض تاج الدين ، وزير الصحة الأسبق الذي تم تعيينه كمستشار لرئيس الجمهورية لشئون الصحة والوقاية، ليس فقط باعتباره الرجل الذي اعتاد أن يطل عليهم اعلاميا كمسؤول مرجعي للتعامل مع أزمة كورونا، لكن أيضا باعتباره صاحب اقتراح إضافة خ انة في بطاقة الرقم القومي للمواطنين الراغبين في التبرع بالأعضاء.
ومع ذلك، يجهل الكثيرون أن فايزة أبو النجا لا زالت تشغل منصب مستشارة الرئيس لشؤون الأمن القومي، حيث بات مجرد ظهورها إعلاميا حدثا يشار إليه.
ورغم جيش المستشارين الذي يحيط بالسيسي، يرى أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة مصطفى كامل السيد أن “صانع القرار الحقيقي هو مؤسسة الرئاسة وليست الحكومة التي يتفاخر رئيسها وأعضاؤها بأنهم تكنوقراط لا علاقة لهم بالسياسة”
وتلاحظ أسماء مصطفى ، الباحثة في العلوم السياسية، أن عملية صنع القرار في مصر تسبق عملية اتخاذ القرار، ويتم الإعداد لها من قبل مؤسسات عدة منها رسمية وأخرى غير رسمية. ومن هذه المؤسسات مراكز الفكر والأبحاث التي تؤدي دوراً هاماً في تقديم المشورة اللازمة لصانع القرار المصري.
كما رأى الكاتب الراحل ياسر رزق مشكلة في القرارات السياسية على مدار سنوات طويلة. وكان كثيرٌ منها نتاج تخبط في عملية صنع القرار، أو انتقاء غير الأنسب من بين البدائل.
وفي ضوء ذلك، يعتقد هاني السلاموني أن “صناعة القرار في مصر بعافية”، مشيرا إلى أن يد صانع القرار كانت تبدو مرتعشة ومترددة في عدة قرارات تم التراجع أكثر من مرة عنها أو تأجيلها. ويدل ذلك على وجود خلل رهيب في آليات صناعة القرار وعلى الشد والجذب بين أصحاب المصالح بعيداً عن المصلحة الوطنية.
وفي ظل شعار الجمهورية الجديدة الذي يروج له السيسي، تبدو هناك حاجة لإعادة النظر في أولويات المرحلة المقبلة، فالأزمة الحالية تمثل مرحلة فارقة في حياة الرجل، قبل أن يفكر في السعي لولاية رئاسية تالية.