وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الإخوان المسلمون: صراعٌ داخلي وهواجس المنفى

يعود السبب في تعرّض الإخوان المسلمين لأزمتهم الحالية إلى انتقال السلطات المصرية من سياسة المهادنة والاحتواء إلى سياسة المواجهة.

الإخوان المسلمون
صورة تم التقاطها يوم 6 يونيو 2021 لمحمد بديع، المرشد الحالي لجماعة الإخوان المسلمين، أثناء حضوره لإحدى جلسات محاكمة في قاعة المحكمة المؤقتة بمعهد طرّة للشرطة الموجود في الضواحي الجنوبية للعاصمة المصرية القاهرة. المصدر: Khaled KAMEL / AFP.

خالد محمود

لم يسبق لجماعة الإخوان المسلمين أن عانت من الانقسام والتشظي بين قياداتها كما هو الآن. وتعيش الجماعة التي يقوم تأسيسها على مبدأ الولاء والطاعة لمرشدها العام، أكبر انشقاق في تاريخها، حيث تتصارع قيادات الحركة فيما بينها على تولي زمام الأمور، لا سيّما بعد وفاة إبراهيم منير، القائم بأعمال المرشد، في لندن.

ويتباهى الإخوان على الدوام بقدرتهم على تخطي الأزمات المتتالية. فمنذ إنشائها في عام 1928، نجحت الجماعة في عبور 12 أزمة داخلية. بيد أن الحركة تحوّلت في الوقت الراهن إلى ثلاث جبهات متناحرة تنتشر بين لندن وأنقرة. ويمثل هذا التحدي الأخطر على الإطلاق للجماعة التي لم يسبق أن أُعلن لها عن مرشدين اثنين في آن واحد.

ومنذ الإطاحة بنظام الرئيس المخلوع محمد مرسي، اضطر الإخوان المسلمون إلى ممارسة عملهم من المنفى. وجاء ذلك بعد تقطّع السبل بقيادات الحركة في سجون الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الأمر الذي تزامن مع شن حملات رسمية وشعبية ضد الإخوان في مصر. ويعود السبب في تعرّض الإخوان المسلمين لأزمتهم الحالية إلى انتقال السلطات المصرية من سياسة المهادنة والاحتواء إلى سياسة المواجهة.

تعدّد المرشدين

في بيان مقتضب، أكدت جماعة الإخوان المسلمين أن الدكتور محيي الدين الزايط سيتولى في الوقت الراهن منصب القائم بتسيير أعمالها لحين استكمال الترتيبات اللازمة بتسمية خلف القائم الراحل إبراهيم منير. وسعى الزايط، الذي يمثل جبهة لندن، لطمأنة أعضاء الجماعة في رسالته الأسبوعية. وقال الزايط في تلك الرسالة إنه “سيتم الإعلان عن الخطوات التي تم اتخاذها، وما نتج عنها من إجراءات تزيد الصف ثباتاً ومتانة”.

يأتي ذلك في الوقت الذي عززت فيه جبهة اسطنبول الانقسام الحاصل في التنظيم. وأعلن ممثل الجبهة الرسمي مصطفي طُلبة أنها قررت تعيين محمود حسين قائماً بأعمال المرشد العام، وذلك بعد إعادة تفعيل المادة الخامسة من اللائحة العامة للجماعة.

في المقابل، تحدث أشرف عبد الغفار، المحسوب على جبهة الكماليين، عن “انقلاب” سيطرت بموجبه مجموعة حسين على أموال التنظيم واستثماراته. وينسب الكماليون إلى محمد كمال، وهو أحد منظري العنف والصدام مع الدولة المصرية بعد سقوط حكم الإخوان. وكانت وزارة الداخلية المصرية قد أعلنت عن مقتل كمال أثناء محاولتها القبض عليه في عام 2018.

وخرج علي حمد، المتحدث الإعلامي باسم الجماعة، ليدافع عن قرار تعيين محمود حسين قائماً للأعمال. وقال حمد: “اللوائح تضبط التنظيم. وباعتبار حسين أكبر أعضاء مكتب الإرشاد سناً والوحيد، فقد قرّر مجلس شورى الجماعة تعيينه في منصب القائم بالأعمال”. وكانت جبهة اسطنبول قد عزلت إبراهيم منير من منصبه كقائم بعمل المرشد العام، وأعلنت اختيار لجنة مؤقتة تقوم بمهامه. وشهدت الأشهر الماضية، تصاعدا للخلافات الإدارية بين الجبهتين، بعد قرار منير بإحالة حسين وآخرين إلى التحقيق وتشكيل لجنة لإدارة الجماعة.

في المقابل، تشير السيرة الذاتية لحسين إلى أنه ابن أحد قيادات التنظيم، ما يعني استمرار هيمنة الحرس القديم حتى في انشقاقات الإخوان.

الحديث عن فشل الإخوان وانقسامهم بدأ مبكرا. وظهرت بداية هذا الانقسام مع الخلاف الذي نشب بين القيادات وأعضاء الجماعة على الطريقة التي يتم بها التعامل مع الحكومة المصرية. ومن غير المرجَّح أن تنجح مساعي رأب الصدع الحالي في صفوف الجماعة، فهي مرتبطة بخلافٍ عميق داخل التنظيم بأكمله في ظل الحالة المتردية التي وصل إليها بمختلف مستوياته.

التنبؤ بامكانية تفكك الإخوان إلى فصائل متباينة بات أحد السيناريوهات المحتملة. وإمكانية رأب الصدع بين جبهاتها المتعارضة أصبحت، كما يرى تحليل، أكثر تعقيداً وصعوبة نتيجة التصلب التنظيمي ومنحه أولوية على التطور الفكري. ومن المرجح، وفقا لهذا السيناريو، أن تذهب التنظيمات الفرعية للإخوان نحو مزيد من الانشقاقات.

الملاذات الآمنة

يعتقد كمال الهلباوي، القيادي السابق في الجماعة، أن الانقسام والصراع والتعدد مستمر، على اعتبار أنه لم يعد هناك ملاذات آمنة بالكامل. ويرى الهلباوي أن صورة الإخوان في العالم العربي تغيّرت، كما أن أمريكا تخلّت عن دعمهم.
وفقد الإخوان حاضنتهم الرئيسية في قطر وتركيا، بعدما تبرأ الشيخ تميم بن حمد من علاقته بهم. وقال أمير قطر: “هذه العلاقة غير موجودة، ولا نتعامل مع المنظمات السياسية”.

يأتي ذلك في الوقت الذي عبّر فيه الإخوان عن عدم ممانعتهم لتقارب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع مصر. ومن غير الواضح إذا ما كان الإخوان قد أدركوا الثمن الذي يتعين عليهم دفعه نتيجة هذا التقارب الحاصل بين أنقرة والقاهرة، وهو ما قد يؤدي إلى وقف جميع أنشطة الحركة المناهضة لمصر من الأراضي التركية.

ولم يستوعب الإخوان بعد حقيقة أن أردوغان الذي استخدمهم كورقة مناورة ضد الحكومات العربية في منطقة الشرق الأوسط، سيعود الآن لاستخدامهم لتحسين العلاقات معها. لهذا ربما سعى الإخوان لابتزاز أردوغان سياسيا عبر التلويح بفتح قنوات مع المعارضة التركية الداخلية. وتوقع البعض بدء التفكير العملي التركي في التخلي التدريجي عنهم.

وقد يكون مستقبل العلاقات التركية المصرية مرهوناً بالمدى الذي يبدي فيه أردوغان استعداده للتضحية بالجماعة وعدم الاكتفاء بوقف أو تجميد أنشطتهم الاعلامية. وكان أردوغان قد قال ذات يوم أنه يرفض التحدث مع “شخص مثل” السيسي. لكن الوضع تغيّر. ومثلت مصافحة وابتسامة أردوغان والسيسي على هامش افتتاح نهائيات كأس العالم لكرة القدم في قطر أول تواصل ثنائي ومباشر بينهما.

انحسار التأثير

الإخوان المسلمون
صورة تم التقاطها في 14 يوليو 2013 لإبراهيم منير، القائم بأعمال مرشد الإخوان المسلمين، أثناء مشاركته في إسطنبول بمظاهرة داعمة للرئيس المصري المخلوع محمد مرسي. المصدر: OZAN KOSE / AFP.

تحظى جبهة لندن بتواجد مؤسسي وإعلامى في بريطانيا. وتفيد تقارير رسمية بريطانية باستخدام الإخوان المسلمين لندن كقاعدة لأنشطة سرية تستهدف أماكن أخرى. واعتبرت تلك التقارير أن بعض الجوانب من أيديولوجية وتكتيكات الإخوان “مخالفة لقيم بريطانيا ولمصالحها الوطنية”.

في المقابل، بات على جبهة اسطنبول أن تعيد النظر في مستقبلها بعد استقرار العديد من رجالاتها في تركيا وحصولهم على الجنسية التركية. وأنشأ هؤلاء مؤسسات ومدارس وشركات وشبكات في تركيا.

وفشلت آخر دعوة من الإخوان لتنظيم احتجاجات في 11 نوفمبر 2022 على مستوى البلاد أثناء تنظيم مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ في منتجع شرم الشيخ المصري. ومثل هذا الفشل تعبيرا قاسيا عن انعدام تأثير الجماعة ميدانيا ، مقابل احتفاظها بقدرتها التقليدية على حشد غير مؤثر عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

ويبدو أن السيسي والعديد من المصريين الآخرين يفضلون قدرًا أقل من الديمقراطية وحرية التعبير على عودة الإسلاميين إلى السلطة. وظهر هذا التوجّه في استبعاد الإخوان من الحوار الوطني باعتبارهم “جماعة إرهابية يدها ملثقة بالدماء”.

من بين وجهات النظر المعلنة للسيسي أنه” لن يكون للإخوان دور في المشهد المصري خلال فترة وجوده في السلطة”. كما أنه رفض مؤخرا المصالحة مع الإخوان بقوله “الأمر ليس مجرد اختلاف بل دمار وخراب. أنتم لا عندكم دين ولا ضمير ولا إنسانية”.

سيناريوهات متشائمة

أحد السيناريوهات المحتملة لمستقبل الجماعة طرحه الدكتور أحمد موسى بدوي. ويفترض هذا السيناريو أن يبقى التنظيم قنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في أي لحظة حتى في حال حدوث تغيير في هيكل القيادة ودخول الجماعة مرحلة تكيف مؤقت مع المجتمع المصري.

لكن الأمر يظل مرتبطا أيضا بهيكل الإخوان المؤسسي من الداخل، إذ تنحو طريقة تسيير شؤون الجماعة إلى الفردية والشخصية. وعلى هذا الأساس، يهيمن المرشد والقيادات العليا على عملية صنع القرار.

هذا الهيكل التنظيمي تحول، كما يقول أحد الباحثين، إلى عبء على الجماعة. ويظهر هذا الأمر في بطء اتخاذ القرار والتفاعل مع المتغيرات.

وهكذا أصبح التنظيم مجرد “جسد مترهل” تسيطر عليه مجموعة صغيرة من القيادات أعادت هيكلته. ووفقا لأحد المختصين في شؤون الجماعات الإسلامية، فإن الحرس القديم في الجماعة يعاني من “أزمة تواصل حقيقية مع شبابها على مستوى الخطاب والأفكار”. واعترت الجماعة أعراض الشيخوخة التنظيمية وضعف الجانب الفكري التنظيري مقارنة بأدائها الحركي.

هذا الفشل يعزوه محمد شومان إلى الجمود الفكري والتنظيمي للإخوان، الذي أسفر عن خلافات وانشقاقات عديدة داخل الجماعة. ووفقاً لشومان فإن ارتماء أطراف الصراع الإخواني الداخلي في أحضان تركيا وقطر وفي أحضان الجماعات الإرهابية المتشددة عمّق هذه الخلافات. واعتبر شومان أن “أي عودة للإخوان مرة أخرى إلى المجال العام في مصر في العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين ستكون بمثابة مهزلة”. ويتفق مع هذا الرأي، الدكتور علي مبروك، أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة، الذي يقول بوضوح أنه لا مستقبل لمصر إلا على الضفة الأخرى المعاكسة لتلك التي ستقف عليها الجماعة.

لقد تضاءل نفوذ جماعة الإخوان المسلمين على فروعها في المنطقة. ولم تعد الحركة كما كانت ذات يوم أكبر حركة معارضة في مصر وحاملة لواء الجماعات الإسلامية في جميع أنحاء العالم.

ولم تفلح محاولات الإخوان في الترويج لفكرة أن تحديد مصير مصر السياسي سيستمر من خلال الصدام بين النظام والإسلاميين. واستندت الحركة في هذه القناعة على أن تكاليف القمع المستمر والاضطهاد للجماعة باهظة، ناهيك عن أن التكاليف غير المادية لعملية القمع تثقل كاهل القيادة المصرية.

مؤخرا قدم أعضاء في الإخوان روايات صادمة تفسر التحول الذي طرأ، إلى حد إصابة بعضهم بالاكتئاب وتعقد أزماتهم الحياتية والمالية.

الخلاصة

لطالما راهن الإخوان على فكرة أنهم غير قابلين للهزيمة حتى بإعدام بعض قادتهم. كما أنهم راهنوا على أن عنف النظام يمكن أن يؤدي إلى اضطرابات أو حتى حرب أهلية تعود بعواقب وخيمة على مصر وتداعيات سلبية على أوروبا.

لكن هذه الرهانات أثبت أنها في غير محلها، بعدما نجحت ادارة السيسي في ضرب الأساطير المؤسسة للجماعة وتعريتها. واستطاع السيسي أن ينهي تغلغل الإخوان في الحياة الاجتماعية والسياسية المصرية الجماعة عبر تصفية المؤسسات الخيرية والمستشفيات والمراكز التعليمية التي أنشأتها الحركة منذ سبعينيات القرن الماضي لتقدّم نفسها كبديل للدولة.

ولم تعد الجماعة طرفا مؤثرا في المشهد المصري، إذ يبدو أنها بانتظار أن تطلق على نفسها رصاصة الرحمة، أو معجزة مفاجئة لانقاذها، من عهد الاضمحلال التاريخي الذي تمر به، بعدما فقدت الكثير من إمكانياتها المالية والتنظيمية وتفككت شبكة علاقاتها الخارجية والداخلية.