مات ناشد
تواصل الإمارات العربية المتحدة رسم مسار خاص بها في العلاقات الخارجية بعيدًا عن النفوذ الأمريكي. ومع ذلك فإن طموحاتها الكبيرة ومخاوفها الوجودية تهدد شراكتها الطويلة الأمد مع البيت الأبيض. فآخر خلاف بين البلدين كان بشأن صفقة أسلحة تُقدّر بأكثر من 23 مليار دولار، وكان الرئيس السابق دونالد ترامب قد وافق عليها أول الأمر ضمن مبادرته لصنع السلام في المنطقة العربية بعد تطبيع الإمارات علاقاتها مع إسرائيل مقابل خمسين طائرة من طراز F-35 أكثر المقاتلات الأمريكية تطوّرًا.
تابعت إدارة بايدن الصفقة بعد حصولها على وعود بضمانات مهمة كالحيلولة دون وصول شبكة الاتصالات الصينية هواوي الجيل الخامس-التي ثبّتتها الإمارات على شبكتها- إلى أحدث تكنولوجيا قتالية أمريكية، وقالت الإمارات إنها لن تزيل معدات شركة هواوي إلا إذا أُتيح لها بديل متقدم وبثمن معقول. وقال مصدر مطلع لصحيفة “فاينانشيال تايمز” إن الإمارات انزعجت من محاولة واشنطن فرض قيود على استعمال الطائرات بعد بيعها. وقد أدت هذه القيود إلى قيام الإمارات – التي وصفها مسؤولون أمريكيون في وزارة الدفاع ذات مرة بأنها مدينة أسبرطة الصغيرة – بتجميد المحادثات.
ومن جهته، يرى هاني صبرا الخبير في الشؤون الخليجية ومؤسس مركز ألف للاستشارات السياسية أنّ فرض الولايات المتحدة هذه القيود الصارمة ليس بالأمر الجديد. ولا يتعلق بالإمارات وحدها، لكن الغريب أن الطرفين قد أعلنا عن الصفقة قبل اتفاقهما على التفاصيل الدقيقة.
وتشير التوترات المتزايدة بين الإمارات والولايات المتحدة إلى وجود تحولات جذرية في العالم العربي؛ فقد حوّلت واشنطن اهتمامها ومواردها لمحاربة الصين في آسيا، وصارت تنأى بنفسها عن الصراعات الإقليمية. ومثالًا على ذلك خروجها السريع من أفغانستان مؤخّرًا، وعليه، يرى قادة الخليج أنه لم يعد بإمكانهم الاعتماد فقط على الولايات المتحدة لضمان الأمن الإقليمي، بل يجب عليهم تكوين شراكات جديدة لملء هذا الفراغ.
والمفارقة أن هذه التحولات تصب في مصلحة الصين. إذ إنّ مصالحها في الإمارات جزء من سياسة أكبر لانتهاك مجال النفوذ التقليدي لأمريكا في الخليج. ففي أغسطس الماضي أعلنت الصين أنها ستساعد المملكة العربية السعودية في برنامجها النووي، ما دفع المسؤولين الأمريكيين إلى تحذير شركائهم من منح بكين قاعدة عسكرية من أي نوع. كما زعم تقرير صادر عن البنتاغون في عام 2020 أن الصين تحاول منذ فترة طويلة إنشاء قواعد عسكرية في الإمارات وتخطط لبناء قاعدة بحرية هناك.
وبالتزامن مع صعود الصين، يتضاءل النفوذ الأمريكي لصالح حليف آخر. فقد وقعت أبو ظبي صفقة أسلحة بقيمة 19 مليار دولار مع فرنسا قبل أيام من تعليق محادثات صفقة F-35. ورأى الخبراء أن هذه الخطوة تُعدّ تعزيزًا للتعاون السياسي والاقتصادي بين دولتين تجمعها رؤية أيديولوجية واحدة تجاه المنطقة.
إذ إنّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وحاكم للإمارات الفعلي محمد بن زايد لا يعتقدان أن الإخوان المسلمين أهلًا للثقة بل للإزدراء. ووفقًا لرؤيتهما فإن أفضل طريقة لحكم العالم العربي هي الاستبداد حتى يمكن السيطرة على الحركات الرجعية والمتطرفين.
ومن الجدير ذكره أن السياسات الإماراتية كان لها دور محوري في زعزعة استقرار المنطقة بعد الربيع العربي. فقد آلت الأسلحة الأمريكية التي استعملتها الإمارات في حرب اليمن إلى الجماعات السلفية المتشددة والمقاتلين التابعين للقاعدة، كما فشل دعم الإمارات الجنرال خليفة حفتر في ليبيا في تحقيق انتصار واضح، بل على العكس، فقد أدى هذا إلى تمكين الإرهابيين… وقد أكدت العديد من الدراسات على ارتباط الاستبداد وسوء الحكم بالتطرف؛ فالجماعات الإرهابية دائمًا ما تستغل المظالم الجماعية الناتجة عن عنف الدولة وإهمالها وفسادها.
صحيح أن تسليح الدول الاستبدادية يؤدي إلى خسائر بشرية فادحة، لكن ماكرون يستفيد من ذلك الوضع. إذ مثّلت صفقة الأسلحة بين الإمارات وفرنسا سابقة تاريخية، فلم يحدث من قبل أن يعتمد شريك مقرب من الولايات المتحدة على أنظمة الدفاع الفرنسية أكثر من نظيرتها الأمريكية. وهو ما يعتبره ماكرون نوعًا من رد الاعتبار بعد شهرين من تراجع استراليا عن صفقة غواصات فرنسية بقيمة 66 مليار دولار لتوقع صفقة مع الولايات المتحدة وبريطانيا، وردت باريس وقتها باستدعاء سفرائها لدى واشنطن وكانبيرا.
وفي إشارة إلى العلاقات بين الإمارات والولايات المتحدة قال ماكرون للصحافة: “حين تراجع الإمارات موقفها من شركائها التاريخيين… فهذا يعزز موقف فرنسا”.
وبالإضافة إلى توثيق العلاقات مع الصين وفرنسا، من المرجح أن تعزز الإمارات علاقتها بإسرائيل في ظل الانسحاب الأمريكي من المنطقة. فلن تكون تلك العلاقة على غرار اتفاقية كامب ديفيد لعام 1978 بين مصر وإسرائيل والتي كانت سلامًا باردًا تقلص إلى مجرد تعاون أمني، إذ تعوّل الإمارات على تطبيعها مع تل أبيب لأقصى درجة.
وقد بلغ حجم التعاون التجاري بين البلدين 500 مليون دولار في أغسطس الماضي دون حساب الاستثمارات، كما رحبت الإمارات بالوفود الإسرائيلية، بل قدمت التهاني لإسرائيل بمناسبة عيد استقلالها، وهو التاريخ المعروف لدى اللاجئين الفلسطينيين باسم النكبة. ويبدو أن صفقة طائرات F-35 المؤجلة لم تؤثر على التحالف الإماراتي الإسرائيلي.
وقال هاني صبرا: “إن غياب صفقات الأسلحة عن اتفاقيات إبراهيم هو خيبة أمل كبرى، لكني لا أرى أن الإمارات ستقطع علاقتها مع إسرائيل بسبب ذلك. فلم تكن صفقات الأسلحة هي سبب التطبيع، بل الرؤية المشتركة والتفاهم الذي يجمع البلدين منذ سنوات”.
وقد أُسست تلك العلاقات الثنائية بناءً على رؤية مشتركة هدفها التصدي لإيران التي تُعتبر تهديدًا وجوديًّا للدولتين. و على عكس الولايات المتحدة، فقد برهنت إسرائيل عن استعدادها لاستعمال القوة من أجل تحجيم أنشطة إيران ووكلائها، وهو ما يجعل الدولة اليهودية الشريك الأمني الأمثل للإمارات ودول الخليج عامة.
ورغم تكوين الإمارات لصداقات وشراكات جديدة، فإنها لن تقطع الصلة بالولايات المتحدة. فما يزال التعاون مستمرًّا بين البلدين في عدد كبير من الملفات وتتطلع أبو ظبي لشراء أسلحة أمريكية في المستقبل. لكن البيت الأبيض سيكتشف أن نفوذه لم يعد كما كان في السابق بسبب سياسة الانسحاب من المنطقة.