وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الحوثيون: بين العمليّات البحريّة ومفاوضات السلام

بينما يتولى الحوثيون في اليمن دورًا استراتيجيًا مهمًا، لا تزال هناك أسئلة حول مدى استعدادهم لتسهيل الديمقراطية والالتزام بسيادة القانون.

الحوثيون
رجل يمني يلوح بالعلم الفلسطيني أثناء مشاركته في مسيرة للتعبير عن التضامن مع شعب غزة. MOHAMMED HUWAIS / AFP

علي نور الدين

منذ بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة في شهر أكتوبر/تشرين الأوّل 2023، اختارت جماعة أنصار الله اليمنيّة، المعروفة اختصارًا بالحوثيين، أن تتخذ موقعًا هجوميًا تجاه المصالح الإسرائيليّة في المنطقة.

وبعد محاولات عدّة لاستهداف جنوب إسرائيل بالمسيّرات والصواريخ الطويلة الأمد، انتقلت الجماعة في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2023 إلى استهداف السفن الإسرائيليّة أو تلك المتجهة إلى إسرائيل،محاولة بذلك الاستيلاء عليها.

الحوثيون: طرف مؤثّر في الأمن الإقليميّ

هكذا، كانت الجماعة تستفيد من سيطرتها على مساحات من الشاطئ الشرقي للبحر الأحمر، لفرض نفسها كطرف مؤثّر في حسابات الأمن الإقليمي، وسلامة خطوط الإمداد التجاريّة. كما حاولت الجماعة خلق معادلة جديدة، تضيّق بموجبها على الحركة التجاريّة الإسرائيليّة، مقابل الحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزّة.

هذا الواقع سمح للحوثيين كسب بعض المشروعيّة أمام الشارع العربي، بعد انخراطهم في الحرب الأهليّة اليمنيّة لأكثر من تسع سنوات، تلقّوا خلالها الدعم العسكري والمالي من إيران، في مواجهة المعسكر المدعوم من 11 دولة عربيّة بقيادة المملكة العربيّة السعوديّة.

غير أنّ نطاق تداعيات هذه العمليّات سرعان ما اتسع، بعدما أعلنت 8 من أكبر 10 شركات الشّحن الدوليّة وقف عمليّاتها في البحر الأحمر كليًا، بمعزل عن وجهة رحلاتها. مع الإشارة إلى أنّ هذه الشركات تستحوذ وحدها على أكثر من 61% من حركة الشّحن العالميّة. بذلك، انتقلت خطوط شحن تلك الشركات إلى ممر بديل، يلتف حول جنوب أفريقيا، بدل المرور عبر قناة السويس باتجاه البحر الأبيض المتوسّط. وبحلول مطلع العام 2024، كانت النتيجة ارتفاع تكاليف الشّحن بين آسيا وأوروبا والأميركيتين بنسب تصل لغاية 173%، بفعل طول أمد الرحلات ومحدوديّة قدرة السّفن الاستيعابيّة.

وبطبيعة الحال، كانت الجماعة تؤكّد دومًا على أنّ استهدافاتها تقتصر على السفن المتجهة إلى إسرائيل، في محاولة لتقليص تداعيات عمليّاتها على خطوط التجارة الدوليّة، ولتفادي توسّع نطاق خصومها الدوليين. غير أنّ شركات الشّحن العالميّة ظلّت عند موقفها الحذر من اضطرابات البحر الأحمر، وفضّلت تكبّد نفقات إضافيّة تصل إلى حدود المليون دولار لكل رحلة، مقابل اتخاذ مسارات بحريّة طويلة لا تمر بمناطق تأثير الحوثيين، حتّى بالنسبة إلى عمليّات الشّحن التي لا علاقة لها بإسرائيل.

وبهذه الطريقة، تحوّلت العمليّات البحريّة الحوثيّة إلى أزمة تجاريّة دوليّة، بدل أن تقتصر تداعياتها على الشركات الإسرائيليّة كما خطط الحوثيون منذ البداية.

لهذا السبب، انتقلت رابطة “بيمكو”، التي تمثّل مالكي السفن العالميين، إلى المطالبة بتدخّل عسكري دولي لحماية الممرّات التجاريّة الدوليّة. وما لبثت الولايات المتحدة الأميركيّة أن قامت بنشر بيان موقّع من 44 دولة في كانون الأوّل/ديسمبر 2023، لتحذير الحوثيين من عواقب هذه العمليّات، ولتحميلهم “مسؤوليّة العواقب إذا استمرّوا في تهديد الأرواح والاقتصاد العالمي”.

وبينما بدأت القوّات البحريّة الأميركيّة تعمل فعلًا في منطقة البحر الأحمر لمواجهة الهجمات الحوثيّة، كانت الإدارة الأميركيّة تسعى في الوقت عينه إلى إنشاء غطاء قانوني لهذا التدخّل العسكري، من خلال محاولة إطلاق ائتلاف دوليّ تحت مسمّى “حارس الازدهار”.ّ

هكذا، زاد الحوثيون من سطوتهم وأهميّة أدوارهم الإستراتيجيّة في المنطقة، بمعزل عن تأثير عمليّاتهم البحريّة على الحرب الدائرة في غزّة. غير أنّهم ما لبثوا، أن تحوّلوا إلى عنصر مشاكس يهدد المصالح الإقتصاديّة الغربيّة والدوليّة الكبيرة، وخصوصًا على مستوى خطوط إمداد مصادر الطاقة. إذ من المعلوم أن أكثر من 20% من إمدادات النفط العالميّة تمر بمضيق باب المندب والبحر الأحمر، في حين أنّ كبرى شركات النفط العالميّة، مثل “بريتش بتروليوم”، أعلنت وقف عمليّات نقل النفط والغاز في تلك المنطقة.

تجدُر الإشارة إلى أنّ أسواق النفط العالميّة كانت تعاني أساسًا من اضطرابات سلاسل إمداد الطاقة، التي نتجت عن اندلاع الحرب في أوكرانيا، وما أعقبها من عقوبات وقيود على روسيا ، مصدّرة النفط والغاز، ناهيك عن انقطاع إمدادات الغاز الروسي في أوروبا. وهكذا، جاءت الاضطرابات الجديدة لتزيد من كلفة نقل مصادر الطاقة، ولتزيد القيود المفروضة على سلاسل توريدها، ما جعل العمليّات البحريّة الحوثيّة تحديًا لاقتصادات الدول الصناعيّة التي تعتمد على توريد النفط والغاز المُسال.

لكل هذه الأسباب، وصلت المواجهة فجر الجمعة 12 كانون الثاني/يناير إلى حد استهداف بنى تحتيّة ومنشآت يسيطر عليها الحوثيون في اليمن، بـ 73 غارة نفّذتها طائرات الولايات المتحدة الأميركيّة وبريطانيا. ورغم عدد الاستهدافات الكبير،فقد اقتصرت الأضرار البشريّة على مقتل 5 عسكريين حوثيين وإصابة 6 آخرين،ما عكس ترقُب الحوثيّين شنّ مثل هذه الغارات. ورغم محدوديّة الأضرار البشريّة، فقد أكّد المسؤولون العسكريون في الجيشين الأميركي والبريطاني أنّ هذه الغارات استهدفت ضرب القدرات العسكريّة الحوثيّة، التي مكّنتهم من شن الهجمات البحريّة الأخيرة.

نتيجة هذه الاستهدافات، لم تُظهر الجماعة الكثير من التأثّر. بل قام الحوثيون بعد ثلاثة أيّام باستهداف ناقلة الحاويات الأميركيّة “جيبرلتار إيغل”، بعدما اعتبروا أن جميع المصالح الأميركيّة والبريطانيّة في المنطقة باتت أهدافًا مشروعة. وفي المقابل، ردّت القوّات الأميركيّة باستهداف قواعد صواريخ باليستيّة تابعة للحوثيين، في ضربة استباقيّة لمنع الجماعة من شن هجمة أخرى.

على هذا النحو، باتت الأمور مشرّعة اليوم على جميع سيناريوهات التصعيد في البحر الأحمر. غير أنّ الوقت وحده هو ما سيكشف مدى تأثير الغارات على القدرات العسكريّة الحوثيّة، وخصوصًا قدرات الرصد وتصنيع وتوجيه المسيّرات، التي أستهدفتها الطائرات الحربيّة الأميركيّة والبريطانيّة. وفي هذا الوقت، من المفترض أن تكشف المرحلة المقبلة مدى استعداد الاتحاد الأوروبي لنشر قوّة بحريّة تساند القوّات الأميركيّة والبريطانيّة في البحر الأحمر، كما يتم التداول حاليًا في بروكسل.

خارطة طريق السلام اليمنيّة

إنّ تصاعد وتيرة مشاكسات الحوثيين على المستوى الدوليّ، قابلها، في الوقت عينه، تقدّم ملحوظ في مسار عمليّة السلام على المستوى اليمنيّ المحلّي.

ففي شهر ديسمبر/كانون الأوّل 2023، وبالتوازي مع العمليّات البحريّة الحوثيّة، كان المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى اليمن هانس غروندبرغ يعلن عن توصّل “أطراف الصراع” في اليمن إلى مجموعة من التفاهمات، بما يشمل وقف إطلاق نار يشمل كامل البلاد، بالإضافة إلى الاستعداد لإطلاق “عمليّة سياسيّة جامعة”.

وبحسب ما أعلنه بيان غروندبرغ، من المفترض أن تشمل خارطة الطريق السياسيّة، التي سترعاها الأمم المتحدة، التفاهم على تسديد رواتب موظفي القطاع العام في أنحاء البلاد كافة، ما سينهي الانقسام الحاصل في ماليّة الإدارات العامّة. كما ستشمل عملية استئناف صادرات النفط، بغية إنعاش الميزانيّة العامّة اليمنيّة وتمكينها من تقديم الخدمات للمواطنين، بالإضافة إلى رفع القيود الجويّة والبحريّة المفروضة على مطار صنعاء وميناء الحديدة.

بالتزامن مع هذا، من المفترض أن يشمل المسار فتح الطرق بين المحافظات اليمنيّة المختلفة، وخصوصًا التي تم قطعها بفعل الاشتباكات بين الأطراف المتصارعة. وفي ضوء هذه الإجراءات، ستتابع الأطراف اليمنية عمليّة تشكيل السلطة الموحدة اليمنيّة الجديدة برعاية الأمم المتحدة.

ببساطة، إن هذه التطوّرات تعكس استمرار انفتاح ولي العهد السعودي محمد بن سلمان على الحوثيين، بمعزل عن جميع المشاحنات الأمنيّة التي تجري في منطقة البحر الأحمر. وكما هو معلوم، فقد نتجت خارطة طريق السلام –التي تشرف عليها الأمم المتحدة- عن مفاوضات الحوثيين مع الأطراف اليمنيّة المدعومة من السعوديّة والإمارات، والتي جرت طوال الأشهر الماضية في الرياض ومسقط. ومن الناحية العمليّة، لم يكن من الممكن أن توافق جميع الأطراف اليمنيّة على خارطة الطريق هذه، بدون ضوء أخضر سعودي صريح.

في واقع الأمر، يمكن القول إن عمليّات الحوثيين في البحر الأحمر، والتي زادت من رصدهم الشّعبي والسّياسي والإستراتيجي في المنطقة، سمحت للجماعة المسلّحة بزيادة قوّتها التفاوضيّة الإقليميّة على أعتاب توقيع اتفاق السلام، وقبيل دخول مسار التسوية السياسيّة مع سائر الأطراف اليمنيّة. وبهذا الشكل، يمكن للجماعة أن تراهن على حجز مكانة متقدّمة لها في أيّ نظام سياسي جديد يمكن أن ينشأ في اليمن، خصوصًا إذا كانت هذه العمليّة السياسيّة ستنطلق ضمن حاضنة إقليميّة عربيّة، كما هو الحال اليوم.

السعوديّة متمسّكة بالتسوية مع إيران والحوثيين

في المقابل، لا يبدو أن مغامرات الحوثيين في البحر الأحمر ستدفع بن سلمان للتفريط بمكتسبات المصالحة التي قادها أخيرًا مع إيران، والتي انعكست إيجابًا على علاقته مع الحوثيين في اليمن. وهذا ما ظهر من خلال تمسّك بن سلمان بمسار التسوية السلميّة الأمميّة مع الحوثيين، والتي أفضت إلى الإعلان عن خارطة طريق السلام اليمنيّة. ومن الواضح أن بن سلمان مازال متمسكًا بشدّة بشعار “السعوديّة أولًا”، الذي يدفعه إلى إعطاء مصالح دولته الإستراتيجيّة الأولويّة فوق كل اعتبار آخر. ومن هذه الزاوية، لم يتّجه بن سلمان إلى توتير علاقته بالحوثيين، على خلفيّة تصعيد الحوثيين في وجه المصالح الغربيّة في المنطقة.

وقد يكون من المفيد الإشارة هنا ،إلى أنّ هذه السياسة التي ينتهجها النظام السعودي مع الحوثيين، تتكامل مع تركيز بن سلمان المفرط على الملفّات الاقتصاديّة الداخليّة، وهذا ما يستلزم تحقيق الحدّ الأدنى من الاستقرار الأمني. وبطبيعة الحال، يذكر النظام السعودي جيّدًا هجمات الطائرات المسيّرة الحوثيّة على المرافق الأمنيّة والاقتصاديّة السعوديّة في السنوات الماضية، والتي أدّت إلى خسائر ماليّة مؤلمة. ومن هنا يمكن فهم ابتعاد السعوديّة بشكل كامل، عن التورّط في الائتلاف العسكري الذي تشكّله الولايات المتحدة الأميركيّة، لمواجهة عمليّات الحوثيين البحريّة.

بالنتيجة، من المؤكد أن جماعة أنصار الله الحوثيين ستتجه قريبًا للعب أدوار إستراتيجيّة مهمّة على المستوى الإقليمي، سواء بفعل التسوية السياسيّة المرتقبة بعد دخول مسار السلام في اليمن، أو بفعل الهجمات البحريّة التي أظهرت سطوتهم على سلاسل التوريد التجاريّة في المنطقة.

أمّا السؤال الأهم، فهو عن مدى استعداد الجماعة لتسهيل مسار التحوّل الديمقراطي في اليمن، والسماح بتشكّل دولة متمكنة، قادرة على تقديم أبسط الخدمات الرئيسة لمواطنيها. إذ إنّ المضي بعمليّة سلام وتسوية سياسيّة شكليّة لن يكفي وحده، إذا لم يخضع الحوثيون وسائر الميليشيات اليمنيّة لمبادئ سيادة القانون وحكم المؤسسات، وإذا لم يتم توفير الحريّات والحقوق المدنيّة الأساسيّة للمواطن اليمني.