علي نور الدين
من مدينة عدن اليمن، اختارت النجمة الأميركيّة أنجلينا جولي التغريد لرفع الصوت والإضاءة على معاناة اللاجئين في ذلك البلد، الذين لم ينالوا مؤخّرًا القسط الذي يستحقونه من اهتمام الإعلام والمنظّمات الإنسانيّة الدوليّة. بصورة أوضح، لخّصت أنجلينا جولي رسالتها بعبارة صريحة: “يستحق كل اللاجئين والمشردين من اليمن وأفغانستان والصومال وأوكرانيا، معاملة وحقوقًا متساوية”، في إشارة إلى اهتمام وسائل الإعلام والمنظمات الإنسانيّة بأزمات اللاجئين المختلفة بشكل متفاوت، واستنسابيّتهم في طريقة التعامل مع هذا الملف.
أنجلينا، التي تحمل صفة المبعوثة الخاصّة للمفوضيّة السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، ذكّرت العالم بأن في اليمن أكثر من 20 مليون شخص يعتمدون على المساعدات الإنسانيّة للبقاء على قيد الحياة، في حين أن هذا البلد يشهد إصابة أو مقتلا مدنيا واحدا كل ساعة، كمعدّل خلال العام 2022. في خلاصة الأمر، وكما بدا واضحًا من مضامين تصريحات أنجلينا، من المفترض أن تكون هذه الزيارة مناسبة لحشد الدعم الإعلامي والدولي لهذه القضيّة، قبيل عقد مؤتمر المانحين الدولي المخصص لأزمة اليمن في منتصف الشهر الجاري.
أزمة إنسانيّة خانقة
في واقع الأمر، وبمعزل عن زيارة أنجلينا جولي، بإمكان المتابع أن يكوّن فكرة كافية عن خطورة الظروف الإنسانيّة التي يمر بها الشعب اليمني اليوم، من خلال تقارير المفوضيّة السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. فبحسب المفوضيّة، ظلّت أزمة لاجئي الحرب اليمنيين أسوأ أزمة إنسانيّة في العالم على امتداد أربع سنوات على التوالي، بعد أن بات 66% من الشعب اليمني بحاجة إلى مساعدات إنسانيّة ماسّة لا يمكن العيش دونها. مع العلم أن أرقام المفوضيّة تشير أيضًا إلى أنّ نحو أربعة ملايين يمني اضطرّوا إلى النزوح من مناطقهم، في حين أنّ اليمن تستضيف أساسًا أكثر من 177 ألف لاجئ أو طالب لجوء من خارج اليمن، أتى أغلبهم من الصومال. وتشير دراسات المفوضيّة نفسها إلى أن هؤلاء اللاجئين هم أكثر عرضة لخطر المجاعة بنحو أربع أضعاف، مقارنة بعموم سكّان البلد. مع الإشارة إلى أن النساء والأطفال وكبار السن يمثّلون نحو 65% من هؤلاء اللاجئين حاليًّا.
أرقام منظّمة الهجرة الدوليّة لم تقلّ خطورة، إذ تشير إحصاءات المنظّمة إلى أنّ نحو 32 ألف يمني “تقطّعت بهم السبل في ظروف مزرية في اليمن”، أي باتوا غير قادرين على العودة إلى منازلهم بسبب الحرب، وغير قادرين على إيجاد مأوى بديل. ولهذا السبب بالتحديد، خاطر أكثر من 18 ألف يمني بحياتهم منذ أيار/مايو 2020، عبر محاولة الهجرة من خلال البحر، بوسائل بدائيّة وغير آمنة، باتجاه جيبوتي أو السودان أو أثيوبيا، فيما قضى عدد كبير من هؤلاء في حوادث انقلاب هذا النوع من السفن المكتظّة في عرض البحر. أمّا المسألة الأخطر، فهي تعرّض اللاجئين للقتل خلال محاولتهم الهروب عبر البحر، نتيجة الأعمال القتاليّة الدائرة على طول الساحل الغربي لليمن، والتي طالت شظاياها سفن اللاجئين الفارّين إلى خارج اليمن.
في بعض الحالات، احتاج اللاجؤون اليمنيون لعبور العديد من الدول باتجاه أوروبا، بحثًا عن فرص العمل والمعيشة، ما فرض المرور مرّتين برحلات البحر غير الشرعيّة. وهذا النوع من الرحلات الطويلة المحفوفة بالمخاطر، كان يزيد تلقائيًّا من احتمالات تعرّض اللاجئين لسوء المعاملة أو الاعتقال، أو حتّى المعاناة من ظروف المعيشة غير اللائقة خلال فترات التنقّل الطويلة وغير المستقرّة. مع الإشارة إلى أنّ العديد من التقارير الإعلاميّة وثّقت الاعتداءات المتكرّرة على اللاجئين اليمنيين في دول مختلفة في أفريقيا والشرق الأوسط، والتي وصلت إلى حد طردهم من أماكن إقاماتهم المؤقّتة.
عوامل التأزّم الراهنة
خلال الأشهر الماضية، تراكمت تدريجيًّا العوامل التي تزيد من تأزّم ظروف اللاجئين في اليمن، والتي تبرّر انكباب أنجلينا جولي على زيادة الاهتمام الإعلامي بهذا الملف، والإضاءة على تزايد المخاطر المحيطة بهذه الشريحة الاجتماعيّة. فمنذ بداية العام، اضطرّت الأمم المتحدة إلى تقليص أو إغلاق ثلثي برامجها المخصصة للاستجابة إلى احتياجات اللاجئين اليمنيين، نتيجة النقص الحاد في التمويل. وهذه المسألة تحديدًا هي ما دفع المتحدّث الرسمي بإسم الأمم المتحدة ستيفان دوجاريك للتحذير من احتمالات إجراء تخفيضات إضافيّة في نطاق عمل المنظّمات الدوليّة في اليمن، نتيجة فقدان السيولة اللازمة لمتابعة هذه الأنشطة. وفي سياق تحذيره، أشار دوجاريك إلى أنّ الأمم المتحدة إضطرّت بالفعل إلى خفض الحصص الغذائيّة التي تمنحها بشكل دوري بمقدار النصف، ما حرم نحو 8 ملايين يمني من المساعدات الغذائيّة التي كانوا يحظون بها في السابق.
كل هذه الظروف، دفعت المدير التنفيذي لبرنامج الأغذية العالمي ديفيد بيزلي في أواخر شباط/فبراير الماضي إلى التحذير من كارثة إنسانيّة مقبلة، نتيجة نضوب التمويل الإنساني. في خلاصة الأمر، وبحسب بيزلي نفسه، سيكون المشهد قريبًا كالتالي: ليس لنا خيار سوى أخذ الطعام من الجياع لإطعام المتضورين جوعًا، ما لم تحصل المنظمات الإنسانيّة في اليمن على تمويل فوري. بل ستكون هذه المنظّمات أمام احتمال فقدان القدرة على إطعام المتضوّرين جوعًا، ما سيجعل اليمن أشبه “بجحيم على الأرض” على حد قول بيزلي. وهذه التحديات التمويليّة الكبيرة، هي ما فرض في الوقت الراهن تنظيم مؤتمر المانحين من أجل اليمن في منتصف هذا الشهر، على أمل تأمين الحاجات التمويليّة التي يتطلّبها العمل الإنساني لإغاثة اللاجئين.
في واقع الأمر، فاقم النزاع المسلّح الحاصل في أوكرانيا من مخاطر أزمة اللاجئين في اليمن. فمع الارتفاع السريع والقياسي في أسعار المواد الغذائيّة والمحروقات على مستوى العالم، نتيجة الحرب الأوكرانيّة، من الطبيعي أن تشهد اليمن ارتفاعات سريعة في معدّلات التضخّم، بالنظر إلى اعتماد البلاد على الاستيراد لتأمين حاجاتها من الغذاء والمحروقات. ولهذا السبب بالتحديد، من المتوقّع أن تتزايد الفئات الاجتماعيّة القابعة تحت خط الفقر المدقع، والتي تحتاج إلى تدخّل إنساني عاجل للحصول على الحد الأدنى من متطلّبات المعيشة. كما من المتوقّع أن ترتفع كلفة عمليّات الدعم على المنظّمات الإنسانيّة، ما سيقلّص عدد المستفيدين من مساعداتها. مع الإشارة إلى أن اليمن شهد أساسًا خلال العام الماضي قفزات سريعة في أسعار المواد الغذائيّة، التي ارتفعت كلفة الحصول عليها بأكثر من 90% خلال عام 2021، وفقًا لبرنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة.
على أي حال، كل هذه العوامل تُضاف إلى عامل تأزّم أساسي يزيد من معاناة اللاجئين اليمنيين اليوم، ويرفع من معدلات الفقر المدقع في صفوفهم. فمنذ بدء الحرب اليمنيّة، يواظب الريال اليمني على تسجيل معدّلات هبوط سريعة في قيمته، وهو ما يؤدّي إلى ارتفاع قياسي ومتكرّر في أسعار السلع الغذائيّة المستوردة. ولهذا السبب، ومع كل ارتفاع في سعر صرف الدولار مقابل الريال اليمني، تتراجع تلقائيًّا القدرة الشرائيّة لليمنيين، وتتزايد معها نسبة القابعين تحت الفقر. وبحسب برنامج الأغذية العالمي، عانت نصف الأسر اليمنيّة من النقص في استهلاك الغذاء، نتيجة انخفاض قيمة العملة المحليّة وارتفاع معدلات التضخّم، وعدم قدرة المدخرات والأجور على تأمين الحاجات الغذائيّة لليمنيين. وفي النتيجة، بات أكثر من نصف سكّان اليمن، أي نحو 16.2 مليون شخص، يعانون من الجوع الحاد، فيما بات نصف الأطفال (نحو 2.3 مليون طفل) يعانون من سوء التغذية.
كل اللاجئين أولويّة
من الملفت للنظر تركيز أنجلينا جولي على مبدأ تساوي اللاجئين في الاهتمام الإنساني، بمعزل عن العرق والجنسيّة، خصوصًا بعد أن ظهر خلال الأيام الماضية الاهتمام الكبير للدول ووسائل الإعلام الغربيّة بالأزمة الإنسانيّة في أوكرانيا، مقارنةً بأزمات إنسانيّة أخرى لم تحظَ بالاهتمام نفسه، كأزمة اللاجئين في اليمن. من الناحية العمليّة، قد تكون زيارة أنجلينا لليمن مجرّد مناسبة للتذكير بأن حق الشعوب بالحياة الكريمة واللائقة، وبالإغاثة خلال فترات الأزمات المسلّحة، هو حق إنساني بحت، لا يفترض أن يتفاوت الاهتمام به بحسب الجنسيّة والعرق، ولا بحسب الحسابات السياسيّة المتعلّقة بالأطراف المتنازعة.
خلال العام الماضي، لم تتلقَّ الأمم المتحدة سوى 2.68 مليار دولار من أصل 3.85 مليار دولار طلبتها من دول العالم لتمويل عمليّاتها الإنسانيّة في اليمن، وهو ما انعكس في شلل أجهزة المنظمات الدوليّة، وعدم قدرتها على تلبية الحاجات الإنسانيّة الملحّة لليمنيين. أمّا اليوم، فستكون دول العالم بأسرها أمام امتحان إنساني جديد، في منتصف هذا الشهر، مع مؤتمر المانحين المرتقب عقده لتمويل العمليات الإنسانيّة في اليمن. وهذا المؤتمر، سيكون الفرصة الأخيرة لإنقاذ مجهود الأمم المتحدة الإنساني في اليمن، والإبقاء على قدرتها على تأمين الغذاء للفئات التي تحتاج إلى المساعدات الغذائيّة بشكل ملحّ، والتي تمثّل أكثر من ثلثي الشعب اليمني.