وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

هجرة الأطباء: خطرٌ متنامٍ يهدّد قطاع غزّة

هجرة الأطباء يهدّد غزّة
صورة تم التقاطها يوم 1 أغسطس 2016 للدكتور عاطف الحوت، مدير مشفى الشهيد أبو يوسف النجار في مدينة رفح بقطاع غزة، وهو يتحدث للإعلام على هامش التدريب الذي تم إجراؤه في المشفى على حالة الطوارئ والأزمات. المصدر: Abed Rahim Khatib/ Anadolu Agency via AFP.

أمجد ياغي

شهد قطاع غزّة في السنوات الأخيرة تياراً متنامياً من هجرة الأطباء إلى الخارج. ويعود السبب في ذلك إلى تعقيداتٍ متعدّدة بما في ذلك الانقسام السياسي الفلسطيني. وفيما يفرض الصراع الدائر بين حركتي حماس وفتح التفكير بالهجرة، فإن الكثير من الأطباء يسعون للهجرة بسبب الحصار وما عاناه العاملون في قطاع الخدمات الطبية من ضغوط كبيرة نتيجة ما شنته إسرائيل من حروب على غزّة.

النزاع الذي شقّ الصف الداخلي الفلسطيني لم يقتصر على الجانب السياسي فحسب، إذ استطالت تجليات هذا الانقسام لتصل إلى قطاع الخدمات الصحية.

ويعتبر الطبيب سعيد الزيناتي أحد الأمثلة الحيّة على الحالة المعقدّة التي يعيشها العاملون في القطاع الصحي بقطاع غزّة. فمنذ تسع سنوات، لم يستلم الزيناتي كامل مستحقاته الشهرية لقاء عمله في إحدى المستشفيات التي تشغّلها حكومة حماس وسط قطاع غزّة.

الزيناتي، وهو طبيبٌ مختص في المسالك البولية، رفض الاستنكاف في المنزل عقب أحداث الانقسام عام 2007. وطالبت السلطة الفلسطينية حينها العاملين في قطاع الخدمات الطبي الغزّي بعدم التعامل مع حكومة حماس التي اعتبرتها في حكم المُقالة بعد سيطرة حركة حماس على غزة. وفي الوقت الذي تعهّدت فيه السلطة بدفع رواتب الأطباء الذين يستنكفون عن العمل في المستشفيات التي سيطرت عليها حكومة حماس، فإنها رفضت دفع رواتب من يعمل في تلك المشافي.

يأتي ذلك في الوقت الذي دفعت فيه حكومة حماس رواتب العاملين المقطوعة رواتبهم عند عملهم في مستشفياتها. لكن الحركة دخلت في أزمة مالية حادة منذ سقوط حكم الإخوان المسلمين في مصر الداعم الأكبر لها حينها، وهو ما حال دون دفعها لكامل رواتب الموظفين العاملين في قطاع الخدمات الصحية.

الزيناتي قدّم استقالته، بعد أن واجهته أزمة مالية ووجد نفسه عاجزاً عن تأمين التزاماته ومصاريف نجليه اللذين يدرسان الطب في الأردن. ويعود السبب في هذه الاستقالة إلى رغبة الزيناتي بفتح عيادته الخاصة، وهو ما لا يستطيع القيام به أثناء عمله في المستشفيات الحكومية. وتفرض الرقابة قيوداً كبيرة على الأطباء الذين يعملون في مستشفيات غزّة بغرض تأمين عدم فتحهم لعياداتٍ خاصة يستقبلون فيها مرضى المستشفيات العامة لتأمين مداخيل إضافية. وبطبيعة الحال، فإن ذلك يضع الكثير من الأطباء في حالة اقتصادية صعبة تدفعهم إما للاستقالة من المستشفيات العامة بغرض فتح عياداتهم الخاصة أو الهجرة إلى الخارج لتأمين حياة أفضل.

وفي هذا الصدد، يقول الزيناتي لموقع فنك: “الطبيب لم يعد له قيمة في قطاع غزة. هو ضحية الانقسام الفلسطيني. يُطلب من الطبيب الالتزام والعمل تحت ضغط أثناء الحروب والأزمات في غزّة. في المقابل، فإنّ هذا الطبيب لا يحظى بتأمين مالي أو بتقدير الجهات الرسمية. لم أتخلى عن واجبي الإنساني على مدار تسع سنوات، لكني الآن أناضل حتى أضمن مستقبلاً جيداً لأبنائي”.

ظروف صعبة

هجرة الأطباء يهدّد غزّة
مريض كلى مسن يحصل على العلاج في غزة يوم 20 أغسطس 2020. المصدر: Ali Jadallah/ Anadolu Agency via AFP.

الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها أبناء قطاع غزّة دفعتهم أثناء المرض للبحث عن العلاج المجاني. وفي كثيرٍ من الأحيان، قد يعني ذلك انتظار دورهم لشهور للحصول على الطبابة في العيادات الخارجية التابعة للمستشفيات العامة.

من بين المرضى الذين ينتظرون دورهم في الكشف الطبي عائد النجار. ويعاني النجار، البالغ من العمر 54 عاماً، من الفقر المدقع، فضلاً عن كونه عاطلاً عن العمل منذ سنوات. وأصيب النجار بانزلاق غضروفي في ظهره، وهو بحاجة لمتابعة دوريّة مع أخصائي جراحة أعصاب.

يقول النجار لموقع فنك: “أحتاج لمراجعة الطبيب بشكل دوري، لكنّي لا أستطيع دفع تكلفة كشف طبي يصل إلى 100 شيقلًا (28.5 دولاراً أمريكياً) لانّي رجل فقير. وعندما يأتي يوم المراجعة بعد انتظارٍ قد يستمر لشهرين، فإنني أنتظر أربع ساعات حتى أعرض على الطبيب نتيجة الازدحام. وحتى العلاج، أحصل على غالبيته بالمجان من الحكومة وأعجز عن شراء الأدوية غير المتوفرة”.

ويعاني قطاع غزّة من ارتفاع نسب البطالة فيه منذ سيطرة حركة حماس عليه. وتُظهر أرقام مركز الإحصاء الفلسطيني وجود فارق كبير بين معدلات البطالة في قطاع غزّة وتلك الموجودة الخاصة بالضفة الغربية. وفي الوقت الذي بلغ فيه هذا المعدل 47٪ في قطاع غزة عام 2021، فإنه لم يتجاوز 16٪ في الضفة الغربية. أما على مستوى بطالة الخريجين الجدد، فإن النسبة في غزّة تصل إلى 74٪، مقارنةً مع 36٪ في الضفّة.

وبلغ عدد العاطلين عن العمل ممّن تزيد أعمارهم عن 15 عاماً 372 ألف شخص في عام 2021، بواقع 230 ألف شخص في قطاع غزة و142 ألف شخص في الضفة الغربية.

هجرة الخريجين

أدت حالة الانقسام الفلسطينية إلى تعزيز تيّار هجرة العقول الشابة من فلسطين، خصوصًا الذين يدرسون في الخارج بفضل ما يحصلون عليه من منح دراسية. ولا يعود عددٌ كبير من الخريجين الغزّيين إلى القطاع نتيجة انعدام الأمان الوظيفي كما يذكر ماجد طه، وهو طبيب غزّي يعمل في كندا.

طه الذي يبلغ من العمر 31 عاماً درس الطب البشري بجامعة سوسة في تونس عام 2010، ليعود إلى قطاع غزة بداية عام 2016 ويواجه هناك الكثير من المتاعب والمشاكل من دون عمل. ولم يكن أمام طه سوى العمل كمتطوع في مستشفى الشفاء المعروف نهاية عام 2016. وبعد ذلك، عمل لمدة 6 أشهر ضمن عقود سنوية يتم تجديدها بشكلٍ دوري، لكن بنظام عمل 11 شهرًا في السنة.

قرار طه بالهجرة جاء منتصف 2018، حيث تقدّم بطلب لاستكمال دراسته في عدّة جامعات أوروبية وأمريكية. وأفلحت محاولة طه السابعة عندما تقدّم بطلب للعمل في إحدى المستشفيات الموجودة في مدينة مونتريال. ويعمل طه منذ عام في ذلك المستشفى الكندي، بالتزامن مع التحضير لدراسة اختصاص طب الأعصاب.

يقول طه: “درست الطب في تونس برفقة 18 فلسطيني من أبناء قطاع غزّة. والآن، يمارس غالبية هؤلاء عملهم خارج قطاع غزة، والبعض الآخر يستكمل دراسة تخصصية خارج فلسطين. ولم يتم تعيين سوى شخص واحد منّا بنظام سنوي متجدد في إحدى مستشفيات غزّة”.

ويضيف: “عانيت الأمرين أثناء العمل كطبيب في قطاع غزّة، فالقطاع الطبي هنا دائمًا متضرر من الظروف السياسية والاقتصادية. والأطباء حالهم كحال جميع المواطنين. هم يعيشون دون أملٍ بالمستقبل ولا يحصلون على ما يحتاجون إليه من أشياء. ونحن كأطباء جدد في مجتمع غزة، لا نملك الإمكانيات لفتح العيادات أو مزاولة أعمال إضافية. ولكلّ ما ورد من ظروف، يجد الكثير من الخريجين فرصة السفر لتأسيس مستقبل له”.

وتشهد العيادات الخارجية اكتظاظًا في أعداد المرضى الذين ينتظرون دورهم في الكشف الطبي عند الطبيب المختص. ويشمل ذلك العيادات المتخصصة في أمراض العظام، وأمراض الأذن والأنف والحنجرة، وأمراض المسالك البولية، وأمراض القلب، وأمراض الأعصاب، وأمراض الكلى، كما يوضح مدير عام المستشفيات في وزارة الصحة بغزة محمد زقوت.

في المقابل، فإن مجموع المستشفيات والعيادات الرئيسية لا يزيد عن الثلاثين. وفي بداية عام 2016، كانت هذه المستشفيات والعيادات توفّر 1.3 سريرًا ​​لكل 1000 شخص يقيمون في قطاع غزّة، بحسب إحصائيات البنك الدولي. ويشمل هذا العدد مستشفيات وزارة الصحة الموجودة في قطاع غزة والبالغ عددها 13 مستشفى. وتجدر الإشارة إلى توفير هذه المستشفيات الوزارية لسعة سريرية قدرها 2.824 سريراً، أي ما يصل إلى 79٪ من أسرّة المستشفيات الموجودة في قطاع غزة.

وفي سياقٍ متصل، لا توجد في قطاع غزّة سوى مستشفى واحد متخصص في الصحة النفسية، وهو ما يعني توفير هذا المستشفى لخدماته لما يزيد عن 2.3 مليون غزّي. يأتي ذلك في الوقت الذي ذكر فيه تقريرٌ صادر عن الأمم المتحدة في سبتمبر 2022 أن ثلث سكان القطاع بحاجة إلى دعم نفسي واجتماعي بعد أكثر من 15 عاما على حصار غزة.

وتشهد معدلات الإقبال على زيارة المستشفيات والعيادات الخارجية ارتفاعاً ملحوظاً في السنوات الأخيرة. وبحسب تقرير صادر في سبتمبر 2021 عن وزارة الصحة في غزة، فإن ما يتراوح بين 45٪ و59٪ من المرضى يزورون العيادات الخارجية للأطباء المختصين.

نقص الكوادر الطبية

هجرة الأطباء يهدّد غزّة
امرأة فلسطينية مصابة تصل بواسطة سيارة إسعاف لتلقي العلاج في مشفى الشفاء بمدينة غزة، وذلك في أعقاب غارات جوية شنتها إسرائيل على قطاع غزة يوم 6 أغسطس 2022. المصدر: Mahmud HAMS / AFP.

في إحصاء عام 2020 الذي أجرته وزارة الصحة التابعة لحماس، فإنّ كلّ 1000 غزّي يحصلون على الرعاية الصحية من 1.3 طبيب. هذه النسبة يعتبرها مختصون قليلة جدًا لمجتمع يعيش ظروفا إنسانية صعبة وأزمات متعدّدة ناتجة عن الحروب المستمرة، سيّما وأن هذه الحروب أدت إلى وقوع إصابات وأمراض متعددة.

ويحصل نصف أطباء القطاع على رواتب من السلطة الفلسطينية. ويقع هؤلاء الأطباء، بين الفينة والأخرى، ضحية المشاكل السياسية الحاصلة بين فتح وحماس. ووقع آخر مثال على مثل هذا النوع من المشاكل في يوليو 2022، عندما استنكف 42 طبيبًا من ذوي التخصصات المختلفة عن العمل في مستشفى كمال عدوان الموجود شمال قطاع غزّة. وجاء هذا التوقّف عن العمل بناءً على تعليمات وردت لهؤلاء الأطباء من جهات مختصة في السلطة الفلسطينية، سيّما وأن هؤلاء يحصلون على رواتبهم من السلطة.

ومنذ سنوات، يحصل العاملون في حكومة غزة على 60% من مرتباتهم الشهرية. وفي الآونة الأخيرة، أدى اشتداد الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها حركة حماس إلى تقليص الرواتب لتصل إلى 40٪ من إجمالي الرواتب الأصلية.

في المقابل، فقد وصف الدكتور فضل نعيم، عميد كلية الطب بالجامعة الإسلامية، هجرة الأطباء بـ “حدث مضخّم”. ويستند الدكتور نعيم في رأيه إلى تخريج كليات الطب المعتمدة في قطاع غزّة لما يزيد عن مئة طبيب سنوياً.

وفي هذا الصدد، يقول الدكتور نعيم لفنك: “هجرة الأطباء واردة في جميع المجتمعات التي تواجه ظروفًا اقتصادية صعبة. وعندما يفشل خريجو كليات الطب في العثور على فرص العمل، فإن هذا يدفعهم إلى مغادرة البلاد للحصول على فرص أفضل في الخارج. لذلك، أعتقد أن مشكلة القطاع الطبي لا تتوقف عند حاجته إلى الطواقم الطبية بقدر حاجته إلى المنشآت الطبية والمعدات واللوازم المتطورة”.

ويعيش قطاع الخدمات الصحية في غزّة من حالة من عدم الاستقرار على امتداد السنوات الـ 15 الأخيرة. وأدى هذا الأمر للاعتماد بصورة متواصلة على التحويلات الطبية إلى مستشفيات إسرائيل والضفة الغربية والقدس ومصر. وبحسب تقرير عام 2021 الصادر عن وزارة الصحة عن العلاج التخصصي في قطاع غزّة، فإنّ عدد الحالات المحوّلة للعلاج خارج قطاع غزة وصل إلى حوالي 18 ألف حالة مرضية.

وفي الوقت الذي يستمر فيه تعقيد الوضع الراهن لقطاع الخدمات الصحية في قطاع غزّة، فإنّ ذلك ينذر باستمرار هجرة الأطباء إلى الخارج. كما أنه يعزّز من معاناة المرضى الفلسطينيين الذين لم يعد أمامهم سوى الانتظار لشهور طويلة لتأمين طبابتهم، سواءً أكان ذلك في عيادات غزّة التخصصية أو عبر إحالتهم إلى مستشفيات تخصصية خارج فلسطين.