وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الأقلّيّات في العراق من بين أكثر المجتمعات المهدّدة في البلد

أدّى التّعامل غير العادل وقوانين التّمييز العنصريّ ضدّ الأقلّيّات في العراق إلى الهجرة، والتّسرّب من المدارس، والانتحار بالآلاف.

الأقلّيّات في العراق
أعضاء جوقة مسيحية في غرفة في كنيسة القديس يوسف الكلدانية الكاثوليكية في العاصمة العراقية بغداد يوم 27 فبراير 2021. احمد الربيعي / وكالة الصحافة الفرنسية

دانا حوراني

لم تكن جوليانا خامو أثناء نشأتها مطّلعة على ثقافتها الآشوريّة إلّا قليلًا. لكن خلال مراهقتها، وبعد أن أصبحت ناشطة على الإنترنت، غاصت في إرثها الآشوريّ وتعلّقت به أكثر فأكثر.

أمّا اليوم فتعمل هذه الشّابّة في منظّمة إنسانيّة آشوريّة غير ربحيّة في الولايات المتّحدة الأميركيّة، وتدافع عن حقوق الآشوريّين في العراق وسوريا.
قالت خامو لفناك: “أبي آشوريّ عراقيّ هرب من البلاد في أوائل القرن العشرين. ومع أنّه هاجر إلى الولايات المتّحدة الأميركيّة منذ أكثر من 25 سنة، لم يتخلَّ عن جذوره الآشوريّة.”

عاش أبوها في الفاو، وهي بلدة ساحليّة قرب شطّ العرب، قبل تفجير منزله خلال حرب إيران ضدّ العراق في ثمانينيّات القرن العشرين.
وصرّحت خامو بأنّ قبل وصول والدها إلى الولايات المتّحدة الأميركيّة، هرب إلى كندا ليتجنّب تجنيده في الجيش خلال حرب الخليج عام 1990، لكنّ ذكريات العراق لم تخمد ولم تفارقه أبدًا.

أضافت: “تعلّمت من قصص والدي أنّ للمجتمع الآشوريّ إرث غنيّ كان جليًّا في فعاليّاتهم واحتفالاتهم الكنسيّة.”

يشكّل الآشوريّون جزءًا بارزًا من الأقلّيّات في العراق، وهم يتحدّرون من شعوب بلاد ما بين النّهرين القدماء. كما أنّهم عانوا، مثل سائر الأقلّيّات في العراق، القتل والتّفجيرات، والخطف، والتّعذيب، ما أدّى إلى هروب الملايين منهم من البلاد.

يضع الوضع الاقتصاديّ والسّياسيّ والاجتماعيّ في العراق اليوم الكثير من العقبات في وجه شعبها، وبخاصّة الأقلّيّات، الّذين ما زالوا يواجهون خطر الإقصاء، والإهمال، والامّحاء في غياب الحماية والتّمثيل القانونيّين المناسبين.

ماذا يحدث في العراق اليوم؟

ما زال البلد في طور التّعافي بعد عقود من الاضطرابات، والاجتياح الأميركيّ عام 2003، وعمليّات داعش الإرهابيّة. بين الخطف والتّفقير تستمرّ معاناة العراق العظيمة، ويتفاقم هذا الواقع بسبب الفساد وغياب الكفاءة على الصّعيدين التّشريعيّ والتّنفيذيّ بحسب الخبراء السّياسيّين والاقتصاديّين.

ولإضافة المزيد من الصّعوبات، بات التّغيّر المناخي يهدّد باستنفاذ موارد البلد الطّبيعيّة الوفيرة، ما يؤثّر مباشرة على حياة النّاس، كما انخفض معدّل العمالة من 37.49 في المئة عام 2019 إلى 35.66 في المئة عام 2020، وأصبح ربع السّكّان تحت خطّ الفقر.

يزداد هذا الواقع سوءًا بالنّسبة إلى الأقلّيّات الّتي لطالما كانت ناقصة التّمثيل في الحكومات عبر التّاريخ، والّتي لا تُسمَع شكواها أبدًا.

وضع الأقلّيّات

يصعب الحصول على عدد السّكّان الدّقيق في العراق نتيجة غياب بيانات إحصائيّة حديثة وانتشار الحساسيّات السّياسيّة. على الرّغم من ذلك، يُعتقَد بوجود 43 مليون نسمة تعيش في البلاد، أغلبها من الشّيعة والسّنّة العرب والسّنّة الأكراد.

يحوي البلد أيضًا مجموعة متنوّعة من النّاس، وهم من الأقلّيّات الدّينيّة والثّقافيّة واللّغويّة الّتي تعيش بشكل أساسيّ في الشّمال ونادرًا في الجنوب. تتضمّن هذه المجتمعات المتميّزة التّركمانيّين، والأيزيديّين، والمسيحيّين، والشّبكيّين، والكاكائيّين، والصابئة المندائيّين، والبدويّين، والبهائيّين.

وجدت هذه المجموعات المهمّشة نفسها عبر العقود في أوضاع خطرة غير مستقرّة. ومن أكثر المتضرّرين كانوا النّساء والأطفال والعجزة والأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصّة.

منذ استلام صدّام حسين الحكم في أواخر سبعينيّات وأوائل ثمانينيّات القرن العشرين، عانت هذه الشّعوب القتل الجماعيّ والتّهجير من قراها. ومن بين الّذين أجبروا على الهروب من شمال العراق بهدف توطين العرب من جنوب البلاد ووسطه في المنطقة تحت شعار حملة “التّعريب“، هم الأكراد والتّركمانيّون والآشوريّون.

وعلى الرّغم من اختلاف وجهات نظرهما حول حكم صدّام حسين، دعم والد خامو وجدّها حاكم العراق السّابق للغطاء الّذي أمّنه لهما.

وعلّقت خامو في هذا الصّدد ” كانا بخير طالما لم يجاهرا بآرائهما أو يتحدّيا الحكومة، وكانت أولويّاتهما كسب لقمة العيش وإعالة عائلتيهما والتّمتّع بحياة طبيعيّة.”

وأضافت أنّ أفراد عائلتها تواروا عن الأنظار كي لا يتأثّروا مباشرة بسياسات حسين، فحصروا ممارساتهم الثّقافيّة وشعائرهم الدّينيّة بالأماكن المغلقة والخاصّة.

ثمّ أكملت: “في الواقع، شعر الكثير من الأقلّيّات بالأمان تحت حكم حسين، لوجود “نوع من العقد الاجتماعيّ” بين الطّرفين أمّن لأفرادها مستوى معيشيًّا جيّدًا طالما لم يتدخّلوا في السّياسة. في المقابل، خشي آخرون بديلًا وفضّلوا عيش حياة هادئة وآمنة متفادين التّهديدات الّتي اعتادوا عليها والمخاطر المعروفة. وهذا ما ضَمَنَ خلوّ حكم حسين من الثّورات، كما ضَمَنَ ترك الأقلّيّات وشأنها.”

في ظلّ تهديد مستمرّ

انتهى حكم حسين، وبحلول عام 2003 ارتفع معدّل العنف ضدّ الأقلّيّات بنسبة مقلقة، ما أجبر الكثيرين على الهروب في ظلّ تصاعد مخاوف التّغيّر الدّيمغرافيّ.

نجى الآشوريّون والأيزيديّون والشّبكيّون من أعنف الغارات الجوّيّة عند اجتياح القوّات الأميركيّة البلد عام 2003، في حين هرب ما يقارب ثلاثة أرباع المسيحيّين (بمن فيهم المسيحيّين الكلدان، والسّريان الأرثوذكس، والأرمن الكاثوليك، والرّسوليّين، والرّوم الأرثوذكس، والمسيحيّين من كنيسة المشرق الآشوريّة، والآشوريّين / السّريان الكاثوليك) من البلاد.

غالبًا ما كان التّوازن السّياسيّ المعتمد خلال احتلال الولايات المتّحدة الأميركيّة للعراق، يقصي أصغر مجموعات الأقلّيّات في البلاد، وهي تتضمّن الآشوريّين، والمندائيّين، والشّبكيّين، والتّركمانيّين والأيزيديّين. وكان الفساد مسيطرًا على مؤسّسات الدّولة في مناطق العراق وكردستان، الّتي غالبًا ما استُغِلّت لزيادة تأثير الأحزاب السّياسيّة المهيمنة.

كثّف غزو داعش، الّذي أطلق حملته الإرهابيّة في صيف 2014، سفك الدّماء. واحتلّت داعش مدنًا مثل الموصل وتكريت في أقلّ من شهر، ما أرغم مجموعات إثنيّة ودينيّة كالأيزيديّين والمسيحيّين على الهرب من بيوتهم خوفًا من اغتيالهم.

لقد عاش في العراق 350 ألف مسيحيّ و500 ألف أيزيديّ و200 ألف كاكائيّ، و5 آلاف صابئة مندائي، وعدد قليل من أتباع البهائيّين، قبل بروز داعش. أمّا اليوم، وبحسب تقرير لجنة الولايات المتّحدة للحرّيّة الدّينيّة الدّوليّة “بقي في العراق أقلّ من 250 ألف سريانيّ وآشوريّ وكلدانيّ، وقد كان عددهم 700 ألف قبل إبادة داعش، و 1.4 مليون قبل الاحتلال الأميركيّ عام 2003”. أمّا بالنّسبة لمسيحيّي سهل نينوى الّذين أُجبِروا على الهرب فاحتمال عودتهم إلى منازلهم يبقى صعبًا، إذ بوجود الميليشيات النّشطة في المنطقة أصبحت عودة اللّاجئين والشّعوب النّازحة داخليًّا محفوفة بالمخاطر.

وعلى الرّغم من جرائم الإرهابيّين الشّنعاء ضدّ الأقلّيّات، لم يتّهم أيّ منهم بجرائم الحرب، ولا بالجرائم ضدّ الإنسانيّة أو بالإبادة، وذلك نتيجة النّظام القضائيّ المُعيب في العراق. نشرت منظّمة هيومن رايتس ووتش (Human Rights Watch) عام 2017 تقريرًا يشير إلى احتجاز السّلطات العراقيّة أفرادًا يشكّون بانتمائهم إلى داعش في أماكن مكتظّة وفي ظروف غير إنسانيّة، من دون فصل الأطفال عن الرّاشدين المحتجزين، ومن دون توفير مستشارين قانونيّين لهم. إضافة إلى ذلك لم تُصدِر العراق تشريعات تتعلّق تحديدًا بجرائم الحرب، على الرّغم من التّوصيات في هذا الصّدد ضمن آخر تحقيقاتها عام 2014.

لكن، بحسب هيومن رايتس ووتش، تحقّقت بعض التّطوّرات، مثل قانون النّاجيات الأيزيديّات الّذي شرّعه البرلمان العراقيّ في آذار عام 2021. يعترف هذا القانون بأنّ الفظائع المرتكبة بحقّ النّساء والفتيات الأيزيديّات، والتّركمانيّات، والمسيحيّات، والشّبكيّات أعمال إبادة جماعيّة وانتهاك لمبادئ حقوق الإنسان. إلّا أنّ ما من إجراءات تُذكَر قد اتُّخذت في سبيل تطبيق هذا القانون حتّى الآن.

عنف متعدّد الطّبقات

وفقًا لأستاذ التّاريخ والكاتب العراقي مشتاق عيدان الحلفي، أحد أكبر المتاعب الّتي تواجهها الأقلّيّات هي غياب الأمن الّذي توفّره السّلطات القبليّة.

ويشرح أنّ القبليّة ما زالت متجذّرة في العراق، وهذا يضع من هم خارج التّركيبة التّقليديّة في موضع حرج.

يقول الأستاذ لفناك: “من دون حماية المجتمعات الكبرى كالقبائل، ما على الأقلّيّات إلّا أن يدعم بعضها البعض.”

وفي رأيه، ينتقل الكثير من الأقلّيّات إلى المدن حيث للقانون أسبقيّة على التّقاليد القبليّة، فيشعر أفرادها بالتّالي بالأمان.

يضيف أنّ الوسيلة الأساسيّة لحماية حقوق الأقلّيّات في البلاد هي الحصص البرلمانيّة.

إذ تضمن الحصص تخصيص تسعة مقاعد من أصل 329 في مجلس النّوّاب للأقلّيّات من مقاطعات مختلفة، خمسة منها للمسيحيّين، والأربعة الأخرى للأكراد، والأيزيديّين، والشّبكيّين، والمندائيّين بحسب ما تنصّ عليه القوانين الانتخابيّة البرلمانيّة.

لكن لا يستتبع ذلك حقّ التّعبير عن الطّقوس الدّينيّة والإثنيّة علنًا، وبالتّالي تُحصَر ممارستهم هذا الحقّ في منازلهم وأماكن عبادتهم.

ومع ذلك، يدّعي الحلفي أنّ الأقلّيّات في أمان أكثر الآن مع توقّف اعتداءات داعش.

قائلًا: “مشاكلهم الفعليّة الآن، كمشاكل كلّ العراقيّين، هي المصاعب الاقتصاديّة، ونقص فرص العمل، والمخاوف الأمنيّة.”

ما زالت قوانين التّمييز العنصريّ ضدّ الأقلّيّات قائمة حتّى اليوم، وهي تتضمّن قانون 105 الصّادر عام 1970 والّذي يمنع الدّين البهائيّ، والمادّة 21/3 الخاصّة بالأقلّيّات والّتي تجبر الأطفال على الاهتداء إلى الإسلام فور اهتداء أحد والديهم.

إضافة إلى ذلك، أدّى التّعامل غير العادل مع الأقلّيّات في التّوظيف والسّكن والخدمات العامّة والمشاركة السّياسيّة وحرّيّة الحركة والعبادة، إلى الهجرة، والتّسرّب من المدارس، والانتحار بالآلاف.

يشدّد الحلفي على أنّ تشريع قوانين حماية جديدة بلا جدوى من دون تدابير إنفاذيّة صارمة.

مضيفًا: “في ظلّ غياب دولة قويّة، يتمتّع المتطرّفون والميليشيات بحرّيّة أكبر لتهديد أمن الأقلّيّات.”