وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

توافد اللبنانيين الى محلات البالة في عيد الفطر، نتيجة الانهيار الاقتصادي

يعرض هذا المقال المصور توافد اللبنانيين الى محلات البالة في عيد الفطر، وهم يتسوقون لشراء الملابس المستعملة للتأقلم مع انخفاض القدرة الشرائيّة.

اللبنانيين في عيد الفطر
يقع السوق الشعبي وسط أحياء منطقة الشياح المزدحمة في بيروت، ويعرض فيه الباعة مختلف أنواع السلع من فواكه وخضراوات وبضاعة مستعملة متنوعة، منها الملابس والأحذية وحقائب اليد ولعب الأطفال. مروان طحطح/فنك.

دانا حوراني
المصور الصحفي: مروان طحطح

مع نهاية شهر رمضان الكريم، يحلّ عيد الفطر يوم 21 أبريل المقبل مفعمًا كعادته بحركة الأسواق وصخبها، واجتماع العائلات الكبيرة التي تخرج إلى المطاعم والمقاهي، حيث يتباهى الأطفال فرحين بملابسهم الجديدة.

لكن الوضع الاقتصادي الصعب في لبنان نغّص على الناس فرحتهم بالعيد، وتحديدًا الفقراء الذين كانوا أكثر الناس تأثرًا بالأزمة الاقتصادية. ونتيجةً لذلك، طرأت تغيّرات على عادات الناس في العيد، كشراء الملابس، فمنها ما توقّف تمامًا، ومنها ما اتخذ أشكالًا جديدة.

فقد اتجه العديد من الأسر، بعد تدني قدرتها الشرائية، إلى شراء الملابس المستعملة، وهي ظاهرة يرى بعض المراقبين أنها انتشرت مع بداية الأزمة منذ أربع سنوات.

فمنذ عام 2019، يواجه اللبنانيون أزمة مالية مستمرة لم يتمكّن السياسيون من حلّها بعد. ونتج عنها تدهور قيمة العملة المحلية حتى أصبح الدولار يساوي آلاف الليرات. كما تسببت في انخفاض الدخل الذي أوقع كثيرين في هوّة الفقر.

وحتى لا تضيّع الأسر على أطفالها بهجة شراء ملابس جديدة في موسم العيد، اتجهت إلى أسواق البالة أو الملابس المستعملة التي تزايد الطلب عليها منذ وقوع لبنان في الأزمة الاقتصادية المستمرة.

وبعدما كانت البالة مقصد الأسر الفقيرة، صارت وجهة الكل، عدا قلة من الميسورين.

اللبنانيين في عيد الفطر
الناس يتوافدون إلى محلات البالة منذ بداية الأزمة المالية لشراء السلع، وأغلبها بأسعار معقولة تتراوح بين دولار (100ألف ليرة لبنانية) وثلاثة دولارات (300 ألف ليرة لبنانية). مروان طحطح/فنك.
اللبنانيين في عيد الفطر
قالت شديد إن أغلب الزبائن أمهات يشترين الملابس لأطفالهن. ويشتري الزبائن الآخرون الأساسيات كالملابس الداخلية، لكنهم يتوجهون دائمًا إلى أرخص المنتجات. مروان طحطح/فنك.

الأولوية للأساسيات

يقع السوق الشعبي وسط أحياء منطقة الشياح المزدحمة في بيروت، ويعرض فيه الباعة مختلف أنواع السلع من فواكه وخضراوات وبضاعة مستعملة متنوعة، منها الملابس والأحذية وحقائب اليد ولعب الأطفال.

وعادةً ما تجد في هذه المتاجر عاملً أو اثنين ، يبدأ عملهم من الصباح حتى المغرب. وفي رمضان، يداوم عدد كبير منهم بعد الإفطار.

وتعمل نهلة شديد في أحد محلات البالة في هذا السوق المكتظ، حيث يصطف المحل إلى جوار عشرات المحلات الأخرى.

وقد لاحظت نهلة تراجعًا في إقبال الزبائن هذا العام، إذ لم يأت إلا القليل لشراء ملابس العيد. وأكّدت أن هذا العام هو الأسوأ من بين السنوات السابقة كلّها.

وقالت شديد لفنك: “أغلب الزبائن اليوم أمهات يشترين الملابس لأطفالهن. ويشتري الزبائن الآخرون الأساسيات كالملابس الداخلية، لكنهم يتوجهون دائمًا إلى شراء أرخص المنتجات.أمّا في الأسر التي تضمّ عددًا من الأطفال فقد لا يحصل الطفل على أكثر من قطعة ملابس واحدة”.

وأضافت أن الناس يتوافدون على محلات البالة لشراء السلع منذ بداية الأزمة المالية ، وأغلبها بأسعار معقولة تتراوح بين دولار (100 ألف ليرة لبنانية) وثلاثة دولارات (300 ألف ليرة لبنانية). لكن الوضع هذا العام قاس للغاية.

وأضافت: “يستطيع الزبون شراء أربع قطع مستعملة بسعر قطعة جديدة واحدة”، مشيرةً إلى قلة ما تشتريه النساء في العيد مقارنةً ببقية العام بسبب إعطاء الأولوية للأساسيات.

اللبنانيين في عيد الفطر
شيخو النبهان، الجالس في متجره في الصورة، قال إن سعر طقم العيد كاملًا 15 دولارًا تقريبًا. مروان طحطح/فنك.
اللبنانيين في عيد الفطر
رغم تسعير الملابس بالدولار، يجد الناس في محل النبهان منتجات رخيصة يصل سعرها إلى ربع دولار. مروان طحطح/فنك.

التسعير بالدولار وتأثيراته السّلبية

رغم توافد الزبائن إلى محلات البالة خلال السنوات الماضية، يشكو أصحاب المحلات من تراجع أعداد الزبائن في موسم العيد هذا العام مقارنة بالأعوام السابقة. وهذا ما أكده شيخو النبهان، عامل سوري في أحد المتاجر.

فعلى عكس نهلة، يرى النبهان أن قلة الزبائن ترجع إلى تفضيلهم شراء منتجات جديدة لأسرهم بدل إعطاء الأساسيات الأولوية.

وقال لفنك: “رغم زيادة الزبائن إلى حد ما، فإننا نجني بالكاد قوت يومنا”.

فقد أصبح استئجار “الكشك” يكلّف 300 دولار شهريًا، ما يجعل قيمته التأجيرية من الأغلى في المنطقة، الأمر الذي يقلل من هامش الربح.

وقال النبهان إنه في السنوات السابقة كان بإمكانهم ربح 300 دولار في اليوم، لكنهم بالكاد يجنون هذا العام 100 دولار.

غير أن محل النبهان لا يقتصرعلى بيع ملابس الأطفال الرخيصة مقابل 25 ألف ليرة (0.25 دولارًا فقط (الى حين كتابة المقال)، بل نجد فيه قطًعًا غالية الثمن أيضًا.

وأوضح: “جعل قرار التسعير بالدولار الناس مترددين في شراء قطع يزيد سعرها على خمسة دولارات. ومع ذلك، نعرض مجموعة متنوعة من القطع المستعملة ذات الجودة العالية وقد تكون جديدة أو لم تُلبس إلا مرة أو اثنتين ويبلغ ثمنها 10 دولارات تقريبًا “. وأشار إلى أن سعر طقم العيد كاملًا يبلغ 15 دولارًا تقريبًا.

وأضاف أن تطبيق البلاد نظام التسعير الجديد بالدولار الأمريكي لكل السلع، لا سيما المستوردة منها، أصاب الأسر الفقيرة في مقتل.

لكن الزوار السوريين يعوضون الخسارة عندما يتسوّقون.

وقال النبهان: “جودة الملابس المستعملة هنا أعلى من تلك التي في سوريا. ولذلك تعبر أسرٌ عديدة الحدود لشراء لوازم العيد، لكننا ، هذا العام، لم نشهد هذه الحركة حتى الآن”.

اللبنانيين في عيد الفطر
أم علي، التي تتردد عادةً إلى أسواق البالة، تظهر في الصورة وهي تبحث عن بدائل للملابس الراقية والمريحة لأحفادها. مروان طحطح/فن

أم علي وأحفادها

تألف أم علي محلات البالة في منطقة الشياح. وقالت لفنك إنها تعرفها جيدًا حتى إنها تستطيع معرفة أيّ منها أكثرجودة وأقرب الى ذوقها.

ورغم أنها لم تأت خصيصًا في موسم العيد هذا إلّا أنّها تتردد عادةً على المحلات لتشتري لأحفادها ملابس مرتبة ومريحة في آن.

وقالت أم علي: “أفضّل محلات البالة لأنني أجد فيها ملابس بجودة عالية مقابل أسعار معقولة، لكن ينبغي التحلى بالصبر وقضاء ساعات بين أكوام لا تنتهي من الملابس”.

وأم علي هي أم لثلاثة أبناء، اثنان منهم متزوجان لديهما مسؤوليات. وقالت إن ابنيها اشتريا لأطفالهما ملابس مستعملة مقلدة من مجموعات الفيسبوك للاحتفال بالعيد، لكنهما ما زالا يأتيان لمحلات البالة لشراء الأساسيات والملابس اليومية.

وقالت لفنك: “تغيّرت بعض مظاهر الإحتفال بالعيد بسبب انشغال الناس بالأزمة المالية. لكنّ العائلات ما زالت تتجمع لتبهج الأطفال وتهتم بهم رغم تحول المتنزهات إلى شوارع فخمة يحتاج من يؤمها إلى مبالغ كبيرة من الدولارات لا يستطيع جميع الناس دفعها”.

اللبنانيين في عيد الفطر
لينا شماس، التي تدير متجرًا مع زوجها، قالت لفنك إن الزبائن لا يتوافدون هذا العيد كالمعتاد. مروان طحطح/فنك.

كل شيء بأقل من دولار

يدير جهاد شماس وزوجته لينا متجرًا يبيعان فيه كل شيء بأقل من دولار. ورغم رخص أسعار منتجاتهما، بالكاد يحقق الزوجان ربحًا، وقد صارت تجارتهما مهددة بالخسارة، لكنهما يثابران في العمل ويبذلان قصارى جهدهما، فلا بديل أمامهما غير ذلك.

وقالت لينا لفنك: “لا يتوافد الزبائن في موسم العيد كما اعتدنا… فالطعام والشراب أصبحا أولوية الناس القصوى”.

وقد تكدست في المحل القمصان والسراويل والفساتين والملابس الداخلية وملابس الأطفال بالرغم من أنّ سعر القطعة منها 50 سنتًا .

وقالت لينا: “اعتاد بعض الناس الشراء بأسعار العام الماضي حيث كان كل شيء يُباع بعشرين سنتًا، ويعتبرون الأسعار الحالية غالية ويمتنعون عن التسوق، ما يؤدي الى تراجع في أعدادهم “.

وبعدما رأت لينا تجارة عائلتها تنمو على مدار 30 عامًا، تراقب اليوم بصمت الزبائن وهو يقلبون أكوام الملابس، ومعظمها بيضاء اللون، وترثي لحالها وتشعر بالكآبة.

وقالت: “لا أشعر بفرحة العيد، فكل شيء يبدو كئيبًا”.

اللبنانيين في عيد الفطر
شام البالغة من العمر أربعة أعوام تقف إلى جوار أمها، عفاف الأحمد، وهي تقلّب أكوام الملابس. مروان طحطح/فنك.
اللبنانيين في عيد الفطر
عفاف الأحمد واحدة من زبائن متجر الشماس، إذ تتردد عليهم لشراء ملابس لأطفالها الأربعة. مروان طحطح/فنك.

التوفير من أجل الأطفال

عفاف الأحمد واحدة من زبائن متجر الشماس، إذ تتردد عليهم لشراء ملابس لأطفالها الأربعة. وقد أرادت اللاجئة السورية المتزوجة التي تعمل في المنازل أن يكون احتفال أطفالها بالعيد هذا العام مميزًا.

وقالت لفنك: “طلب مني الأطفال ملابس جديدة بدل المستعملة، لذلك وفرت المال لشراء ملابس تخضع لتخفيضات في الأسعار ما يجعلها بسعر أقلّ ، وكلفتني ملابس كلّ طفل ما يُقارب ستة دولارات.

ووقفت شام، أربعة أعوام، تراقب أمها بصمت وهي تفتّش في أكوام الملابس.

وتتردد عفاف منذ أربع سنوات على هذه الأسواق، وقد مضى على إقامتها في لبنان خمس سنوات، وترى أن محلات البالة تقدم جودة عالية مقابل سعر منخفض.

وقالت لفنك: “يمكن أن تجد ملابس عالية الجودة من القطن أو الكتان يرتديها الأطفال لاحقًا من أكبرهم إلى أصغرهم. كما إنّي أوفّر المال للمناسبات الخاصة كالعيد، إذ لن يرتدي الأطفال ملابس جديدة إلا في مناسبة كهذه. وأحاول أن أُسعد أطفالي بقدر الإمكان في ظل المصاعب المحيطة بهم”.

ورغم تلبية بعض طلبات الأطفال، إلّا أنّها لم تستطع تلبيتها كلّها كشراء أحذية جديدة وإكسسوارات.

اللبنانيين في عيد الفطر
يشتهر متجر صلاح بأنه أغلى من بقية المتاجر، ويبيع ألعاب الأطفال ضمن السلع التي يعرضها. مروان طحطح/فنك.
اللبنانيين في عيد الفطر
متجر صلاح يبدو منظمًا مقارنةً ببقية المتاجر، فالملابس متراصة بنظام. وتتراوح الأسعار عنده بين ثلاثة دولارات و20 دولارًا. مروان طحطح/فنك.

جودة أعلى، سعر أغلى

في الطرف الآخر من السوق، تقع متاجر تبيع البضائع بأسعار أغلى.

فمتجر صلاح يبدو منظمًا مقارنةً ببقية المتاجر، فالملابس متراصة بنظام. وتتراوح الأسعار عنده بين ثلاثة دولارات و20 دولارًا .

وقال لفنك: “يأتي الناس إليّ ليجدوا ملابس جديدة وحديثة الموضة، وهي غالية، لذلك أحاول توفير ما يبحثون عنه”.

ورغم تزايد عدد زبائنه في موسم العيد، ما زال يلاحظ أن الناس يشترون كمية محدودة من الملابس وغالبيتها ملابس رياضية وقمصان، دون إسراف في شراء العلامات التجارية الباهظة.

وقال صلاح إن هذا ربما يكون بسبب تدهور الحالة الاقتصادية، لكن تغيّر الطقس يلعب دورًا أيضًا فقد تقلّب الطقس بين البرودة القارسة والحر الشديد خلال الأسابيع الماضية .

اللبنانيين في عيد الفطر
نجاح بيضون، 22 عامًا، تبتسم حين عثرت على فستان أبيض وملابس بحر صغيرة لابنتها. مروان طحطح/فنك.

حنان أم

اتجهت نجاح بيضون، 22 عامًا، إلى أحد أرخص المتاجر في السوق في زحمة الظهيرة لتشتري ملابس العيد لابنتها التي أتمّت عامها الأول.

وكان زوجها، الذي يخدم في الجيش ويتقاضى راتبًا لا يتجاوز 84 دولارًا شهريًا، أحد ضحايا هذا الوضع. ويعد الموظفون في القطاع العام في لبنان من أكثر الفئات ضعفًا وتأثرًا بارتفاع سعر صرف الدولار.

وقد ارتسمت البسمة على وجهها حين عثرت على فستان أبيض وملابس بحر صغيرة لابنتها.

وقالت: “أعلم أن الذكريات السعيدة هي التي ستبقى معها، فسعادتها أهم من سعادتي”.

وبينما كانت طفولة بيضون مليئة بفرح العيد وتجمع العائلة وارتداء الملابس الجديدة، قالت إنها لن تشتري أي جديد لنفسها هذا العام.

وقالت: “أتمنى لو كان عندي ما أستطيع به شراء منتجات عالية الجودة، لكنني أفعل ما بوسعي”.

وتحسرت قائلةً: “لو كنت أستطيع، لحميت ابنتي من كل هذا، لكن ليس بيدي ما أفعله. لا يبدو أن العيد سيحلّ هذا العام… نحن نحاول ما بوسعنا، لكن يبدو أن الناس لا يتطلعون إليه، بل إن بعضهم يتمنى مروره بسرعة”.