تبحث هذه المقالة المثيرة للتفكير في النصوص الدينية والحوادث التاريخية لتسليط الضوء على الأسئلة الوجودية التي تنشأ في أوقات الأزمات.
حسين علي الزعبي
الزلزال الذي وقع في تركيا وسوريا أثار الكثير من التساؤلات الوجودية في هذين البلدين. وكما هو معروف، فإن الأحداث الكبرى، كالحروب والكوارث الطبيعية، تعيد طرح الأسئلة الكبرى التي تهز يقينيات المجتمع بعقائده ومسلماته الإيمانية الماورائية ونصوصه الدينية.
ومنذ وقوع الزلزال، يعيش أبناء منطقة الشرق الأوسط بحالة ترقّب دائم أكثر من أي وقتٍ مضى لما قد يرد من خبراء علم الأبراج. وجاء ذلك عقب التوقعات التي أطلقها الباحث الهولندي فرانك هوخربيتس، سيّما وأن هذا الأخير اعتمد في توقعاته على حركة الكواكب.
وبطبيعة الحال، فإنّ هذا التوجّه قد يتوافق مع قراءة ابن خلدون لتفاعل المجتمعات مع ما يصيبها أزمات. وذهب ابن خلدون قبل مئات السنوات لتأكيد لجوء المجتمعات إلى التنجيم، إن جاز لنا تسمية ذلك تنجيما، عندما تهتز بالحروب أو بالكوارث.
القيامة
ناجون كثر من زلزال تركيا وسوريا شبّهوا لحظات وقوع هذه الكارثة بيوم القيامة. وبطبيعة الحال، فإن هذا التوصيف مرتبطٌ بما في الذهن الجمعي السوري والتركي من تصوّر عن يوم القيامة، سواءً جاء ذلك عن طريق النصوص الدينية أو عبر ما يتم تقديمه من مواد سينمائية وتلفزيونية عن هذا الموضوع. لكن ما علاقة الزلزال بالقيامة أو بنهاية العالم؟
في معتقدات عموم ساكني المنطقة المنكوبة، تعتبر كثرة الزلازل من “علامات الساعة”، أي من مؤشرات اقتراب يوم القيامة. ففي الحديث: “لا تقوم الساعة حتى يُقبض العلم وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج…”.
وفي هذا السياق، يقول رجل الدين ابنُ عُثَيمين: “لا تَقومُ السَّاعةُ حَتَّى تَكثُر الزَّلازِلُ، وهيَ نَوعانِ: زَلازِلُ حِسِّيَّةٌ تَهُزُّ الأرضَ، فتُدَمِّرُ القُرى والمَساكِنَ، وزَلازِلُ مَعنَويَّةٌ تُزَلزِلُ الإيمانَ والعَقيدةَ والأخلاقَ والسُّلوكَ، حَتَّى يَضطَرِبَ النَّاسُ في عَقائِدِهم وأخلاقِهم وسُلوكِهم، فيَعودَ الحَليمُ العاقِلُ حيرانَ، والحَديثُ مُحتَمِلٌ لكُلٍّ مِنهما، وهو في الأوَّلِ أظهَرُ”.
الداعية الشحات العزازي، وهو أحد علماء وزارة الأوقاف المصرية، أيّد ما ذهب إليه ابن عثيمين. كذلك ذهب أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر أحمد كريمة في نفس المسار. وقال كريمة إن الزلزال الذي وقع في تركيا وسوريا من علامات الساعة.
بيد أنّ هذا الطرح يصطدم بتساؤلات أشخاص كثر عن حوادث تاريخية مشابهة، بل ربما كانت أشد قسوة مما حدث مؤخرا. ويقول الشريف محمد بن رسول الحسيني البرزنجي في كتابه “أشراط الساعة“: “وقَعَ في خِلافةِ الْمُتَوَكِّلِ سَنةَ اثنَتين وثَلاثينَ ومِئَتين زَلزَلةٌ مَهولةٌ بدِمشقَ. وامتَدَّت إلى أنطاكيَّةَ فهدَمَتْها، وإلى الجَزيرةِ فأحرَقَتْها، وإلى الْمَوصِلِ. وفي 242 هـ، زُلزِلَتِ الأرضُ زَلزَلةً عَظيمةً بتونُسَ وأعمالِها، وخُراسان، ونَيسابور، وطبرسْتانَ، وأصبَهانَ. وتَقَطَّعَت جِبالٌ، وتَشَقَّقَتِ الأرضُ بقَدرِ ما يَدخُلُ الرَّجُلُ في الشَّقِّ. وكان بينَ الزَّلزَلَتينِ عَشْرُ سِنينَ. وفي سَنةِ 245، عَمَّتِ الزَّلازِلُ الدُّنيا، فأخرَبَتِ الْمُدُنَ والقِلاعَ والقَناطِرَ. وسَقَطَ من أنطاكيةَ جَبَلٌ في البَحرِ”.
ويرد في كتاب البرزنجي: “في خِلافةِ الْمُعتَضِدِ سَنة مِئَتين وثَمانينَ، وقَعَت في الديبلِ زَلزَلةٌ عَظيمةٌ هَدَمَت عامَّةَ البَلَدِ، فكان عِدَّةُ من أُخرِجَ من تَحتِ الرَّدْمِ 150 ألف. وفي 460، وقَعَ بالرَّملةِ زَلزَلةٌ هائِلةٌ خَرَبَّتْها حَتَّى طَلَع الْماءُ من رُؤوسِ الآبارِ. وهَلَكَ من أهلِها 25 ألف. وبَعُدَ البَحرُ عَن ساحِلِه مَسيرةَ يَومٍ، فنَزلَ النَّاسُ إلى أرضِه يَلتَقِطونَ؛ فرَجعَ الْماءُ عليهم فأهلَكَهم”.
ما أورده البرزنجي يشير بوضوح إلى تعرّض المنطقة لزلازل وكذلك لـ “تسونامي”. ويبدو ما وقع حينها، بحسب وصف البرزنجي، أعنف بكثير مما حصل يوم السادس من فبراير 2023، وهو ما لم يؤدّ إلى قيام الساعة في ذلك الوقت. ورغم أنّ البرزنجي لم يشر إلى تساؤلات الناس واعتقاداتهم إثر تلك الزلازل، إلا أنّ ما تورده كتب التاريخ عن كارثة من نوع آخر وهي كارثة سقوط بغداد على يد المغول وارتكابهم مقتلة عظيمة فيها يشير إلى ذلك.
حينذاك انتشر بين الناس أنّ سقوط بغداد من علامات الساعة وأنّ “المهدي المنتظر سيخرج قريبًا جدًّا ليقود جيوش المسلمين للانتصار على المغول وسينزل المسيح وستكون الساعة” وهذا ما لم يحدث.
العقاب والثواب
الشمال السوري منكوبٌ أصلا بفعل الأزمة السورية المستمرة منذ أكثر من 10 سنوات. وبعد كارثة الزلزال، باتت هذه المنطقة محطّ تساؤلاتٍ لا يبدو أنّ لها أجوبة واضحة. هذه التساؤلات تتمحور حول سؤال واحد “لماذا نحن؟ وقد تعرضنا لكافة أشكال الأوجاع طيلة عقد من الزمن”. صحيحٌ ألّا أجوبة واضحة لهذا الأمر، لكن كثر، لاسيما من المحسوبين على رجال الدين، وضعوا ما حصل ضمن معادلة الثواب والعقاب، وبما يتوافق مع مفهومي “المحن والمنح”.
واستند هؤلاء إلى نصوص دينية تدعم طرفي المعادلة، مرةً من باب الثواب، ومرةً من باب العقاب. وهذه الأخيرة أثارت استياءً وجد انعكاسه على وسائل التواصل الاجتماعي. وراح البعض يناقش النصوص، لا سيما أحد الأقوال الشهيرة للخليفة الراشدي عمر بن الخطاب. وينُسب لعمر قوله: “والله ما كثرت ذنوب أمّة إلا عاقبها الله بالزلازل وبالريح وبالأمطار التي تُغرقهم”.
وللعلم، فإن عهد عمر شهد كارثةً من نوع آخر وهي “طاعون عمواس“. وأودى هذا الطاعون بحياة 25 ألفا وقيل 30 ألفا، بينهم جماعة من كبار الصحابة.
الشق الآخر من المعادلة هو الثواب. ويذهب أصحاب هذه الفرضية إلى اعتقاد أنّ ما حدث عقوبة إلهية قصدها التكفير عن السيئات واختبار الإيمان. واستند دعاة هذه الفرضية إلى نصوص دينية. ومن هذه النصوص حديثٌ نقله أبو هريرة عن رسول الله (ص). وجاء في الحديث: “من يُرِد الله به خيرا يُصِب منه”.
وبوّب البخاري “باب: أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل”. كما نقل عن النبي محمد الحديث التالي: “إن من أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم”. كما ورد في الحديث: “إذا أحبّ الله قوما ابتلاهم. فمن صبر فله الصبر، ومن جَزَع فله الجَزَع”.
وفي هذا السياق، برزت فكرة صحة سند النص وضعفه للنقاش، فضلا عن فكرة الثواب وكذلك العقاب من أصلها. فهل يستحق الأطفال الذين قضوا في هذه الكارثة العقاب؟ وهل الفساد في تلك المنطقة أقلّ من أماكن أخرى من سوريا نفسها؟ أو في غيره من البلدان؟
لعلّ هذا يذكّر بقصيدة وجهها فولتير إلى رجال الدين المسيحيين الذين قدموا تبريرات مشابهة في تفسير الزلزال العظيم الذي ضرب مدينة لشبونة في العام 1755. ومما جاء في هذه القصيدة التي جاءت بعنوان عن كارثة لشبونة:
أتقولون أمام الأشلاء التي ما زالت ترتعش:
“الله هو المنتقم: الخطيئة جزاؤها الموت”؟
إذن، ما جريمة أو خطيئة تلك القلوب الصغيرة
التي ترقد على صدور الأمهات مضرجةً بالدماء؟
وهل كأس الرذيلة في لشبونة ممتلئٌ أكثر
من ذاك الموجود في لندن أو باريس أو مدريد المضاءة بنور الشمس؟
القدر خيره وشره
قد تكون ثنائية العقاب والثواب هي الأكثر حضورا في سياق النقاش الذي فرضه الزلزال الأخير. بيد أن هذه الثنائية لا تعني الغياب التام لطرح التسليم بالقدر الإلهي، “خيره وشره”. ويحاول أصحاب هذا الطرح تقديم فرضية أنّ الله لا يصدر عنه سوى الخير، وأنّ الكارثة التي تراها شرّاً، قد يكون وراءها حكمة إلهية خيّرة.
متبنّو هذا الطرح يستدلون، لتأكيد وجهة نظرهم، بما ورد في القرآن عن قصة النبي موسى والخضر. هذا الأخير قام بثلاثة أعمال أغضبت موسى، ظاهرها إغراق سفينة، وهدم جدار، وقتل فتى. إلّا أن الخضر يكشف في النهاية عن حقيقة أفعاله لتبدو أعمالا خيّرة.
هذا التصور في معالجة ما طرحه الزلزال من أسئلة إشكالية، وربما وجودية، قد يصعب على الجميع استيعابه من مفهوم الرضا والإيمان المطلق بما يحدث. ولعلّ هذا ما يؤكده النص القرآني نفسه الذي يعالج الفكرة. فالنبي موسى الذي تعهد سلفا أمام العبد الصالح الخضر بعدم الاعتراض على أي فعل قبل أن يوضحه له، لم يستطع الصبر وأعلن استسلامه. فكيف بمن هم أدنى من موسى وفق الرؤية الدينية؟
نظرية المؤامرة
في عام 2018، أجرى دراسة معهد ماساشوستس للتكنولوجيا دراسة على إثر تداول الأخبار غير المدققة أثناء وقوع الكوارث. وبحسب هذه الدراسة، فإنّ إقبال الناس على تداول الأخبار ومشاركتها دون تدقيق أثناء الأزمات والكوارث يساهم في انتشار الأخبار الكاذبة والإشاعات على وسائل التواصل الاجتماعي. ويكون انتشار هذه الأخبار أسرع بست مرات مقارنةً بانتشار الأخبار الصحيحة.
الأمر نفسه ينطبق على انتشار الرؤى التي استندت في تفسيرها لما حدث على “نظرية المؤامرة”. وربطت بعض الحسابات الموجودة على مواقع التواصل الاجتماعي بين الزلزال وسحب مجموعة من الدول الأوروبية سفراءها من تركيا. وكان ذلك قبل 20 ساعة من وقوع الزلزال.
البعض الآخر ذهب إلى حد تفسير وقوع الزلزال بادعاء استخدام السلاح النووي. ويزعم أصحاب هذا الطرح أن الولايات المتحدة ألقت قنبلة نووية صغيرة في البحر قبالة السواحل التركية.
مجموعةٌ أخرى ذهبت إلى حدّ اتهام أمريكا باستخدام سلاحٍ غامض يجري تصنيعه في مشروع “هارب” ويمكنه إحداث زلازل صناعية. وتحدّث آخرون عن أسلحة تقوم بإطلاق نبضات كهرومغناطيسية عالية الكثافة. واستند هؤلاء في مزاعمهم تلك إلى قيام أمريكا بإجراء مناورات عسكرية مشتركة في البحر المتوسط مع قبرص واليونان قبل أيام من الزلزال.
ما سبق من طروحات “مؤامراتية” كان روادها من أنصار تركيا. ولكن ماذا عن خصومها؟ في هذا السياق، برزت نظرية السدود. وتقوم هذه النظرية على إنشاء تركيا لمئات السدود التي خلفت وراءها بحيرات تخزين مياه عملاقة أدّت إلى تسرب كميات ضخمة من المياه الجوفية في الأرض، ما تسبب في حدوث الزلزال. واستند أصحاب هذا الافتراض في مزاعمهم إلى مسارعة الحكومة التركية لتفريغ خزانات السدود الواقعة على خط الزلزال خوفا من حدوث فيضان قد يغمر جنوب تركيا ويمتد إلى سوريا والعراق.
أنصار روسو
مثلما تطرح الأحداث الكبرى أسئلة كبرى، ربما أيضا تفتح الباب لتصورات أخرى عن الحياة وعلاقتها بالدين ورجال الدين والرؤى الدينية ودورها في المجتمع. ولا يبدو أنّ هذه التصورات تقف حكراً على فئة اجتماعية أو منطقة جغرافية بعينها. وهذا ما تؤكده سياقات التطور الحضاري. فالسلام الأوروبي جاء بعد حروب طاحنة. وعصر النهضة الأوروبي جاء أيضا بعد مواجهة رجال الفكر المحرمات التي كان يفرضها المجتمع بكل قواه السياسية والدينية والاجتماعية.
من جملة ما طرحته كارثة الزلزال محاولة إبعاد ما حدث عن التصورات الدينية الماورائية والدعوة للتركيز على القضايا الواقعية التي فرضتها معطيات الزلزال. ومن هذه القضايا الملحّة عدد الضحايا الكبير وعلاقته بمخالفات البناء. ودعا أنصار هذا التوجّه إلى محاسبة القائمين على عمليات البناء وتحميلهم جزءاً من مسؤولية الكارثة.
وبطبيعة الحال، يتفق هؤلاء في تصوراتهم مع ما طرحه جان جاك روسو خلال بحثه في زلزال لشبونة المدمر. ولم يحمّل روسو حينذاك “الإنسان” مسؤولية وقوع زلزال لشبونة، لكنّه ردّ ارتفاع عدد الضحايا وعددهم 250 ألف قتيل، لعوامل بشرية الصنع.
وبحسب طرح روسو، فإن مسؤولية البشر تكمن في تشييد منازل مكوّنة من عدة طوابق. وبدون هذه الطوابق، لما وقع هذا العدد الهائل من القتلى. وعلى هذا النحو، فقد اعتبر روسو أن العناية الإلهية غير مسؤولة بتاتا عمّا وقع في لشبونة.