دانا حوراني
أصبحت الحياة أشد قسوة على كاترينا*، المواطنة الأوكرانية اللّبنانية البالغة من العمر 30 عامًا والتي تعيش في لبنان في الوقت الراهن.
فهي تبدأ يومها خائفةً من الأخبار التي ترد من عائلتها وأصدقائها في أوكرانيا، وتنهيه داعيةً أن يمرّ الليل بسلام عليهم وهي نائمة.
وقالت كاترينا لفنك بعدما أن طلبت إخفاء هويتها: “قضيت الأسبوع الماضي كلّه في البكاء والاتصال بأقربائي وأصدقائي في أوكرانيا، فهم أقوى وأكثر مرونةً وتأقلمًا”.
وبينما يستمر قلق كاترينا وكثير من الأوكرانيين على عائلاتهم في وطنهم الأمّ، لم يحُل خوفهم ولا معاناتهم دون تعرّضهم لتعليقات عنصرية ومعادية للمرأة على مواقع التواصل الاجتماعي.
فعلى سبيل المثال، نشرت صحيفة الشرق اللبنانية في أحد أعداد شهر فبراير، قبيل الغزو الروسي لأوكرانيا، صورة مفبركة لعارضة الأزياء الروسية ناتالي لي في قسم المنوعات والمزاح كاتبين عليها: “عمل إنساني. تبنّوا أوكرانية لحمايتها من الاحتلال الروسي” وهو ما أثار حفيظة السفير الأوكراني في لبنان وطالب باعتذار رسمي. ناهيك عن الغضب الذي أثارته الصورة في الفضاء الرقمي اللبناني، لا سيما أن مالك الصحيفة ورئيس تحريرها هو عوني الكعكي نقيب الصحافة اللبنانية.
وكذلك كتب المغني اللبناني أمير يزبك منشورًا على صفحته التي يتابعها كثيرون على فيسبوك قال فيه: “بيوتنا وقلوبنا مفتوحة للنازحات من أوكرانيا” إلى جانب صور نساء أوكرانيات، وما لبث أن قام بحذفه بعدما أثار غضبًا في أوساط مواقع التواصل الإجتماعي.
وليست هذه المنشورات حالات فردية بأي حال من الأحوال، وإنما تعبّر عن اتجاه عميق معاد للمرأة سبق وجوده الغزو الروسي لأوكرانيا، لكنه ظهر معه على مواقع التواصل الاجتماعي.
وما الخطاب الجنسي عن المرأة عمومًا، والأجنبيات خصوصًا، بجديد في لبنان، لكنه يزداد يومًا بعد يومٍ عندما تكون المرأة من شرق أوروبا ومن أوكرانيا على وجه التحديد.
فعلى مدار سنوات، رسّخ الإعلام المحليّ قوالب نمطية لخدمة صناعة الجنس في لبنان والتي ضمت المئات من نساء أوروبا الشرقية في التسعينيات، فنزعت الإنسانية عنهن وجعلتهن محط طلب الرجال، حتى أصبحْن أكثر عرضة للاستهداف.
وقالت سارة قدورة، الناشطة في مجال حقوق المرأة ومنسقة مشروع الألِف، لفنك: “ينجذب بعض الرجال في لبنان إلى الأوكرانيات لأنهن يتمتعن بالجمال الأوروبي المثالي، إلا أن وضعهن ما يزال بائسًا لأنهن لا يتمتعن بالحقوق نفسها التي تتمتع بها الأوروبيات الغربيات بشكل خاص”.
وأضافت قدورة أن لدى بعض اللبنانيين تصورًا خاطئًا عن خضوع المرأة في أوروبا الشرقية، “فهم يعتقدون أنها ترفض المساواة وتفضّل الانقياد”.
لكن يبدو أن هذا التصور يتغير ولو ببطء مع تعرّض أوكرانيا لغزو من جارتها القوية.
الكلمات المؤلمة
وللقوالب النمطية التي تترسخ في الإعلام والفضاء الرقمي تأثيرات واقعية. فكلما ترسخت زاد التطبيع مع السخرية المتحرشة والجنسية والفظة.
فما تزال تذكر ديانا، 32 عامًا، وهي ابنة لأب لبناني وأم أوكرانية، أحد التعليقات التي تلقتها هي وصديقاتها الأوكرانيات على اختياراتهن في الملابس.
فقالت لفنك: “النساء اللاتي يرتدين ملابس قصيرة أو ضيقة يعتبرهن البعض أوكرانيات نموذجيات. والنموذجية هنا لها معنى سلبي، أي افتقاد الأخلاق”.
وأضافت أن هؤلاء الناس أنفسهم يعتبرون اللبنانيات ممّن لهن الاختيارات نفسها “منفتحات”. لكن الأمر يختلف عندما تكون المرأة أوكرانية، فيكون التعليق: “أمها أوكرانية، ماذا تتوقع منها؟ لا بد أن تلبس بهذه الطريقة”. وهو واحد من تعليقات كثيرة ستُضطر ديانا إلى التعامل معها طوال حياتها.
وشددت ديانا على أنه: “غالبا ما يُشار إلى النساء في أوكرانيا اللاتي يفتخرن بثقافتهن وتراثهن على أنهن تجسيد للمرأة الأوكرانية النموذجية”.
وقد اعتادت إلينا، مثلها مثل ديانا، هذه السلوكيات، فهي تعيش في لبنان منذ 35 عامًا، بعدما انتقلت إليها لتتزوج وتكوّن أسرةً مع زوجها. لكنها قالت إن القوالب الجنسية والتعليقات المعادية للمرأة لم تعد تؤثر فيها.
وقالت لفنك: “لقد اعتدنا تجاهل هذه التعليقات الجاهلة. اعتاد بعض الناس أن يسألونا إن كنا نعمل في كازينو أو يعتبرونا عاهرات، لكنني بصراحة تعلّمت أن أبقى بعيدة عن هؤلاء الناس”.
وأضافت: “تكرر على مسامعنا أننا في لبنان لتدفئة أسرّة الرجال، لكنني أحسب أن الوقت قد حان ليتعلم الناس احترام نساء أوروبا الشرقية لعملهن الجاد وذكائهن وصمودهن”.
الذكورية المهيمنة
قالت كلير ويلسون، -المتخصصة في الجندر في الأمم المتحدة- لفنك بأن هذه القوالب النمطية أحد أنفذ وسائل النظام الأبوي للهيمنة على النساء والتحكم بهن. كما أن القوالب الجنسية تشيئ المرأة بطبيعتها ما يجعل النساء أكثر عرضة للتحرش والاعتداء.
وأضافت أن حقوق الرجال أكثر من النساء في المجتمع، خصوصًا الحق في التعبير عن الرغبة الجنسية، وهو ما قد يدفع المجتمع إلى التطبيع مع الرجال النشطين جنسيًّا الذين قد يستهدفون الأجنبيات لأغراضٍ جنسيّة أو حتى للزواج.
وقالت قدورة في ما يتعلق بالزواج بأن الرّجال في لبنان يرون أن النساء الأوكرانيات “خبراء في الجنس ويستطعن تلبية حاجاتهم، وأنهن أقل تطلبًا من اللبنانيات، وأن الرجال يحبّون الشعور بالبطولة لإنقاذهن من الاضطرار إلى العمل”.
وأوضحت الناشطة أن الاختلافات الاجتماعية والسياسية بين أوكرانيا ولبنان جعلت مطالب كثير من النساء في الزواج غير متطابقة. فبينما توفر الحكومة الأوكرانية لمواطنيها الاحتياجات الإنسانية الأساسية مثل السكن والدراسة والرعاية الصحية، تترك الحكومة اللبنانية شعبها يتولى أموره بنفسه، وخصوصًا النساء اللائي يتمتعن بقدر ضئيل من الحقوق.
ليس الإعلام وحده المسؤل
هذه القوالب النمطية القوية دفعت في مكان ما بعض رجال السياسة في لبنان الى استخدامها في أحاديثهم. فعلى سبيل المثال، قال الوزير السابق، وئام وهاب، في مداخلة تلفزيونية مباشرة إن لبنان “إن كانت بلد دعارة، فلنجلب عشرة آلاف سيدة روسية أو أوكرانية”.
وكانت هذه التصريحات ردًا على سؤال لوهاب عن محادثاته الأخيرة مع الرئيس اللبناني حول الوضع العام في لبنان، وقد أثارت ردود فعل عنيفة وتحركًا من السفارة الأوكرانية في لبنان والتي طلبت بدورها اعتذارًا.
ومع أن الوضع اللبناني لا علاقة له بروسيا ولا بأوكرانيا، ولا بنسائهن تحديدًا، إلا أن وهاب يلجأ دائمًا لمعاداة المرأة دون غيرها كوسيلة للتعبير عن رأيه.
وقالت ويلسون بإن تفكيك القوالب الجنسية عملية طويلة تحتاج إلى وعي دائم وملاحظة لا تتوانى عن كل كبيرة وصغيرة وتصبُّ للتغيير دائمًا.
وأضافت: “التربية الجنسية في المدارس نقطة بداية مهمة لتعليم الجيل الجديد، ولتوضيح ماهية التمييز الجنسي حتى نستطيع التفكير فيه بشكل مختلف. وعندما ينخرط الناس في هذه النقاشات، يحدث التغيير”.
أما قدورة، فترى أن التغيير قد بدأ بالفعل. فقد لاحظت أن عدد المنشورات المعادية للمرأة والمزاح الجنسي عن النساء الأوكرانيات يتراجع مع مرور الوقت.
وقالت: “على رغم التطبيع الحاصل في مجتمعنا مع هذا السلوك ، يتحرك العديد من النشطاء والنسويات بسرعة وذلك لوصمه وتوعية الناس عن خطورة مشاكله. فلم نعد نقبل بهذه السلوكيات”.