أكاد أسمع النخيل يشربُ المطر
وأسمع القرى تَئِنُّ، والمهاجرين
يُصَارِعُون بِالمجاذيف وبالقُلُوع،
عَوَاصِفَ الخليج، والرُّعُودَ، منشدين :
مَطَر…
مَطَر…
مَطَر…
قصيدة “أنشودة المطر” للشاعر العراقي بدر شاكر السيّاب (1926- 1964).
كانت المياه شريان الحياة للعراق منذ ولادة الحضارة في بلاد ما بين النهرين وتم تضمينها بشكلٍ بارز في ملاحم بطولية عمرها آلاف السنين وكذلك القصائد المعاصرة. وفي العقود الأخيرة، أصبحت المياه مصدر الصراعات وضحاياها، حيث ظهرت كواحدة من العديد من المشاكل البيئية التي تلت سنواتٍ من الحرب والتمرد العنيف وسوء الإدارة الجسيم. من تدمير صدام حسين للأنظمة البيئية للأهوار الفريدة من نوعها في جنوب العراق خلال الحرب مع إيران في ثمانينيات القرن الماضي، إلى إحراق الأراضي الزراعية في الحزام الأخضر في العراق في عام 2019، أدت الهجمات البيئية والتلوث المستمر إلى زيادة تدهور الموارد الطبيعية والثقافية القيمة للبلاد.
تم توثيق اتساع نطاق القضايا البيئية التي تواجه العراق حتى ظهور تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في العقد الماضي من خلال المنافذ الإخبارية ووكالات الأمم المتحدة والتقييمات الحكومية، التي استعرضت كيف أدى سوء الإدارة والحرب والفساد والإهمال السياسي في النهاية إلى التدهور البيئي. واليوم، يتجرع شباب العراق مرارة هذه الحوادث المؤسفة. وفي الوقت نفسه، عزز الوعي المتزايد بالقضايا البيئية الحركات الشعبية، وأجج الاحتجاجات وأثار صعود الجماعات التي ترغب في تغيير مسار البلاد.
الآثار المدمرة
بعد أن هدأت الأمور في أعقاب هزيمة داعش، ظهرت صورة مقلقة عن التداعيات البيئية عندما نشرت المنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية والصحفيين الذين راقبوا النزاع تحليلهم وتقييمهم. فقد كان لحرق داعش عن قصدٍ آبار النفط في القيارة في نينوى وإحراق مخزونات حقول كبريت المشراق آثارٌ صحية خطيرة على آلاف المدنيين في المناطق المجاورة لهذه المواقع. وفي الوقت نفسه، أثر التلوث الناجم عن الانسكابات النفطية والتكرير اليدوي والتسريبات على الأنهار والأراضي الزراعية، كما أوضح معهد الأمم المتحدة للتدريب والبحث وموقع بيلينغ كات ومنظمة باكس. كما وثق برنامج الأمم المتحدة للبيئة وبرنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية الآثار الشديدة للتدمير في المناطق الحضرية، مما يضاعف من مخاطر الصحة البيئية الناجمة عن الأنقاض والمناطق الصناعية التالفة وغيرها من المصادر الملوثة بالمواد الكيميائية الخطرة. وأثناء احتلاله للأراضي وانسحابه منها فيما بعد، دمر داعش جزءاً كبيراً من البنية التحتية للمياه الخاضعة لسيطرته، مما قلل من الإنتاج الزراعي بنسبة 40%، وفقاً لمنظمة الهجرة الدولية. وعليه، تقدر الحكومة العراقية أن هناك حاجة إلى 5,5 مليار دولار لإعادة تأهيل بيئة البلاد ومواردها الطبيعية، بما في ذلك إعادة بناء البنية التحتية وبناء القدرات.
مصائب المياه والنفايات
أثبت صيف 2018 هشاشة البيئة في البلاد، عندما أصيب أكثر من 120 ألف شخصٍ في البصرة بأمراض مختلفة بعد شرب المياه الملوثة. تم ربط الحادث بمحطة ترشيح قديمة غير قادرة على معالجة تحلية المياه، بسبب نقص المياه العذبة في نهري دجلة والفرات المتدفقة باتجاه البحر. تفاقم الوضع بسبب الجفاف المستمر ومشاريع السدود في تركيا وإيران، مما حد من تدفق المياه العذبة في اتجاه مجرى النهر. كما كانت الممرات المائية نفسها ملوثة بشدة بسبب إلقاء النفط والمواد الكيميائية الخطرة، سواء من المناطق الصناعية في بغداد أو التخلص من النفط في البصرة، بحسب ما وثقته هيومن رايتس ووتش والبنك الدولي.
كما تم الإعراب عن مخاوف أخرى بشأن الافتقار إلى القدرة المناسبة لإدارة النفايات، ومطامر النفايات والسياسات الرامية إلى معالجة تلوث المياه والتربة. فقد كانت هذه المشاكل تتفاقم منذ عقود، حيث تم وضع خطط قبل عام 2014 بهدف معالجة هذه المخاوف، بيد أن سيطرة داعش والعنف الذي أعقب ذلك لهزيمة الجماعة ساهم في تفاقم الوضع في المناطق المحررة. وعلى الرغم من اعتبار إعادة الإعمار أولويةً، إلا أن التقدم المحرز في تحسين إدارة النفايات الصلبة في جميع أنحاء العراق كان بطيئاً بسبب عدم كفاية التمويل وعدم وجود حكومة مستقرة.
التنوع البيولوجي تحت الضغط
وضع التدهور البيئي أيضاً التنوع البيولوجي والحياة البرية تحت الضغط. من الأهوار العراقية المحمية من قبل اليونسكو إلى الحياة البرية في منطقة بارزان، تتعرض النباتات والحيوانات البرية في البلاد للتهديد بسبب التلوث الصناعي والحرب وتغير المناخ. ووفقاً للتقرير الوطني السادس للعراق الملحق باتفاقية التنوع البيولوجي في عام 2018، تعمل الحكومة العراقية على تحسين التشريعات لتوسيع المناطق المحمية، على الرغم من أنها تظل موضع تساؤل حول ما إذا كانت الأهداف ستتحقق دون تمويلٍ مناسب وتطبيق قانوني.
يرتبط الوضع البيئي ارتباطاً جوهرياً بالأمن والرفاهية الاجتماعية والاقتصادية للبلاد، إذ تعتمد ثروات العراق على الموارد الطبيعية مثل النفط، في حين يعتمد الأمن الغذائي إلى حدٍ كبير على الإنتاج الزراعي، وبالتالي المياه. إن الفهم المحدود لنطاق التحدي البيئي، وغياب التمويل لإعادة بناء البنية التحتية البيئية أو الإدارة البيئية القوية أدى إلى ضعف التنظيم، مما أسفر عن مزيدٍ من تدهور النظم البيئية وسبل عيش الأشخاص الذين يعتمدون عليها. كما أن لتغير المناخ تأثيرٌ متزايد على المجتمع والاقتصاد، حيث تساهم موجات الحر الحارقة في الجنوب وتزايد حالات الجفاف المتكررة في زيادة المخاطر الأمنية.
بصيصٌ من الأمل
على الرغم من هذه الإنتكاسات، بات هناك وعيٌ متزايد بين منظمات المجتمع المدني بضرورة معالجة القضايا البيئية في العراق. تعمل مجموعات مثل طبيعة العراق وحماة مياه العراق، فضلاً عن حملات أنقذوا دجلة والفرات بلا كلل، وغالباً تحت الضغط لإثارة القضايا البيئية على الصعيدين الوطني والدولي. فقد حفزت قرارات جمعية البيئة التابعة للأمم المتحدة عملية تنظيف التلوث الناجم عن الصراع، بينما أدت عودة الأمطار والاستثمارات السياسية إلى تقدم حذرٍ في الأهوار العراقية. وبالمثل، تعد مبادرات إعادة التحريج الصغيرة في كردستان العراق وتخضير المدن مثل البصرة وبغداد من الخطوات الأولى الضرورية، على الرغم من أنها تحتاج إلى تحويلها إلى مشاريع واسعة النطاق بدعمٍ حكومي ودولي إذا ما أرادوا إحداث تغييرٍ بيئي ذي معنى للأجيال القادمة.