كأس العالم الحالية قرّبت بين الغرب والشرق الأوسط، إذ أتاحت للجنسيّات على اختلافها اكتشاف الثقافة العربية عمومًا.
دانا حوارني
انتظرت نور صفدي، البالغة من العمر 22 عامًا، كأس العالم الذي أقيم في قطر ببالغ الصّبر لأنها تشجع منتخب البرازيل. لكن أداء منتخبات السعودية وتونس والمغرب فاقت توقعاتها، حتى إن طالبة الطب اللبنانية قالت لفنك إن حبّها لمنتخبات المنطقة قد طغى على تشجيعها للبرازيل.
وقالت صفدي: “فوجئتُ بأداء السّعودية أمام الأرجنتين. ولم أتوقع ذلك ولم أنوِ تشجيع أيّ منتخب غير البرازيل حتى رأيت أداء المنتخبات العربية هذا العام”.
وكان من المتوقع أن يتجاوز منتخب الأرجنتين المجموعة الثالثة بسهولة، فهو يحتل المركز الثالث في ترتيب الفيفا، ويضمّ لاعبين كبار مثل ميسي ودي ماريا، كما أنّه من أكثر المنتخبات جماهيرية. لكن الصقور الخضراء صدمت مشجعي الأرجنتين بالفوز عليهم بنتيجة 2-1 في 22 نوفمبر الماضي.
وأضافت صفدي: “كان فوزًا مبهجًا. لم أتحرك أنا وأصدقائي من أمام التلفاز، وبقينا نهتف ونشجع طوال المباراة”.
لكن الفرحة لم تدم طويلًا. فقد خرج الصقور من كأس العالم بعد فوز المكسيك عليهم 2-1 في 30 نوفمبر. وفي اليوم نفسه، تمكنت تونس من هزيمة فرنسا بفوزٍ صادمٍ 1- 0، ولكن للأسف لم تكن النتيجة كافية لتأهلهم إلى دور الـ16.
ولم يبق من المنتخبات العربية إلا المغرب الذي هزم البرتغال 1-0 في 10 ديسمبر الماضي وتأهل إلى الدور نصف النهائي، وذلك بعدما ألحق الهزيمة بإسبانيا في 6 ديسمبر بركلات الترجيح.
وقد أشاد المراقبون والمعلقون بكأس العالم الأول الذي يقام في الشرق الأوسط، واعتبروها إنجازًا للأمة العربية. والآن، يشجع جماهير الكرة والمتابعون العرب بمختلف انتماءاتهم الاجتماعية والسياسية أسود الأطلس.
استضافة قطر
فازت قطر باستضافة كأس العالم على حساب الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية واليابان وأستراليا في عام 2010. واعتُبرت استضافة الدولة الخليجية رسميًا “مخاطرة كبيرة” لنقص البنية التحتية اللازمة وحرارة الصّيف الشديدة. وقد ورد أن الحكومة القطرية قد أنفقت مليارات الدولارات لتنظيم أكبر حدث رياضي في العالم.
فقد شيّدت الحكومة سبعة ملاعب جديدة، وبنت فنادق عديدة، ووسّعت مطارها وشبكة الطرق ومترو الأنفاق قبل البطولة. ومع ذلك تعرّض وضع حقوق الإنسان في قطر لانتقادات واسعة النطاق لا سيما في تعاملها مع العمال المهاجرين.
فقد كشفت التقارير حرمان المهاجرين من رواتبهم أو تأخرها منذ عام 2010، فضلًا عن الظروف المعيشية السيئة، والمنع من مغادرة البلاد بسبب قوانين الكفالة. لكن بحسب سي إن إن الرياضية، قال جياني إنفانتينو، رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا)، إن إصلاحات قانون العمل في قطر شهدت تقدمًا كبيرًا وأن الحد الأدنى للأجور غير التمييزي في قطر هو الأول من نوعه في المنطقة على حد وصف منظمة العمل الدولية.
وكانت هيومن رايتس ووتش قد أصدرت تقريرًا عام 2016 ذكرت فيه أن تهريب العمال المهاجرين إلى قطر كان عن طريق وسطاء عرضوا عليهم وظائف بمرتبات تفوق توقعاتهم، وأن الوسطاء المشبوهين خدعوا آلاف العمال وأجبروهم على العمل ساعات طوال دون مقابل. ورغم هذه المخاوف، حققت كأس العالم نجاحًا اقتصاديًا لقطر بما جنته من مكاسب بملايين الدولارات ودعم للسياحة.
ورغم الخلافات حول استضافة قطر لكأس العالم، فقد وفر المناخ لوحدة الجماهير العربية التي تجمعها روابط جغرافية وثقافية ودينية ولغوية. وظهر هذا التضامن عبر الإنترنت، حيث عبّرت الجماهير من المنطقة كلّها عن دعمها الكبير للمنتخب المغربي.
كرة القدم توحد الشّعوب وتعزز التضامن الإنساني
قال داني مكي، مشجع الكرة والباحث غير المقيم في معهد الشرق الأوسط، إن كأس العالم الحالية قرّبت بين الغرب والشرق الأوسط، إذ أتاحت للجنسيّات على اختلافها اكتشاف الثقافة العربية عمومًا والثقافة القطرية خصوصًا.
وقال مكي لفنك: “نشهد بطولة مختلفة هذا العام، فقد أبدى الأجانب تقبّلهم للثقافة القطرية، فارتدوا الغترة وعبّروا عن إعجابهم باللّغة العربية”.
وقد نزل العديد من المشجعين القطريين والسّعوديين والتونسيين مبتهجين في شوارع الدوحة للاحتفال بانتصاراتِ المغرب بعد خروج منتخباتهم.
وقال مكي: “أصبح المغرب نموذجًا يُحتذى به للمنطقة المرتبطة دائمًا بالاضطرابات السياسية، لا سيما في الإعلام الغربي. كما يحظى المغرب بالدعم لأنه كان الطرف الأضعف أمام المنتخبات الجماهيرية الكبيرة التي واجهها”.
وبينما تتمتع الدول النفطية بالاستقرار، تعاني دول المنطقة الأخرى التقلبات الاقتصادية والاجتماعية.
وأضاف مكي: “وحدها الرياضة تستطيع التغلب على السياسة في منطقة تعجّ بالتوترات السياسية. وقد ظهر التعبير السياسي دون شك برفع الفريق المغربي العلم الفلسطيني ورفض العديد من عشاق الرياضة الظهور على وسائل الإعلام الإسرائيلية، لكن المباريات تقدّمُ رغم ذلك فرصة للهرب من مشكلات الحياة اليومية”.
وتابع: “قد يصبح اللاعبون الفائزون على المنتخبات الأجنبية القويّة مصدر إلهام للأطفال في البلدان المنكوبة مثل سوريا واليمن وليبيا“.
قضايا كأس العالم
في مباراة ألمانيا ضد إسبانيا في 27 نوفمبر الماضي، رفع المشجعون العرب ملصقات للاعب الألماني السابق مسعود أوزيل الذي اعتزل دوليًا عام 2018 متذرعًا بالعنصرية في كرة القدم الألمانية.
وقال اللاعب المولود في ألمانيا لأبوين من أصل تركيّ إنه كان كبش فداء الخروج المبكر للمنتخب الألماني من كأس العالم في 2018.
وذاع قوله في ذلك الوقت: “أنا ألماني عند الفوز، ومهاجر عند الخسارة”.
ويرى مكي أن هذا يدعو إلى الشك في موقف ألمانيا من التعددية وكرة القدم. ووفقًا للإحصاءات الفيدرالية، ارتفع عدد السوريين الحاصلين على الجنسية الألمانية بنسبة 74% ليصلوا إلى 6700 مواطن عام 2020. ويقدر إجمالي عدد اللاجئين السوريين في ألمانيا بأكثر من 700 ألف بحسب وكالة رويترز.
وتساءل مكي: “هل ستقبل فرق كرة القدم السوريين في صفوفها أم سنرى صحوة للقومية اليمينية فيها؟”
وكذلك كانت القضية الفلسطينية نقطة محورية في كأس العالم، إذ يمكن رؤية العلم الفلسطيني في كل مكان بما في ذلك في الإعلام والملابس وكوفيات المنتخبات المتنافسة. ووثق المشجعون العرب والأجانب دعمهم للبلد المحتل وهتافهم “الحرية لفلسطين”، ورفعهم لافتات “فلسطين حرة”، وتأييدهم الحقوق الفلسطينية، ومعارضتهم الانتهاكات الإسرائيلية.
وقال المحلل والباحث البريطاني، هـ. أ. هليير، لفنك: “القضية الفلسطينية قضية عربية بامتياز، وهي تمثّل النضال المستمر ضد المشروع الاستعماري. وعمومًا، لا يفرّق العرب بين القضية الفلسطينية ومواجهة الاستعمار في العصر الحديث الذي بدأ في القرن العشرين”.
وأضاف: “الأهم من ذلك أن للقدس رمزية هائلة باعتبارها مدينة مقدسة عند المسلمين والمسيحيين على حد سواء. فليس من المستغرب أن يتم رفع العلم الفلسطيني كدليلٍ على الوحدة العربية”.
وقد أشار مكي إلى أن حكومات الدول التي طبعت العلاقات مع إسرائيل، كالسعودية والإمارات وعمان والسودان والبحرين والمغرب، لا تعبّر عن رأي شعوبها، وهو ما أظهره الدعم الكبير الذي قدّمته شعوب هذه الدول لفلسطين خلال البطولة.
معايير مزدوجة؟
ترى الباحثة والكاتبة المصّرية نهال الأعسر أن دولًا أخرى غير قطر استضافت كأس العالم ولديها سجل سلبي في حقوق الإنسان، فقد لقي 21 عاملَ بناءٍ على الأقل مصرعهم أثناء بناء ملاعب كأس العالم في روسيا عام 2018.
وقالت الأعسر: “لا بد من ذكر ظروف العمل التي تعرّض لها العمال في قطر. ومع ذلك، فقد أثبتت كأس العالم أنها مناسبة رائعة لإظهار اتحاد العرب على هدف واحد”.
وترى الباحثة أنه لا تعارض بين دعمها لمنطقة الصحراء الغربية وحبها للمنتخب المغربي. وجدير بالذكر أن جبهة البوليساريو والحكومة المغربية تتنافسان على السيادة على الصحراء الغربية منذ عقود. وقد حاربت الجبهة لمدة 15 عامًا من أجل استقلال الجمهورية الصّحراوية العربية الديمقراطية، ثم انتهت الحرب عام 1991 باتفاق لوقف إطلاق النار.
وأوضحت: “الوحدة العربية التي نشهدها هي امتداد للدعم والودّ الذي نتقاسمه بيننا لكن على نطاق أصغر”.
ومن جانبه، يعتقد هليير أنه بسبب الانقسامات السياسية الحالية والتفاوتات الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة، لا يجب المبالغة في تقدير الوحدة العربية الحالية. وأضاف أنه إذا لُعبت مباراة بين منتخبين عربيين، فسوف تحدث خصومات بين شعبيهما.
وتابع: “لا أحسب أنه يجب المبالغة في تقدير أهميّة هذه المشاعر، فهي بطولة رياضية وليست تحالفًا سياسيًا شاملًا، أليس كذلك؟”.