سيكون طريق أردوغان نحو التطبيع مع الأسد محفوفًا بالعقبات الكبرى، ومنها موقف الجماعات المسلّحة المُعارضة المسيطرة في شمال سوريا.

علي نور الدين
يتقدّم الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان بخطى بطيئة في مسار تطبيع علاقات بلاده مع نظام الرئيس السوري بشّار الأسد. وبذلك يحاول أردوغان التوصّل إلى صفقة تحقق له بعض المكاسب في ملفّي اللاجئين السوريين، والجماعات المسلّحة الكرديّة المنتشرة قرب الحدود التركيّة في شرق سوريا.
إلا أنّ انتفاضة المعارضة الأخيرة في شمال سوريا، في وجه القوّات التركيّة الموجودة هناك، فرضت تحديات جديدة لا يمكن تجاهلها، في وجه التوجهات السياسية الخارجيّة التركيّة المستجدة.
أمام أردوغان خيارات صعبة جدًا. على المستوى الداخلي، فثمّة ما يكفي من ضغوط سياسيّة ومصالح محليّة تدفعه باتجاه عمليّة التطبيع مع نظام الأسد.
إنّما على المستوى الإستراتيجي، بات أردوغان يدرك أنّ هذه العمليّة قد تهدّد علاقة بلاده مع الجماعات المسلّحة وقوى المعارضة، بخاصةٍ في المناطق التي يتواجد فيها الجيش التركي شمال سوريا.
ومن المعلوم أن تواجد الجيش التركي هناك، كوصي على بعض جماعات المعارضة المسلّحة، يمثّل عامل القوّة الأساسي والأهم، الذي يراهن عليه أردوغان للتفاوض مع الأسد.
انتفاضة الشمال السوري
تمتد المناطق السوريّة الواقعة تحت الوصاية العسكريّة التركيّة على مساحة تقارب الـ 8835 كم2، وتتوزّع هذه السيطرة ما بين شمال محافظة حلب ومحافظة إدلب، بالإضافة إلى مناطق تل أبيض ورأس العين في الرقّة والحسكة.
وجاءت هذه السيطرة في أعقاب عدّة حملات عسكريّة تركيّة متعاقبة، كان أهمّها عمليّة “درع الفرات” عام 2016 في ريف حلب الشمالي، وعمليّة “غصن الزيتون” في منطقة عفرين عام 2018، وصولًا إلى عمليّة “نبع السلام” عام 2019 والتي أفضت إلى السيطرة على مناطق تل أبيض ورأس العين. وفي هذه الحملات، جاء توسّع السيطرة التركيّة على حساب تنظيمي الدولة الإسلاميّة (داعش)، وقوّات سوريا الديمقراطيّة ذات الأغلبيّة الكرديّة.
منذ فرض سيطرتها على تلك المناطق، تصرّفت تركيا هناك بوصفها “طرفًا ضامنًا” لقوى المعارضة المحليّة. بهذا المعنى، سلّمت تركيا الإدارة المحليّة في تلك المناطق لجماعات مسلّحة من المعارضة السوريّة، وأمّنت تسليح وتدريب وتمويل هذه الجماعات. وفي الوقت عينيه، عقدت تركيا تسويات جانبيّة مع الجيش الروسي، الموجود في سوريا، من أجل رسم حدود السيطرة ما بين مناطق النظام ومناطق المعارضة الواقعة تحت الوصاية التركيّة.
ولهذا السبب و بشكلٍ خاص، اكتسبت التطوّرات التي حصلت في بداية يوليو/تمّوز 2024 حساسيّة استثنائيّة بالنسبة لتركيا وسيطرتها في الشمال السوري. إذ واجه الجيش التركي انتفاضة صاخبة في المناطق الواقعة تحت سيطرته، من جانب أنصار ومسلّحي المعارضة، الذين يفترض أن يكونوا المستفيد الأوّل من “ضماناته” وحمايته السياسيّة والعسكريّة.
بل في واقع الأمر، يمكن القول إن الجيش التركي كان يستمد مشروعيّة وجوده في شمال سوريا من حمايته المُعلنة لتلك “المناطق الآمنة”، وهو ما جعل تلك الاحتجاجات تحديًا متسجدًا وخطيرًا بالنسبة لأردوغان.
وفي إطار الاحتجاجات، جرى تمزيق ونزع الأعلام التركيّة من أمام نقاط تمركز الجيش التركي. كما هاجم المحتجون المقر الذي يدير منها الجيش التركي عمليّاته في شمال سوريا، كمقر السرايا في مدينة عفرين ومعبر باب السلامة الحدودي، ومراكز البريد التي يتخذها المستشارون الأتراك كمراكز لهم. وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، انتشرت فيديوهات تُظهر تعرّض المتظاهرين لدوريّات الجيش التركي في الشوارع، أو عند نقاط الحراسة.
دوافع غضب المعارضة السوريّة
ربط البعض ما بين تلك الانتفاضة والاعتداءات العنصريّة التي تعرّض لها لاجئون سوريون في مدينة قيصري التركيّة، قبل ليلة واحدة فقط. إلا أنّ الشعارات التي أطلقها المحتجون السوريون سرعان ما أظهرت أن ثمّة عوامل سياسيّة لا تقل أهميّة عن أحداث مدينة قيصري، ساهمت في تفجير الوضع في الشمال السوري.
فهذه الاحتجاجات، تلت التصريحات التي أطلقها أردوغان بخصوص مسار التطبيع مع نظام الأسد، والتي عبّر فيها عن رغبته الصريحة بتطوير العلاقات مع الدولة السوريّة. وذكّر أردوغان بلقاءاته السابقة على المستوى العائلي –قبل الحرب السوريّة- مع الأسد، معتبرًا أنّه لا يوجد شيء “يقول أنّ ذلك لا يمكن أن يحدث غدًا”.
وفي وقتٍ لاحق، أشار أردوغان إلى أنّه أنه قد يدعو الأسد إلى تركيا مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، للوصول إلى تفاهم يعيد العلاقات بين تركيا وسوريا.
على هذا النحو، استشعر المعارضون السوريون أنّ الصفقة ما بين أردوغان والأسد باتت قاب قوسين أو أدنى، وأنّ هذه الصفقة قد تفضي إلى التفريط بمستقبل المناطق الواقعة خارج سيطرة النظام السوري. أو بعبارة أوضح، قد يكون إخضاع مناطق الشمال السوري لسيطرة نظام الأسد إحدى النتائج المحتملة لهذه التسوية، تمامًا كما جرى في درعا بموجب صفقات أشرفت على تنفيذها روسيا.
وعلى هذا الأساس، زاوجت احتجاجات المعارضة السوريّة ما بين رفض توجّهات السياسة الخارجيّة التركيّة المُستجدة، واستنكار الاعتداءات التي طاولت اللاجئين السوريين في مدينة قيصري.
بالنسبة لكثيرين، كانت تلك الاحتجاجات مثيرة للدهشة، نظرًا لتجرّؤ أنصار المعارضة على مواجهة الجيش التركي، أي الطرف الضامن الوحيد الذي يمنع اجتياح نظام الأسد لمناطق الشمال السوري. غير أنّ المعارضة السوريّة كانت تدرك طبعًا أنّ أردوغان لن يفرّط حاليًا بسيطرته في شمال سوريا، قبل إجراء تسوية التطبيع، طالما أنّ هذه السيطرة هي الورقة الوحيدة التي سيُفاوض على أساسها أردوغان مع النظام السوري.
كما أن المعارضة تدرك أن اجتياح مناطقها بهجوم عسكري من جانب النظام، سيؤدّي إلى حرب طاحنة، أي إلى موجة لجوء جديدة باتجاه تركيا. وهذا ما يتعارض مع أحد أهداف مسار التطبيع التركي السوري، أي معالجة ملف اللاجئين.
ولذلك، لم تخشَ المعارضة تخلّي أردوغان عن “ضماناته” الممنوحة لها، أمام هجوم عسكري مفاجئ من جانب نظام الأسد. بل كانت تخشى إجبارها على العودة إلى كنف هذا النظام، بموجب اتفاق سياسي وأمني توافق عليه وتنفّذه تركيا.
حسابات أردوغان الداخليّة والإستراتيجيّة
هكذا إذًا، سيكون على أردوغان مواجهة غضب المعارضة السوريّة، في إطار أي تسوية مستقبليّة مع الأسد. وكلفة التسوية، ستشمل خسارة أردوغان جزءًا إضافيًا من رصيده لدى الأوساط التركيّة المحافظة والإسلاميّة، الممتعضة أساسًا من أدائه الخجول جدًا في ملف الحرب الإسرائيليّة على قطاع غزة. ومن المؤكد أنّ أردوغان تلمّس هذا الامتعاض خلال الانتخابات المحليّة الأخيرة، التي شهدت صعود أسهم معارضيه الإسلاميين، مثل حزب “الرفاه الجديد” المُحافظ.
لكن في المقابل، لدى أردوغان مصالح محليّة أخرى، تدفعه باتجاه هذه التسوية مع نظام الأسد. وأبرز هذه المصالح سعيه للتعامل مع مسألة اللاجئين السوريين، والتمهيد لعودتهم. وتكتسب حاليًا مسألة اللاجئين أهميّة متزايدة بالنسبة لأردوغان، في ظل المزايدات والانتقادات التي تطلقها المعارضة ذات الطابع القومي، بخصوص تعامل الحكومة التركيّة مع هذا الملف. وكان من الواضح أن أردوغان بات أكثر تأثّرًا بهذه الانتقادات، بعد التراجع الذي طرأ على شعبيّته داخليًا، وفي ضوء الأزمة الاقتصاديّة التي تزيد من تأثير الخطاب المناوئ للاجئين.
وعلى المستوى الإستراتيجي، يُعلن أردوغان بصراحة سعيه للتوصّل إلى تفاهم مشترك مع نظام الأسد وروسيا، لإنهاء حالة الحكم الذاتي التي يمارسها الأكراد شرق نهر الفرات. بالنسبة لأردوغان، لا تمثّل قوّات سوريا الديمقراطيّة –ذات الأغلبيّة الكرديّة- سوى امتدادًا فكريًا لحزب العمّال الكردستاني، ما يجعلها خصمًا إيديولوجيًا يمكن أن يحرّض أكراد تركيا على استعادة طموحاتهم الانفصاليّة.
وكانت تركيا قد تلمّست مخاطر حالة الحكم الذاتي الكردي في سوريا، بعد إعلان الإدارة الذاتيّة الكرديّة اتجاهها نحو تنظيم انتخابات محليّة في مناطق سيطرتها، وهو ما يمكن أن يُنتج سلطات لامركزيّة ذات مشروعيّة سياسيّة.
هكذا، سيكون طريق أردوغان نحو التطبيع مع الأسد محفوفًا بالعقبات الكبرى، ومنها موقف الجماعات المسلّحة المُعارضة المسيطرة في شمال سوريا. فالمعارضة السوريّة ستعارض حتّى الرمق الأخير أي تسوية تضعها أمنيًا تحت سلطة الأسد.
في حين أنّ النظام السوري يرفض أي تسوية لا تفضي إلى انسحاب الجيش التركي من سوريا، وتسليم الشمال السوري كاملًا إلى الجيش السوري.
وهكذا، سيضطر أردوغان إلى مواجهة اعتراضات المعارضين السوريين، إذا ما أراد تحقيق أهدافه الرئيسة، أي معالجة ملف اللاجئين وإبعاد الجماعات المسلّحة الكرديّة عن حدود بلاده.