وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الأدب العراقي: إشكاليات الرفض والتبعية

الأدب العراقي
صورة تم التقاطها يوم ١١ يونيو ٢٠٢١ في بغداد لعراقيين أثناء المطالعة في مقهى رضا علوان بالعاصمة العراقية. المصدر: AHMAD AL-RUBAYE /AFP.

علي العجيل

ما زالت الجدلية القائمة بين المثقف والسلطة من أبرز محاور الحوار والنقاش على مدى تاريخ العراق الحديث. فبعد أن ركَن عددٌ من المثقفين تحت جناح السلطة العثمانية أواخر القرن التاسع عشر، خرج مثقفون آخرون يعارضون مثقفي السلطة وينتقدون ما يقوم به هؤلاء من أعمال. هؤلاء المثقفين طالبوا حينذاك بأن يكون المثقف تحت جناح الشعب لا السلطة. ووصل الأمر بالشاعرين معروف الرصافي وجميل صدقي الزهاوي وغيرهما للخروج في مظاهرات ضد السلطات الحاكمة حينها.

هذا الاختلاف استمر إلى حين وصول حزب البعث للسلطة في ستينيات القرن الماضي. في تلك الحقبة، اجتمع عددٌ من المثقفين العراقيين البارزين في الحزب الشيوعي العراقي كمعارضين ومناهضين. وتضم قائمة الأدباء كلاً من مظفر النواب وعبد الوهاب البياتي وكاظم إسماعيل الكاطع وغيرهم الكثير.

سقوط نظام صدام حسين شكّل تغييراً مفصلياً في هذه العلاقة، فلم تعد هناك سلطة ديكتاتورية لينضم عددٌ من المثقفين تحتها أو يعارضها آخرون. بيد أن هذه “الحرية المؤقتة” لم تلبث أن انهارت بعد ظهور الكثير من الديكتاتوريات الجديدة تحت سلطة أحزاب دينية، سياسية، وحتى علمانية. وأدى هذا الأمر إلى عودة جديدة لنقطة البدء والخلاف.

بيئة ديكتاتورية

في ستينيات القرن الماضي، لم يكن من السهولة التخلّص من خيوط الاتهام والمراقبة والمساءلة في حال عدم الكتابة وفقاً لرؤية حزب البعث. وكان حزب البعث مؤمناً بالفكر الشمولي، أي شمول الجميع بفكر البعث. وانطلاقاً من هذه النقطة، تم إجبار الكثير من المثقفين العراقيين باختلاف طوائفهم وانتماءاتهم على الكتابة بما يتوافق مع أيديولوجية الحزب الخاصة.

وتحولّ هذا النوع من الوشاية إلى ثقافة امتدت لعقود طويلة في عهد النظام العراقي السابق. لكن أمر الملاحقات و” تكسير أجنحة الأدباء والأدب” لم يقتصر على النظام الحاكم وحزب البعث ورجاله ومخبريه فحسب، بل كان حينذاك لـ “المثقف البوق” اليد الأكبر في هذا الخصوص. واعتاد هذا النوع من المثقفين القيام بذلك لأسبابٍ متعددة، منها الرغبة بالحصول على الأموال أو السلطة، أو بغرض تملّق السلطات الحاكمة.

يقول فضل خلف جبر:

“في تسعينيات القرن الماضي، ظهرت قائمة سوداء باسم قائمة المرتدين أصدرها النظام السابق ضمت طائفة كبيرة من الأدباء العراقيين الذين غادروا الوطن مرغمين لهذا السبب أو ذاك. ويقيناً أنه لا عبد حمود، سكرتير صدام حسين، ولا عدي صدام حسين كانا يعرفان أو حتى سمعا بهذه الأسماء، وأن من دوّنها هم زملاء وأصدقاء كانوا يقاسموننا المقاهي والأوقات الحلوة والمرة.. وحين تم تغيير النظام، لم تتغير عقلية المثقف العراقي الذي خرج من تبعية المرغم/ المريد إلى تبعية المريد/ المرغم. فقد صدرت بعد 2003 عدة قوائم سوداء تكاد لا تغادر اسماً من أسماء الأدباء والمثقفين العراقيين، وعلى منوال النظام السابق نفسه: من لم يكن معي فهو ضدي”.

التبعية المادية

امتلك نظام صدام حسين عدّة مفاتيح يحتاجها المثقف ويسعى إليها. فالنظام كان يملك الدعم المادي (وهو الأهم في ذلك الوقت)، فضلاً عن التحكّم بإمكانية النشر، وتسليط الضوء الإعلامي على المثقفين المقربين منه وتزويدهم بالتسهيلات الحياتية المختلفة. لكن الغريب أن هذه المفاتيح لم تتغير بتغيّر النظام. وعلى الرغم من اكتساب المثقف للكثير من “الحريات”، إلا أن ذلك لم يمنحه فضاءً إضافياً خارج المركزيات الجديدة المتعددة التي فرضتها ظروف ما بعد التغيير فعلياً.

يرى الشاعر فضل خلف جبر أن جزءاً كبيراً من هذه الإشكالية يقع على عاتق اعتماد المثقف مادياً على السلطة، ما يفرض على المثقف أن يفقد حيزاً كبيراً من استقلاله الشخصي. ففي الغرب، لا توجد مثل هذه التبعية، وتحديداً في الولايات المتحدة. وعلى سبيل المثال، فإن المثقف في أمريكا يعيل نفسه بنفسه سواء من عمل يوفر له دخلاً مادياً معقولاً، أو يعتمد على إيرادات كتبه أو أعماله الفنية إن كان فناناً.

هذا الاستقلال المادي يجعل من تملّق السلطة أمراً مستحيلاً، فالتبعية التي يُجبر عليها المثقف نابعة
في المقام الأول من حاجته المادية، ولكي تنتهي لا بد أولاً من استقلال المثقف مادياً.

ازدواجية المعايير

ظلّ مثقف السلطة مستمراً حتى اللحظة في تزييف الحقائق وإعطاء تبرير مقنع لكل فعل لا ينتمي إلى الإنسانية، سواء في حقبة نظام حزب البعث أو حتى في المراحل التي تلتها. ويبدو هذا الأمر أكثر وضوحاً في حقبة ما بعد البعث، إذ نرى اليوم أن المثقف ذاته يمارس تزويراً ثقافياً جليّاً يأتي غالباً بالضد من الفعل الثقافي، بالضد من المعايير الإنسانية، وبالضد من حكاياته وتنظيراته الشخصية حتى.

لم يجد الروائي علي بدر المعارض لحزب البعث والإسلام السياسي مثلاً، مشكلة في أن يحلّ ضيفاً على مؤسسة تابعة لحزب الدعوة الإسلامي، معللاً ذلك بوجود قاعة للموسيقى، وقاعة للرسم، ومقهى، ونساء يدخنَّ في الحديقة، وصور لأدونيس والسياب، وأكواب القهوة عليها صور أم كلثوم، والكثير من الأشياء التي لا تمتلكها مؤسسات الحزب الشيوعي. وذلك حين أخبره أحد الأصدقاء بأن المؤسسة التي هو ضيفها تابعة لحزب الدعوة.

الروائي علي بدر المعارض لحزب البعث والإسلام السياسي، لم يجد مشكلة في أن يحلّ ضيفاً على إحدى المؤسسات التابعة لحزب الدعوة الإسلامي. وعندما أخبره أحد الأصدقاء بأن المؤسسة التي هو ضيفها تابعة للحزب المذكور، برّر بدر وجوده في الفعالية بوجود قاعة للموسيقى، وقاعة للرسم، ومقهى، ونساء يدخنَّ في الحديقة، وصور لأدونيس ولبدر شاكر السياب، وفناجين قهوة عليها صور أم كلثوم.

في المقابل، فإن سكوت بدر عن حزب الدعوة لم يتوافق حرارة انتقاده لنظام صدّام حسين وحزب البعث. وللمفارقة، فإن النظام السابق سمح بتواجد عشرات القاعات الموسيقية وفرق الغناء وقاعات الرسم والمقاهي في العراق، فهل هذا كان كافياً ليتم السكوت عن ممارساته بحق العراقيين؟ بالطبع لا.

في نفس السياق، يتحدث سليم دولة في كتابه “الجراحات والمدارات” عمّا اسماه بـ “المثقف الزئبقي”. فهذا النوع من المثقفين بحسب ما يصفه في كتابه: “يساري مثلاً على صعيد الشعارات التي يرفعها، سلفي السلوك، يميني الطموحات، أسطوري/ خرافي النظرة إلى العالم”.

هذا الوصف ينطبق تماماً على حالة الشعراء بعد 2003. فعلى سبيل المثال، حينما نتتبع سيرة الشاعر العراقي كزار حنتوش، نجده قد وظف أغلب نصوصه لمديح الديكتاتور وتمجيد الحرب. وبعد سقوط النظام، كتب القصائد للحزب الشيوعي في عام 2004، ومن ثم كتب الشعر في مديح الشخصيات الدينية، ومنهم مقتدى الصدر زعيم التيار الصدري.

بعض الشعراء الآخرين لم يكلف نفسه كثيراً عناء التغيير، فقام بحذف كلمة صدام من قصائده ووضع بدلًا منها اسم أحد رجال المرحلة، سواء كان رجل دين صاحب نفوذ أو سياسي يسيل لعابه أمام كلمات المديح.

التراجع والنكوص

الأدب العراقي
صورة تم التقاطها يوم ٢١ مايو ٢٠٢٢ للمشيعين وهم يحملون كفن الشاعر العراقي المعروف مظفر النواب أثناء مراسم تأبينه بالقرب من ضريح الإمام علي بمدينة النجف الأشرف وسط العراق. المصدر: Qassem al-KAABI / AFP.

لم يتعظ المثقف العراقي من التجارب السابقة التي حدثت لغيره، بل ازداد انغماساً وركوساً في تلك التجارب، للحدّ الذي جعله يتملق لرؤساء العشائر والملاكين والتجار والسياسيين الفاشلين. في المقابل، كان في العراق يوماً ما مثقفٌ مثل مظفّر النوّاب يقف ذات يوم في وجه صدّام حسين ليقول له ” ليس عندي ثقة بكم”. المشكلة الأساسية تكمن في قلب المثقف نفسه إذاً، باعتبار أن السلطة (أي سلطة عادلة كانت أم ظالمة) تحاول أن تستثمر المثقفين والمؤثرين لتجميل صورتها، مستغلة إمكاناتهم وشهرتهم في الدفاع عن أخطائها وخلق مبررات لها.

سلطة الأدب

يقول الأديب الألماني برتولد بريخت أن السلطة السياسي: “لا يمكن للسلطة السياسية أن تستولي على الأعمال الإبداعية كما تستولي على المصانع. كذلك لا يمكن الاستيلاء على أشكال التعبير الأدبي كما يتم الاستيلاء على الرخص والتصاريح”. بقوله هذا، يوحي لنا بريخت بأن الأدب يستمد سلطته من صعوبة السيطرة عليه.

واليوم، على رغم القيود الكثيرة التي فرضتها وتفرضها السلطات الدكتاتورية المتعاقبة على حرية الرأي في العراق، فإن المثقف العراقي الأصيل قد امتلك، ربما أكثر من غيره، القدرة على تحطيم هذه القيود، ومقاومتها عبر الكتابة فقط. وهو بذلك يؤكد على أن للأدب سلطة. وخير مثال على سلطة الأدب تناقل كلمات بدر شاكر السياب ومظفر النوّاب وأحمد مطر في الثورات والانتفاضات العراقية حتى يومنا هذا.

بشكل ما، تُصنع السلطات الديكتاتورية عبر إهمال الثقافة وتزييفها لدرجة تصل إلى محوها. كما أن هذه الديكتاتوريات تركز على المسائل الدينية والمؤامرات لتبرير الأفعال والفشل. وهنا، تكمن وظيفة المثقف العراقي المرتبطة بإزعاج السلطات، حسب قول الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو، والذي لا يريد أن يكون في خانة الخائن لشعبه، فهذا المثقف لن يتنازل عن مبادئه ويخذلهم.

ملاحظة

الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء الكاتب الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.