وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

مسيحيّو الأردن: أعداد ضئيلة ذات إيمان كبير

تبع المسيحيّون العرب في الشّرق الأوسط، وبخاصّة مسيحيّو الأردن، الإيمان المسيحيّ منذ أيّام المسيح.

مسيحيّو الأردن
امرأة تصلي في كنيسة معمودية السيد المسيح بالقرب من موقع المغطس حيث يعتقد المسيحيون أن المسيح قد تعمد على يد القديس يوحنا في وادي نهر الأردن على بعد 60 كم جنوب غرب العاصمة الأردنية عمان | 13 يناير 2023. خليل مزراوي / وكالة الصحافة الفرنسية

دانا حوراني

أزالت بلديّة الفحيص في الأردن، في بداية كانون الثّاني 2023، تمثالًا ليسوع المسيح بعد أن أحدث هذا الرّمز المسيحيّ ضجّة كبيرة على وسائل التّواصل الاجتماعيّ.

فقد نتج عن وجوده في وسط تقاطع طرقات، ردّات فعل مختلفة وتعليقات متضاربة، منها الدّاعمة للحرّيّة الدّينيّة، ومنها الرّافضة لموضعه.

كان مركز شباب الفحيص قد تبرّع بهذا التّمثال الّذي وُضِع في ما بعد أمام مقرّه الرّئيسيّ. وبعد إزالته، قيل إنّ مدير المركز رفض التّحدُّث إلى الإعلام مصرّحًا بأنّ للتّمثال “قيمة جماليّة وهو لم يؤثّر على حركة المرور”.

قال المعلّقون على وسائل التّواصل الاجتماعيّ إنّ “وجود التّمثال شبيه بالعودة إلى الوثنيّة وعبادة الأصنام”. في المقابل، بحسب قول مختار الفحيص عمر عكروش، عبّر سكّان المدينة عن استيائهم من وجوده في “هذا المكان من المدينة بالتّحديد”.

لكنّ مالكو المركز ردّوا على ادّعاءات كون التّمثال مجرّد عودة إلى عبادة الأصنام، بتسليطهم الضّوء على أهمّيّة الحرص عليه باعتباره رمزًا دينيًّا. وعلى الرّغم من ذلك، نفى عكروش مسؤوليّته عن المسألة وأمر بالإزالة الفوريّة للتّمثال، الّذي نُقِل بعد فترة إلى مقبرة للمسيحيّين.

الفحيص مدينة في محافظة البلقاء في وسط الأردن، وهي تضمّ ما يقارب 20,000 شخص معظمهم من المسيحيّين. وعلى الرّغم من خمود هذه الحادثة، إلّا أنّها الأحدث في سلسلة محاولات لتسليط الضّوء على الأقلّيّات الدّينيّة، بالأخصّ المسيحيّين في الأردن.

المسيحيّون الأردنيّون

وضعت هذه الحادثة موضوع الحرّيّة الدّينيّة في الصّدارة بالنّسبة للأقلّيّة السّكّانيّة الضّئيلة التّمثيل في الأردن، أي المسيحيّون الأردنيّون. غير أنّ بعض المراقبين أشاروا إلى أنّ حماية أقلّيّات البلد من النّزاعات الدّينيّة والفتن، من واجب الدّولة وبخاصّة العائلة المالكة.

يشكّل المسلمون حوالى 93% من سكّان الأردن. وبحسب إحصاءات الدّولة، يشكّل المسيحيّون 6% من السّكّان فيما تشكّل الأقلّيّات الأخرى 1% فقط. أمّا مركز بيو للأبحاث فيقدّر المسيحيّين الأردنيّين بنسبة 2% فقط من سكّان البلد، منهم 30,000 كاثوليكيّ، و20,000 بروتستانتيّ، و90,000 روم أرثودوكس.

تبع المسيحيّون العرب في الشّرق الأوسط وبخاصّة في الأردن الإيمان المسيحيّ منذ أيّام المسيح، وما زالوا يستخدمون اللّغتين السّريانيّة والآراميّة في صلواتهم وأحاديثهم اليوميّة.

إضافة إلى ذلك، ذُكِرت الأردن في الإنجيل في أكثر من موضع، وعُثِر على آثار مسيحيّة من العصور القديمة في كلّ أنحاء البلد، ما جعل الأردنيّين ملتزمين بالعقيدة منذ زمن بعيد.

إذ تضمّ المدينة الأردنيّة مأدبا مثلًا، عددًا من الكنائس التّاريخيّة والأعمال الفنّيّة، منها الخريطة الفسيفسائيّة الأولى للأراضي المقدّسة الّتي اكتُشِفت عام 1884.

ففي عام 2008، نقّب علماء الآثار عن موقع في الجزء الشّماليّ من المملكة، في قرية رحاب، يُظَنّ أنّه لأقدم كنيسة مُشيَّدة، ولقد وجدوها مدفونة تحت كنيسة القدّيس جاورجيوس التّاريخيّة.

ويُعتقَد أنّ أتباع المسيح الّذين فرّوا من أورشليم بعد الصّلب قد استخدموا هذه الكنيسة المبنيّة بين عامَي 33 و70 ميلاديّ.
نجد في هذا البلد أيضًا، المغطس، وهو الموقع المقدّس حيث تعمّد يسوع المسيح، ومواقع أخرى من الكتاب المقدّس مثل جبل نيبو حيث دُفِن النّبي موسى، كما يُقال.

في خلال القرن التّاسع عشر، أنشأت الإرساليّات المسيحيّة والمؤسّسات الكنسيّة شبكة من المؤسّسات الدّينيّة والتّربويّة والاجتماعيّة. ولقد لعبت التّربويّة منها، دورًا جوهريًّا في تسوية الاختلافات بين المسلمين والمسيحيّين، وذلك بمساهمتها في تطوّر الأردن وتوفيرها أماكن للتّعايش المسالم بين التّلاميذ المسيحيّين والمسلمين.

في حماية العائلة المالكة

صرّحت مرام أبي جريس، وهي مواطنة أردنيّة مسيحيّة ومراقبة اجتماعيّة، لفناك بأنّ المسيحيّين يتمتّعون ببعض الحرّيّات طالما هم في حماية العائلة المالكة.

وشرحت “ما يساعدنا هو وجود الملك عبداللّه الثّاني الّذي يعتبرنا خطًّا أحمر لا يجب تخطّيه.”

زار الملك مدينة الفحيص بعد أسبوع من حادثة التّمثال، واجتمع بالمواطنين وممثّلي المدينة.

ومع أنّه لم يتطرّق مباشرة إلى الجدال، أكّد على دعمه المجتمع المسيحيّ مسلّطًا الضّوء على أهمّيّة التّعايش المسالم.

كما أنّنا أُبلِغنا بقول الملك: “إنّ المفاهيم العنصريّة غريبة عن المجتمع الأردنيّ ولا مكان لها في المملكة.”

وأضاف أنّ على المسؤولين اتّخاذ تدابير صارمة بحقّ أيّ شخص يعارض هذه القيم ويعزّز التّعصّب، مشيرًا إلى أنّ للمدارس مسؤوليّة تنشئة مواطنين يؤمنون بقيم المواطنة والتّعايش.

وفي هذا الصّدد، قالت أبي جريس “من المرجّح أنّه فعل ذلك ليظهر احترامه للمجتمع المسيحيّ في أعقاب جدال الفحيص، وليبرهن للمنتقدين بأنّ أماننا وحمايتنا مضمونَين.”، ثمّ أكملت “لا يحقّ لنا تشييد تماثيل أينما يحلو لنا، إنّما ما زالت المجتمعات الّتي تختار فعل ذلك تتمتّع ببعض الحرّيّة بحسب مكان تواجدها.”

نمط حياة الأقلّيّات

على عكس دول المشرق المجاورة، تجنّبت الأردن الأزمات الاقتصاديّة المُروِّعة الّتي أصابت سوريا ولبنان، لكنّها مع ذلك غير محصّنة ضدّ أزمة النّفط العالميّة. ففي كانون الأوّل 2022 نُظِّم إضراب على صعيد البلد ككلّ بسبب ارتفاع أسعار النّفط.

وما زالت العائلات في كلّ أنحاء البلد تعاني من انخفاض الأجور وارتفاع النّفقات المعيشيّة.

يشكّل العراقيّون الّذين هربوا من الاجتياح الأميركيّ في مطلع القرن الواحد والعشرين، مسيحيّي الأردن الأشدّ ضعفًا. وأكثريّة هؤلاء اللّاجئين من الكلدانيّين والسّريان الكاثوليك، فيما بقيّتهم من كنيسة المشرق الآشوريّة.

كما أنّ غالبيّتهم تصارع لإيجاد وظيفة وإثبات وجودها في بلدها الملجأ، وذلك دفع العديد من الأسر إلى اللّجوء إلى المنظّمات الدّينيّة للحصول على دعم ماليّ.

من جهة أخرى، إنّ الفلسطينيّين المسيحيّين الّذين هربوا بأعداد هائلة من فلسطين خلال النّكبتين، من أكبر المجموعات السّكّانيّة المسيحيّة في الأردن. ويعتقد المراقب الاجتماعيّ أنور قمصية أنّ أكثر من نصف مسيحيّي عمّان، العاصمة، في الأصل فلسطينيّون.

وصرّح قمصية، وهو فلسطينيّ مسيحيّ، لفناك بأنّه نظرًا لطبيعة مجتمعهم المتماسكة تَندُر الفوارق بين المسيحيّين الأردنيّين والمسيحيّين الفلسطينيّين.

المجتمع اليوم

يقول قمصية وأبي جريس أنّ مجتمعاتهما تتمتّع بحرّيّة ممارسة الطّقوس الدّينيّة على الرّغم من التزام الأردن بقوانين الشّريعة.

ففي عيد الميلاد المجيد يحتفل المسلمون والمسيحيّون على حدّ سواء، وتزور العائلات بازارات الأسواق، وتشاهد عروض العيد، وتحضر الاحتفالات الأخرى لموسم الأعياد. ويؤكّد كِلا المراقبَين أنّ معظم الكنائس تحظى بحراسة أمنيّة حرصًا على سلامة المؤمنين.

قالت أبي جريس إنّ عيد الميلاد المجيد هو العطلة المسيحيّة الوحيدة الّتي تعترف بها الدّولة، على عكس عيد الفصح الّذي لا يشكّل عطلة رسميّة.

ولاحظ قمصية ازديادًا في ارتياد السّيّاح الأجانب إلى المواقع السّياحيّة الدّينيّة المسيحيّة في السّنوات الأخيرة الماضية، وذلك نتيجة مبادرات الدّولة ووكالات السّفر للتّرويج للأردن كبلد مضياف ومرحِّب.

فلقد حضر آلاف المسيحيّين الكاثوليكيّين في مستهلّ كانون الثّاني قدّاسًا يحتفل بيوم الحجّ السّنويّ إلى الضّفّة الشّرقيّة لنهر الأردن، حيث تعمّد المسيح بحسب المعتقد المسيحيّ. لكن بسبب القيود المفروضة في ظلّ جائحة كوفيد-19 سجّل الحضور عام 2022، 1000 شخص كحدّ أقصى، بحسب وكالة الأنباء الفرنسيّة AFP.

إضافة إلى ذلك، التقى وفد من “تنسيقيّة الأساقفة من أجل الأرض المقدّسة” في الأردن للمرّة الأولى كختام لاجتماعهم السّنويّ الّذي عُقِد في مستهلّ كانون الثّاني.

وأصدر الأساقفة بيانًا سلّطوا فيه الضّوء على أنّ “الأردن جزء لا يتجزّأ من الأرض المقدّسة، بدليل موقع معموديّة الرّبّ وخدمته المبكرة على أرضه.”

صرّح قمصية بأنّ التّحدّي الأكبر الّذي يواجهه المجتمع المسيحيّ هو تضاؤل عدد أفراده بسبب الأحوال الاقتصاديّة، إذ يختار المسيحيّون الأردنيّون إنجاب عدد أقلّ من الأطفال.

لكنّه لاحظ أيضًا تفاقُمًا في الاهتمام بحماية الهويّة والثّقافة المسيحيّة تبعًا لظهور قوّات شبه عسكريّة مثل الدّولة الإسلاميّة (داعش).

أخيرًا، على الرّغم من قلّة أعدادهم، يزداد تفاني جيل الشّباب المسيحيّين الأردنيّين لدينهم يومًا بعد يوم نتيجة لتفشّي الإرهاب في الآونة الأخيرة، بحسب قمصية. ويختم قائلًا “أنا واثق من الحفاظ على الهويّة المسيحيّة في الأردن والمشرق ككلّ.”