وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

المسيحية

المسيحية
الطوائف المسيحية الرئيسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا. Fanack.

كان الشرق الأوسط مهد المسيحية، ففي فلسطين، تحوّل بعض اليهود لأول مرة إلى المسيحية ونقلوا الدين الجديد في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية وبقية العالم. ومنذ ذلك الحين، كان الشرق الأوسط موطن بعض أكثر الطوائف المسيحية قِدماً في العالم. وفي الآونة الأخيرة، وعلى الرغم من أنّ أعداد المسيحيين في المنطقة في تزايدٍ مستمر، إلا أنّ هناك انخفاضٌ في نسبتهم مقارنةً بالمسلمين الذين يُشكلون الأغلبية. يُعزى هذا الانخفاض إلى عدد من العوامل.

أثناء انتشار المسيحية إلى أوروبا، ظهرت العديد من مدارس الفكر ذات النفوذ، حيث كان البعض منها متناقضة بشكلٍ متبادل. ومع ذلك، عازمين على تشكيل عقيدة مسيحية موّحدة، اجتمع الأساقفة من جميع أنحاء العالم وبتوا الأمر في المناقشات اللاهوتية الرئيسية في عام 325 ميلادي في مجمع نيقية، تحت رعاية الإمبراطور الروماني قسطنطين العظيم. ومع ذلك، لم يتم قط القضاء كلياً على التناقضات الدينية والسياسية، حيث حدث انقطاع في التواصل في القرن الحادي عشر والذي أسفر عن انفصال كامل للكنائس الغربية عن الشرقية، الانشقاق الكبير عام 1054- حدثٌ قائمٌ حتى يومنا هذا. وعلى الرغم من وجود اختلافات لاهوتية طفيفة، إلا أنّ السبب الرئيسي لقطع العلاقات كان سياسياً، يتعلق بالأسبقية، إذ كان هناك نزاعات بشأن من ينبغي له امتلاك السُلطة العليا على العالم المسيحي. ادعى البابا في روما السُلطة المطلقة، في حين أكدت الكنائس الشرقية على المساواة بين أساقفة روما والقسطنطينية. واليوم، تؤكد معظم الكنائس الكاثوليكية الغربية سيادة البابا، في حين أن المسيحية الشرقية تعترف بالسُلطة الموزعة بالتساوي على تسع بطاركة وعدد آخر من الكنائس المحلية المستقلة التي لا يرأسها البطريرك.

حافظت كنائس الشرق الأوسط، حتى الآن، على هويتها الثقافية والعرقية. وبالتالي، لا تمتاز الكنائس في الشرق الأوسط بكونها مذهبية فقط، بل بكونها غنية ثقافياً- بما في ذلك تقاليد الأعراق السريانيّة، والآراميين، والأقباط، والعرب. فقد لعب الانتماء العرقي دوراً كبيراً في الطريقة التي يُمارس فيها مسيحيو الشرق شعائرهم الدينية. ووفقاً لأنتوني أوماهوني، وهو باحث رائد في المسيحية الشرق أوسطية، يرى أنّ مسيحي الشرق الأوسط “قبليّين في انتمائهم إلى كنيستهم.” بالنسبة لهم، كانوا من العرب قبل تحولهم إلى المسيحية أو حتى الإسلام، ويشعرون بارتباط عميق متوارث بوطنهم.

يُعطي انتوني أوماهوني وإيما لوسيلي مثالاً واضحاً على ما يعنيه هذا: “بالنسبة للأشخاص من الخارج، قد يكون عالم المسيحية الشرقية مربكاً للغاية، فعند زيارة مدينة حلب في سوريا على سبيل المثال، والتي تضم أقلية مسيحية كبيرة، ستجد ما لا يقل عن 11 طائفة.” (المسيحية الشرقية في الشرق الأوسط الحديث، لندن ونيويورك: روتليدج، 2010، ص 1). 1

وضع المسيحية في الشرق الأوسط- من الماضي إلى الحاضر

تغير الشرق الأوسط إلى الأبد منذ ظهور الإسلام في القرن السابع الميلادي. خلق التوسع العسكري للمسلمين توتراتٍ مع هيمنة الإمبراطورية الرومانية. ومع ذلك، وجِدت المسيحية وتواصل وجودها في الشرق الأوسط لأن الإسلام يعترف بالمسيحية، واليهودية أيضاً، كما هو الحال منذ أسلاف الإسلام. وخلافاً للاعتقاد الشائع في الغرب، لا يخضع المسيحيون في الشرق الأوسط لأحكام الشريعة الإسلامية. فأحكام الشريعة الإسلامية تطبق حصراً على المواطنين المسلمين في الدولة الإسلامية. يعتبر المسيحيون الذين يعيشون في ظل دولةٍ إسلامية، بموجب القوانين الإسلامية، من أهل الذمة، أي مواطنين غير مسلمين في الدولة. ولا تطبق دول الشرق الأوسط اليوم أحكام الشريعة الإسلامية الصارمة، بل مزيجٌ من الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية، مما يسمح للمسيحيين بصياغة وإتباع القوانين والمحاكم الخاصة بهم. يحكم المسيحيون بشكلٍ أساسي فيما بينهم بالقضايا التي تتعلق بالطلاق والميراث، حيث أنّ القانون الجنائي في غالبية دول الشرق الأوسط علماني، ويحكم بين جميع المواطنين على قدم المساواة بغض النظر عن الدين.

تدهور وضع المسيحيين في الشرق الأوسط بشكلٍ كبير عندما استعمرت الامبراطوريات الغربية، وبخاصة بريطانيا، غالبية دول الشرق الأوسط وشمال افريقيا. أصبح يُنظر إلى المسيحيين من أبناء البلد باعتبارهم موالين للغرب، بولاءٍ مزدوج، على الرغم من حقيقة أنّ المسيحيين كانوا يتواجدون في الشرق الأوسط قبل الإسلام، وأنهم جزء لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي للمنطقة. وللأسف، امتلك المسيحيون في الغرب تصوّر مُبهم عن مسيحي الشرق، مازجين انتمائهم العرقي الشرقي، وبخاصة العرب، مع الإسلام، وناسين أنهم مسيحيون فطريون لا يزالون يمارسون المسيحية في المدن والقرى التي نشأت منها المسيحية.

المسيحية
رجل دين يوزع الزهور على المصلين المسيحيين الأرثوذكس خلال احتفال بالشعلة المقدسة في كنيسة القيامة في البلدة القديمة في القدس, 11 أبريل 2015. Photo Xinhua/Li Rui

وعلى الرغم من كونهم أقلية، لطالما ساهم المسيحيون في الشرق الأوسط بشكلٍ حيوي في المجتمع، وفي العلم والفلسفة والطب. فهم يحظون بمكانة الأقلية المحمية في البلدان الإسلامية، حيث سنّت الدول قوانين مختلفة لضمان وحماية حرية المسيحيين في تكوين الجمعيات. وفي حين تُكفل حماية المسيحيين بموجب القانون، إلا أنهم عانوا من الأعمال العدائية من قبل المتعاطفين مع الجماعات الإسلامية المتطرفة الذين لا يطيعون القوانين الشاملة في البلاد. بشكلٍ عام، المسيحيون قادرون على ممارسة شعائرهم الدينية وبناء دور العبادة في جميع بلدان الشرق الأوسط- باستثناء المملكة العربية السعودية والدولة الإسلامية المزعومة. وبصرف النظر عن الدولة الإسلامية، لا يعتبر المسيحيون أقليةً مستهدفة، على الرغم من أنّ المسيحيين والمسلمين لا يختلطون كثيراً. وعندما تكون هناك مشاكل سياسية أو عرقية، تُستهدف دوماً الأقليات، وعندما يحصل هذا، غالباً ما يتم التحريض على حرق الكنائس وغيرها من الأحداث المماثلة بسبب السياسة وليس الدين.

انخفاض أعداد المسيحيين في الشرق الأوسط

تتراجع نسبة المسيحيين في الشرق الأوسط منذ عقود. وتعكس أعدادهم اليوم انخفاضاً مما نسبته 20% في أوائل القرن العشرين إلى 5% في السنوات الأخيرة. ويعزو المحللون ذلك إلى ثلاثة أسبابٍ رئيسية: انخفاض معدل المواليد، والهجرة، والاضطهاد العرقي والديني.

انخفاض معدل المواليد

تشير التقديرات إلى أن معدل نسبة المواليد للمسيحيين في الدول ذات الأغلبية المسلمة انخفض من 5,17 إلى 3,23 طفل لكل امرأة وذلك بانخفاض قدره 38%. وعلى نحوٍ تقليدي، تلد النساء المسلمات أطفالاً أكثر من النساء المسيحيات، إلا أنّ الفجوة لم تكن بهذا الاتساع التي أصبحت عليه في الآونة الأخيرة. ووفقاً لمركز بيو للدراسات، لم تنخفض أعداد المسيحيين في الدول المسلمة ولكن تضاعفت أربع مرات؛ ولكن السبب الذي يجعل الأعداد وكأنها انخفضت يعود إلى ازدياد أعداد السكان المسلمين عشرة أضعاف. فالإسلام الدين الأسرع نمواً، وذلك بشكلٍ أساسي بسبب معدل مواليد المسلمين. كما يميل المسيحيون إلى إنجاب عددٍ أقل من الأطفال. فقد دفعت الضغوط الاقتصادية في العصر الحديث النساء إلى تأخير الزواج، حيث يفضلنّ استكمال تعليمهنّ عوضاً عن الزواج. كما تميل النساء المسيحيات في الشرق الأوسط إلى الحصول على التعليم العالي، ويُفضلنّ أن يكنّ أكثر استقلالية، كما يتجهنّ إلى الحياة المهنية بشكلٍ أكبر من النساء المسلمات.

الهجرة

يُسجل مسيحيو الشرق معدلاتٍ أعلى للهجرة من المسلمين، حيث تتوقع تقديرات مركز بيو للدراسات فيما يتعلق بالنمو السكاني في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا بأن يستمر هذا الاتجاه في العقود المقبلة، من عام 2010 إلى عام 2050. ومع ذلك، “في حين يتوقع للهجرة من الشرق الأوسط وشمال افريقيا خفض حصة المسيحيين في دولٍ مثل مصر والعراق وسوريا، إلا أنّ هجرة المسيحيين ]العمّال المهاجرين بشكلٍ أساسي[ إلى دول مجلس التعاون الخليجي من المتوقع أن تعوض بشكلٍ أكبر المغادرين للمنطقة بشكلٍ عام.”

يميل المسيحيون في الشرق الأوسط إلى الهجرة لسببين رئيسيين- الصراع العسكري والبحث عن فرص عمل أفضل. وحتى وقتٍ قريب، كان المسيحيون في الشرق الأوسط يميلون إلى الهجرة إلى البلدان ذات الأغلبية المسيحية، وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية ومنطقة آسيا والمحيط الهادي. في الواقع، غالبية المهاجرين العرب في أمريكا الشمالية ينحدرون من المسيحيين الذين هاجروا من المناطق السورية واللبنانية التي كانت تابعةً للامبراطورية العثمانية في الفترة ما بين 1875 و1920. فعلى سبيل المثال، 80% من الشتات اللبناني من المسيحيين. ومع ذلك، في الصراع الأخير، وبعد الغزو الأمريكي للعراق، فرّ المسيحييون (والمسلمون) بشكلٍ أساسي إلى الدول الإسلامية الأخرى، التي استقبلتهم كلاجئين– وخصوصاً الأردن وسوريا- بدلاً من الدول المسيحية.

أدرجت منظمة العفو الدولية البلدان التي لديها أكبر عدد من اللاجئين السوريين، وجميعهم دول إسلامية، كما فعل موقع ويكيبيديا للعراقيين.

الاضطهاد العرقي والديني


مزق الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 والاحتلال اللاحق النظام الاجتماعي الذي كان يدور في فلك التعايش السلمي. ومنذ ذلك الوقت، كانت تتعرض الأقليات المسيحية في الشرق الأوسط إلى الاضطهاد العرقي والديني إلى الحد الذي كان يُخشى فيه اختفاء المسيحية في بعض المناطق التي تعتبر أراضٍ توراتية قديمة، كما استنتجت جمعية عون الكنيسة المتألمة (ACN)، وهي مجموعة لحملة كاثوليكية مقرها المملكة المتحدة. وقد وثقت منشوراتها اضطهاد المسيحيين في جميع أنحاء العالم لأكثر من 65 عاماً.


[1] (Eastern Christianity in the Modern Middle East, London and New York: Routledge, 2010, p. 1).

Advertisement
Fanack Water Palestine