لا يوجد الكثير من مقاطع الفيديو الموسيقية التونسية بمشاهداتٍ بالملايين على اليوتيوب، إلا أن تلك ذات المشاهدات المليونية تشترك في شيء واحد: جميعها مقاطع فيديو لموسيقى الراب.
وعلى الأقل، هذا يعني أن هذا النوع يتمتع بشعبيةٍ كبيرة بين الشباب التونسي. فقد أصبح الراب صوت الشباب، الذي يعكس علاقتهم مع السلطات، قبل وخلال وبعد الثورة.
وبالعودة إلى أواخر عام 2010، خلال الأيام الأخيرة لنظام بن علي، كان الراب مقسماً بالفعل. فمن ناحية، كان هناك الراب السائد الذي يتحدث عن الحب والعائلة والصداقة. وقد سمح لمغنيّ الراب هؤلاء بتقديم عروضهم في المهرجانات وحتى أنهم شاركوا في احتفالات حملة بن علي الرئاسية.
ومن ناحيةٍ أخرى، كان هناك الراب المستقل (الأنرجراوند)، الذي تحدى وانتقد النظام. وكان من بين مغني الراب المستقل، الجنرال، واسمه الحقيقي حمادة بن عمر، الذي أطلق أغنية بعنوان ريس البلد في نوفمبر 2011. ناقشت الأغنية الفساد وانعدام الحريات في البلاد. وعلاوة على ذلك، خاطبت الرئيس بشكلٍ مباشر، الأمر الذي يعد عملاً شجاعاً وغير مسبوق. ساهم نجاح الأغنية بشهرة الجنرال، كما جلبت له المتاعب.
ففي 6 يناير 2011، أي قبل أقل من عشرة أيام على سقوط النظام، كان الجنرال من بين عدد من الفنانين والناشطين والسياسيين الذين اعتقلوا. وتدور العديد من الأسئلة الجدلية فيما إذا كانت الأغنية قد ساهمت بطريقةٍ ما بإشعال الأحداث في الشهر السابق الذي أدى إلى نهاية النظام. ومع ذلك، منحت الإغنية “الجنرال” مرتبةً على قائمة مجلة تايم لعام 2011 لأكثر 100 شخصية تأثيراً في العالم.
وفي نفس الوقت تقريباً، دخل مغني راب مستقل آخر عالم الشهرة: محمد الجندوبي، المعروف باسم بسيكو إم. كانت أغنيته الضاربة تلاعب (Manipulation)، خطبة ساخرة مدتها 15 دقيقة عن مؤامرة عالمية ضد العالم الإسلامي. كما استخدم منبره لمهاجمة الجهات الفاعلة والمخرجين والصحفيين التونسيين البارزين، متهماً إياهم بكونهم جزء من هذه المؤامرة، التي تحارب الإسلام وتنحرف عن القيم الإسلامية المحافظة. ومثل العديد من مغني الراب في ذلك الوقت، كان يستخدم الراب لنشر أيديولوجية إسلامية كبديلٍ لنظامٍ اعتبره علمانياً ومعارضاً للإسلام. وإلى حدٍ ما، كان ذلك انعكاساً للارتباك المبكر الذي أعقب الثورة حيث استخدم كل شخص كلمات مثل الديمقراطية والعلمانية والشريعة في كل مكان.
وبعد سقوط النظام، انتشر الراب، وانتقل من كونه حركة نادراً ما عرضها التلفزيون الرئيسي إلى حركةٍ موجودة في كل مكان. وبرز الراب في الأغاني الوطنية، والبرامج السياسية، وحتى في الإعلانات التجارية. فقد كانت البلاد تشهد موجةً من حرية التعبير، ومغنيّ الراب، كحال العديد من الفنانين الآخرين، استغلوها للتعبير عن أنفسهم دون اعتراضٍ ملحوظ من السلطات.
غير أن هذه الحرية لم تدم طويلاً، فقد ألقي القبض على مغنيّ الراب مرة أخرى في أوائل فبراير 2012، وذلك بشكلٍ أساسي لتعاطيهم الحشيش المخدر. ولكن لم تبدأ المواجهة المباشرة إلا عند إطلاق أغنية “البوليسية كلاب” لمغني الراب ولد الكانز. وكما يوحي العنوان، فالأغنية هجومٌ مباشر على الشرطة، حيث اتهمهم بالفساد واستخدام الاعتقالات المتصلة بالحشيش المخدر كذريعة لإسكات مغني الراب. بل إن الكلمات تأخذ منعطفاً عنيفاً، إذ تقول إحدى المقاطع: “في العيد نحب نذبح بوليس مممم في بلاسط العلووش.”
انتشرت الأغنية بشكلٍ كبير وحصلت على أكثر من 3 ملايين مشاهدة قبل أن يتم حذفها عن اليوتيوب. وترتبط شعبيتها ارتباطاً وثيقاً بالإحباط المتراكم والغضب ضد الشرطة، وذلك أساساً بسبب القانون 52 المتعلق بالمخدرات. وينص هذا القانون، الذي تم بموجبه سجن أكثر من 120 ألف شخص منذ اعتماده في عام 1992، على فرض العقوبة الإلزامية الدنيا بالسجن على أي شخص تثبت إدانته باستخدام وحيازة مخدرات غير مشروعة، بما في ذلك الحشيش المخدر. وكثيراً ما اتهمت الشرطة باستخدام هذا القانون كوسيلة لقمع الشباب. وبالتأكيد، لم تخلو الأغنية من العواقب، إذ تم اعتقال وسجن المغني، إلى جانب كل من ساهم في إنتاج الأغنية والفيديو الموسيقي.
وبعد أن أنهى عقوبته بالسجن، انتقل ولد الكانز في نهاية المطاف إلى فرنسا. فيما سلك مروان الدويري، المعروف باسم إمينو، طريقاً مختلفاً. فقد حُكم على مغني الراب الشاب، الذي حوكم أيضاً لذكر إسمه في نفس الأغنية المثيرة للجدل، بالسجن لمدة سنتين. وعلى الرغم من أنه لم يُسجن سوى لشهرين، إلا أنّ وجوده في السجن غيره للأبد. فالمغني الذي اشتهر بأغنيته حرق (Burn)، التي تُشيد بالكحول والنساء والمال، تخلى عن ماضيه وانتقل إلى سوريا حيث انضم إلى صفوف تنظيم داعش، حيث قُتل في غارةٍ جوية على الموصل في العراق في 12 نوفمبر 2016، وفقاً لمنشورٍ على الفيسبوك من أحد زملائه في التنظيم.
فقد كان هذا الطريق بعيداً كل البعد عن كونه غير مألوف بين الشباب التونسيين في ذلك الوقت. ففي معظم الحالات، كان هذا بسبب مزيجٍ خطير من التهميش والفقر وفقدان الثقة بالحكومة والأمل بمستقبلٍ أفضل، حيث استغلت المنظمات الإسلامية المتطرفة هذا الشعور باليأس لتجنيد الشباب التونسي. وفي دراسة أجراها المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية عام 2016، امتلكت تونس أعلى عدد من مقاتلي داعش وأعلى معدل في التجنيد للفرد الواحد، حيث يقدر عددهم بنحو 6 آلاف مقاتل.
لم تنتهي الاشتباكات بين مغني الراب والسلطات هنا. فقد صدرت أغانٍ تدين السياسيين والشرطة ووسائل الإعلام، حيث اعتبروا جميعاً جزءاً من نظامٍ يحبط الشباب بشكلٍ واضح. ففي أغنيته “الغضب،” التي صدرت في فبراير 2017، كلاي بي بي جي، أحد أبرز مغني الراب التونسيين، تحدث بشكلٍ صريح. ففي الكلمات التي اعتبرها النقاد عنيفة وتنتهك المحرمات، يتهم وسائل الإعلام بتشويه الراب كما ويتهم السياسيين والشرطة بشن حملة مستمرة لإسكات مغني الراب من أجل عدم مهاجمة الوضع الفاسد الراهن. تمت مشاهدة هذه الأغنية لأكثر من 6 ملايين مرة على اليوتوب.
وهذه المرة، لم تأتِ الإجابة عبر دار القضاء. بدلاً من ذلك، رفضت الشرطة ضمان سلامة أي عرض يقدمه كلاي بي بي جي. أدى ذلك إلى إلغاء 18 عرض له في جميع أنحاء البلاد، بما في ذلك في مهرجان قرطاج، أكبر مهرجانات تونس. وقال المنظمون ان القرار اتخذ بسبب مخاوف أمنية، إلا أن كلاي بي بي جي نفسه يصر على أن الشرطة ووزارة الثقافة ضغطتا على المهرجانات لالغاء عروضه. وأدى ذلك إلى موجة من الدعم لمغنيّ الراب الآخرين بمن فيهم بلطي، الذي ألغى بعضاً من عروضه تضامناً.
فقد شهدت العلاقة بين الراب والسلطات صعوداً وهبوطاً من عام 2011 وحتى عام 2017. وفي الأشهر الأخيرة، تدهورت العلاقة مجدداً.
فهل تعكس المواجهات الأخيرة بين مغني الراب والشرطة الاحباط المتراكم الذي يشعر به شريحة من الشباب التونسي تجاه النظام الذي فشل في تحقيق التوقعات الثورية قبل سبع سنوات؟ تقول كلمات أغنية كلاي بي بي جي الأخيرة التي تحمل عنوان “النووي”: “جيراننا يسألوننا بقلب مثقل، تونس، كيف سيكون الحال؟”