وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الثورة التونسية (2010)

بلغت خيبة الأمل السياسية من حكومة زين العابدين بن علي مبلغها عام 2010. اندفع التونسيون إلى التظاهر غضباً من القمع والتفاوت الاجتماعي والفقر.

تونسيون يتظاهرون
تونسيون يتظاهرون في التضامن مع أهالي سيدي بوزيد، تونس، في 27 ديسمبر 2010. AFP PHOTO / FETHI BELAID

كتبه: C.R. Pennell استاذ سابق في تاريخ الإسلام والشرق الأوسط, جامعة ملبورن أستراليا

حرره: إريك برينس

تونس في عهد بن علي: قمع واحتكار

كانت لنظام بن علي واجهة خارجية حميدة، فنظام الحكم كان برلمانياً، وكانت تُعقد انتخابات دورية. كما نتج عن المحاصة النسائية في حزب التجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم، وجود نسبة أعلى من النائبات في مجلس النواب (27.6%) مقارنة بأي دولة أخرى في المنطقة ــ وحتى في الولايات المتحدة وبعض دول أوروبا.

وقد سمحت هذه الواجهة الديمقراطية للنظام بالتسامح مع جماعات المعارضة المعتدلة ودمجها، فضلاً عن السماح للنقابات ومنظمات حقوق الإنسان وجمعيات المحامين بالعمل، لكن في نطاق محدود. لكن هذه الواجهة كانت أيضاً غطاء لسحق الأحزاب السياسية التي شكّلت تهديداً في نظر السلطة، مثل حركة النهضة، الحزب الإسلامي الأكبر. فقد شنّ بن علي قمعاً شرساً على النشطاء، ما أدى إلى اعتقال وسجن نشطاء عديدين، بمن فيهم النساء اللواتي تعرضن في كثير من الأحيان للتعذيب والتعسف. وفي حين اعتمدت الحكومة اعتماداً كبيراً على الشرطة وقوات الأمن لإحكام قبضتها على السلطة، فإنها همّشت الجيش لإعاقة أي محاولة انقلابية.

بدأ فساد النظام، الذي كان إحدى القضايا التي احتج عليها التونسيون لاحقًا، في عائلة الرئيس التي كانت تسيطر على أجزاء كبيرة من المجتمع. تولت زوجة بن علي، ليلى الطرابلسي، رئاسة العديد من وكالات الإغاثة، بينما سيطر أبناؤه على مصالح تجارية كبيرة تشمل البنوك والاتصالات ووسائل الإعلام. وقد أدى هذا إلى نفور قطاعات كبيرة من الطبقة البرجوازية التي كانت استفادت من النمو الاقتصادي في الماضي، لكنها وجدت نفسها الآن مستبعدة جرّاء احتكار عائلة الرئيس للاقتصاد. علاوة على ذلك، جعل ذلك الاحتكار من المستحيل على القنوات الإعلامية التعبير عن المعارضة.

كانت الثروة التي حازتها نخبة النظام تناقض معدلات الفقر والبطالة التي شهدت ارتفاعاً حاداً في مطلع الألفية. فقد تسببت الأزمة المالية العالمية عام 2008 في زيادة البطالة في أنحاء تونس، وارتفعت أسعار الوقود والغذاء عام 2010، مما أدى إلى وقوع أعمال شغب صغيرة. وشهدت مناطق تونس الداخلية أسوأ المشكلات، وخاصةً مناطق الشمال الغربي والجنوب التي كانت أقل تطوراً من بقية البلاد. وفي صيف عام 2010، اندلعت احتجاجات في مدينة بنقردان بالقرب من الحدود الليبية.

Source: Worldbank/ILO

انتحار يؤجج الاحتجاجات

تأججت نيران الاحتجاج ضد نظام بن علي الاستبدادي عندما قام محمد البوعزيزي، بائع الفاكهة الفقير المتجول، في 17 ديسمبر 2010، بإضرام النار في نفسه بعدما سكب البنزين على نفسه. واتخذ البوعزيزي قرار الانتحار بعدما أهانته إحدى الشرطيات بصفعه على وجهه في أثناء خلاف بخصوص رخصته. كان البوعزيزي من مدينة سيدي بوزيد، وهي مدينة فقيرة في وسط البلاد حيث كان يعاني نحو 55% من خريجي الجامعات من البطالة.

لفت انتحاره احتجاجاً انتباه التونسيين وانتشرت الاحتجاجات في أنحاء البلاد، فبدأت في مناطق ريفية أخرى، مثل القصرين القريبة من الحدود مع الجزائر، ثم امتدت إلى تونس العاصمة، حيث انضم إليها المحامون والنقابيون.

أساء النظام التعامل مع الأزمة، حتى من منظور العلاقات العامة. وبعد أن زار بن علي البوعزيزي على فراش الموت في المستشفى، نشرت الحكومة صورة للحدث بدت فيها تعابير الاشمئزاز واضحة على وجوه الأطباء.

انتشرت الاحتجاجات التي انطلقت من الجنوب في أنحاء تونس، وشاركت مع الوقت شريحة واسعة من المجتمع، بما في ذلك المحامون والأطباء والمعلمون، وطالبت بالتغيير الاقتصادي والحقوق السياسية.

 الثورة التونسية 2010
طفل يحمل لافتة كُتب عليها “الحرية لجميع المعتقلين” خلال مظاهرة في تونس العاصمة في 8 يناير 2011، والتي أُقيمت دعماً للمعتقلين الذين أُلقي القبض عليهم خلال الصدامات التي وقعت بين المتظاهرين والشرطة في ديسمبر 2010 في مدينة سيدي بوزيد التي تبعد عن العاصمة نحو 265 كيلومتراً.AFP PHOTO/FETHI BELAID

هروب بن علي

في 14 يناير2011، تعهد بن علي بعدم الترشح مرة أخرى للرئاسة عام 2014، فضلاً عن عقد انتخابات تشريعية في غضون ستة أشهر. ورغم إعلانه حرية الصحافة وخفض أسعار السلع الأساسية، فقد فرض أيضاً حالة الطوارئ، بما في ذلك حظر التجمعات العامة لأكثر من ثلاثة أشخاص. ودعا الاتحاد العام التونسي للشغل إلى الخروج في إضراب عام، ورفض الجيش إطلاق النار على المتظاهرين. وهرب بن علي وزوجته ليلى إلى السعودية.

واعتُقل أفراد من عائلة بن علي وصدرت مذكرة توقيف بحق الرئيس المخلوع. لكن هياكل الدولة تمكّنت من النجاة رغم انهيار الأسرة الحاكمة. واستعادت الدولة التونسية زمام أمرها بعدما أفسدها الرئيس بن علي.

وبعد فرار بن علي، تولى رئيس الوزراء محمد الغنوشي رئاسة الجمهورية لفترة وجيزة قبل تسليم الرئاسة لرئيس مجلس النواب فؤاد المبزع. ظلّ محمد الغنوشي في منصبه رئيسًا للحكومة، وضمّ في الحكومة الجديدة معارضين كبار للنظام المخلوع، إلا أنّه أوكل الوزارات السيادية (مثل الشؤون الخارجية والداخلية والدفاع) إلى أعضاء التجمع الدستوري الديمقراطي، مما أدى إلى تفاقم الغضب الشعبي.

واستمرت الاحتجاجات بدعم من الاتحاد العام التونسي للشغل حتى اضطُر محمد الغنوشي تحت ضغط الشارع التونسي إلى الإعلان عن تعديل وزاري في الحكومة الجديدة في 27 يناير، غيّر فيه بعض المناصب الوزارية الموكلة إلى أفراد من النظام القديم.

حكومات مؤقتة

لم تعد الحكومة الجديدة خاضعة لسيطرة حزب التجمع الدستوري الديمقراطي المخلوع. وفوق ذلك، فقد جرى استبدال جميع ولاة الولايات. لكن الحكومة لم تستمر سوى شهراً واحداً. وفي 27 فبراير، أعلن محمد الغنوشي استقالته من رئاسة الحكومة. وتولى الباجي قايد السبسي منصب رئيس الحكومة المؤقتة، ثم أُعلن عن إجراء الانتخابات. ومع ذلك، واصل المتظاهرون احتجاجاتهم ضد الحكومة المؤقتة، إذ شكوا أن رجلاً ينتمي إلى نظام بن علي المخلوع ما يزال يمارس السلطة.

فقد تولى السبسي عدة وزارات في عهد الرئيس الحبيب بورقيبة وترأس مجلس النواب خلال السنوات الأولى من عهد بن علي. وكان أيضًا مسؤولًا رفيع المستوى في حزب التجمع الدستوري الديمقراطي. إلا أنه كان بعيداً عن الأضواء لسنوات عندما انطلقت الثورة.

بمجرد أن تولى السبسي رئاسة الحكومة، أعلن حل حزب التجمع الدستوري الديمقراطي والشرطة السرية التي كانت تحميه، ومنح الترخيص الحزبي لحركة النهضة. ثم علّق الدستور، وأنشأ الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، وحدد موعداً لإجراء انتخابات المجلس الوطني التأسيسي. فرض قانون الانتخابات الجديد، الذي صدر في مايو 2011، تقسيماً متساوياً تقريباً بين الرجال والنساء بين المرشحين لانتخابات المجلس الوطني التأسيسي الذي ستكتب دستور البلاد الجديد.

واضطُرت الحكومة الجديدة إلى التعامل مع الأزمة في ليبيا، فحافظت على علاقاتها مع القذافي ومعارضيه المسلحين، في الوقت نفسه الذي كانت تواجه تدفق مليون لاجئ وتهريب الأسلحة. وتمكن السبسي من استرضاء الاتحاد العام التونسي للشغل والمشاركين في اعتصام القصبة، مما قلل من الإضرابات والاحتجاجات.

وفي الوقت نفسه، تمددت الثورة التونسية ضد بن علي إلى دول عربية أخرى، مما أدى إلى اندلاع حركة على مستوى المنطقة عُرفت باسم الربيع العربي. وقلقت الدول الغنية والقوية، مثل الجزائر والسعودية ودول الخليج الأخرى، من أن تساهم الثورة التونسية في عودة الحركات الإسلامية.

وبالفعل، فقد برز التطرف الإسلاموي في تونس. ففي مايو 2011، تعرض عقيد وجنوده للقتل بالقرب من الحدود الجزائرية. وبعد ذلك بوقت قصير، خرّب بعض المسلحين إحدى دور السينما لعرضها فيلم رأوه مناهضاً للإسلام. وكان الدافع نفسه وراء هجوم آخر في العام نفسه ضد مقر قناة نسمة بعد أن بثت فيلم برسبوليس. ورأى بعض المراقبين في هذا العنف إشارة إلى صراع مقبل بين الداعين إلى تونس الإسلامية وتونس العلمانية.

وازدهرت حركة النهضة التي لم تكن مقننة في عهد بن علي، لكنها رغم ذلك كانت تتمتع بقاعدة اجتماعية وتنظيم شعبي كبيرين، وكان تمويلها أكبر من الأحزاب الأخرى. ولأنّها أقدم حركة معارضة في تونس، كانت تتمتع بسمعة وقدرات لا يمكن تحديها. وعندما أُجريت أول انتخابات حرة ونزيهة في تاريخ البلاد في 23 أكتوبر 2011، برزت حركة النهضة بصفتها الحزب الأكبر، وحازت 89 مقعداً من أصل 217، بنسبة 41% من الأصوات. وانتُخبت 59 امرأة لعضوية المجلس الوطني التأسيسي، أي ما يعادل 27% من النواب. كما عينت حركة النهضة أمينها العام حمادي الجبالي رئيساً للحكومة في 24 ديسمبر 2011.

ولأنّ النهضة لم تفز بأغلبية الأصوات، فقد اضطُرت إلى تشكيل ائتلاف مع حزبين علمانيين: حزب التكتل الديمقراطي الاشتراكي الذي تولى زعيمه مصطفى بن جعفر رئاسة المجلس الوطني التأسيسي، وحزب يسار الوسط المؤتمر من أجل الجمهورية. وأصبح المنصف المرزوقي، الزعيم السابق لحزب المؤتمر من أجل الجمهورية، رئيسًا للجمهورية التونسية في 13 ديسمبر 2011. وأصبح هذا التحالف يُعرف باسم تحالف الترويكا. أما حمادي الجبالي الأمين العام لحركة النهضة، فقد أصبح رئيساً للحكومة.

حركة النهضة في السلطة

رغم أنّ الجبالي شكّل حكومة ائتلافية، فقد رأى بعض المعارضين في الوزراء العديدين الذين عُيّنوا من حركة النهضة وسيلة لمكافأة أعضائها المتشددين. ورأى آخرون أنّها استراتيجية تتبناها النهضة لفهم تفاصيل عمل الدولة من الداخل، ما سيمكّنها في المستقبل من إحكام سيطرتها على الحكومة.

واشتبك رئيس الوزراء الجبالي والرئيس المرزوقي مرات عديدة، كان أبرزها في منتصف 2012، عندما قررت الحكومة، خلافاً لأوامر المرزوقي، تسليم آخر رئيس وزراء في نظام القذافي، البغدادي المحمودي الذي كان رهن الاعتقال في تونس، إلى السلطات الليبية الجديدة. وتوترت كذلك العلاقات مع الجزائر والسعودية والإمارات في ظل النظام الجديد. كما قررت السلطة قطع علاقات البلاد مع سوريا البعثية.

تزايدت المطالب الاجتماعية في عهد الجبالي، وشهد عهده أيضاً ارتفاعاً في أسعار السلع الأساسية. أما السلفيون الذين زُعم أنّهم يتمتعون بحماية حركة النهضة، فقد علا صوتهم، لا سيما تحت راية جماعة أنصار الشريعة. لكن الخطر الحقيقي تمثّل في التمرد الذي بدأ في جبل الشعانبي على الحدود الجزائرية، حيث بدأ السلفيون الجهاديون المشتبه بهم في زرع القنابل وقتل الجنود. كانت الحركة المتمردة موجودة في عهد بن علي، ولكن المتمردين سُحقوا سحقاً منهجياً وجرى الحد من عملياتهم، باستثناء تفجير الكنيس اليهودي عام 2002 وحادثة سليمان عام 2007.

وفي عام 2012، ظهر الرابطة الوطنية لحماية الثورة، وهو ائتلاف ضم الإسلاميين والشباب العاطلين عن العمل. وكانت هذه المجموعة العنيفة مقربة من حركة النهضة وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية، واستمرت في تنظيم الهجمات على مقرات الاتحاد العام التونسي للشغل وأحزاب المعارضة ومنظمات المجتمع المدني. وفي أكتوبر 2012، اغتالت الجماعة لطفي نقض، المنسق العام لحزب نداء تونس المشكل حديثاً في تطاوين في أقصى جنوب البلاد.

ونداء تونس حزب سياسي علماني أسسه رئيس الحكومة السابق الباجي قايد السبسي في يونيو 2012. وسرعان ما أصبح نداء تونس المنافس الرئيسي لحركة النهضة. وفي ديسمبر 2012، شكّل تحالفاً مع الحزب الجمهوري (ليبرالي) وحزب المسار (يسار الوسط) تحت تحالف الاتحاد من أجل تونس. وعلى اليسار، اندمج 12 حزباً يسارياً وقومياً تحت راية ائتلاف الجبهة الشعبية في أغسطس 2012.

وفي سبتمبر 2012، هاجمت جماعة أنصار الشريعة السفارة الأمريكية والمدرسة الأمريكية في تونس العاصمة، في محاكاة للهجمات على المجمع الدبلوماسي الأمريكي وملحق وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في بنغازي بليبيا.

طريق وعر نحو الدستور الجديد

على خلفية هذه الأحداث، كانت صياغة الدستور صعبة للغاية. فعندما بدأت في يناير 2012، كان من المفترض أن تستغرق ستة أشهر فقط، لكن كانت هناك نقاط خلاف عديدة بين تحالف الترويكا والمعارضة، لا سيما بشأن دور الدين في الدولة، مما جعل الأمر يستغرق وقتًا أطول كثيراً.

وفي منتصف 2012، بدأ يبرز حل سياسي خارج مجلس النواب تحت رعاية الاتحاد العام التونسي للشغل الذي دعا إلى المصالحة الوطنية. في البداية، لم يكن هذا الاقتراح فعالاً لانعدام الثقة الممتد بين اتحاد الشغل والنهضة. ولكن عندما هدد الاتحاد بالدعوة إلى إضراب عام، وافقت النهضة على الحوار إذا شاركت منظمات المجتمع المدني الأخرى.

وتحالفت قيادة اتحاد الشغل مع ثلاث منظمات مدنية أخرى، هم الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، والهيئة الوطنية للمحامين. واستغل الاتحادان قوتهما من خلال الإعلان عن عقد اجتماعي يسمح لهما بالعمل معًا لكسر دائرة العنف والجمود السياسي. فشكّلوا الرباعي الراعي للحوار الوطني للوساطة في الأزمة السياسية.

الثورة التونسية 2010
صورة التُقطت في 29 ديسمبر 2010 للمحامي والناشط الحقوقي التونسي شكري بلعيد بينما كان يتحدث في اجتماع للمحامين في تونس العاصمة كان قد أُقيم تضامناً مع أهالي سيدي بوزيد. وقد تعرّض بلعيد، الذي شغل منصب الأمين العام لحزب الوطنيين الديمقراطيين المعارض ذي الميول اليسارية، للاغتيال صباح يوم 6 فبراير 2013، بحسب ما نقلت وكالة فرانس برس عن أخيه.AFP PHOTO FETHI BELAID

لكن ذلك لم يحل الأزمة على الفور، بل استمرت الاضطرابات في أوائل 2013. ففي 6 فبراير، اغتيل شكري بلعيد، زعيم الحزب اليساري العلماني، حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد، بالرصاص أمام منزله. وخرج مئات الآلاف من الأشخاص إلى الشوارع يطالبون حركة النهضة بالاستقالة. ثم انسحب نواب المعارضة من المجلس الوطني التأسيسي. وفي 19 فبراير 2013، استقال الجبالي من رئاسة الحكومة وسلّم السلطة إلى وزير الداخلية والرجل الثالث في حركة النهضة، علي العريض (مواليد 1955).

وتشكّل نصف حكومة العريض من حركة النهضة والنصف الآخر من وزراء تكنوقراط. وعُيّن وزراء تكنوقراط في الوزارات الرئيسية، وتعهد رئيس الحكومة الجديد بمحاربة الإرهاب. لكن التعديل الوزاري أطاح أيضاً بعبد الكريم زبيدي (مواليد 1950)، وزير الدفاع الذي كان وزيراً في عهد بن علي وحافظ على علاقات جيدة مع اللواء رشيد عمار (مواليد 1947 أو 1948)، رئيس أركان القوات المسلحة.

ثم تقاعد اللواء عمار بعد أربعة أشهر، مما أدى إلى تغيير كبير في صفوف كبار ضباط الجيش والشرطة. وربط بعض المحللين هذا التغيير بالأحداث التي شهدتها مصر (صيف 2013)، وتحدث مسؤولون عن محاولة انقلاب فاشلة (لم يُجرى التحقيق فيها حتى الآن). لذلك أصبحت المعارضة أكثر تشككاً في أهداف النهضة بعد هذا التغيير.

ثم، في يوليو 2013، أصبح محمد براهمي، عضو ائتلاف الجبهة الشعبية، ثاني يساري يتعرض للاغتيال في العام نفسه. انسحب نحو ثلث أعضاء المجلس احتجاجاً على ذلك، وطالبوا حزب النهضة بالاستقالة متهمين إياه بالتسامح مع الإسلاميين المسلّحين، ومن ثمّ الفشل في حفظ الأمن العام. بل إن بعض أعضاء المجلس طالبوا بحلّه ووقف العملية الدستورية. ووقع هجوم دموي ضد الجيش في جبل الشعانبي عقب اغتيال براهمي.

وفي أول أغسطس، خرج مئات الآلاف مرة أخرى إلى الشوارع للاحتجاج، مطالبين باستقالة حركة النهضة وحل المجلس الوطني التأسيسي. وانضم نواب المعارضة، الذين أخلوا مقاعدهم، إلى الاعتصامات أمام المجلس الوطني التأسيسي. ومع تصاعد الأزمة، أعلن رئيس مجلس النواب مصطفى بن جعفر وقف الجلسة. وأعلنت الحكومة جماعة أنصار الشريعة منظمة إرهابية، وحمّلتها مسؤولية مقتل النائبين وتنفيذ الهجمات ضد الجيش.

ومع عجز المجلس الوطني التأسيسي من التوصل إلى اتفاق، مارس الرباعي الراعي للحوار الوطني ضغوطاً على القيادة السياسية للتحرك نحو التصديق على الدستور المقترح والموافقة على تشكيل حكومة مؤقتة. واستخدم الأمين العام لاتحاد الشغل، حسين العباسي، قدرات الاتحاد التفاوضية لإجبار السياسيين على الاتفاق على خارطة طريق نحو كتابة مشروع دستور بحلول 12 يناير 2014. ورعى الرباعي تشكيل حكومة تكنوقراط لتحل محل التحالف الحاكم، وشكّل في نوفمبر 2013 لجنة التوافقات التي عملت على حل القضايا المتبقية في المسودات.

وكانت هناك ضغوط خارجية كبيرة أيضًا، خاصةً من حكومات الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا والجزائر. وعندما استُئنف عمل المجلس الوطني التأسيسي وعاد النواب إلى مقاعدهم، بدؤوا التصويت على المسودة النهائية مادةً تلو الأخرى، حتى وافقوا عليها في 26 يناير. ثم صاغ المجلس قانوناً للانتخابات الرئاسية والتشريعية في أكتوبر 2014. وأدى هذا الإنجاز المهم إلى حصول الرباعي الراعي للحوار الوطني على جائزة نوبل للسلام لعام 2015.