حكيم مرزوقي
حرم الإرهاب وتداعياته، هذا العام، جمهور التونسيين من متابعة مهرجان من نوع خاص ومتفرّد وهو عيد الرعاة. ويعد عيد الرعاة مهرجانا ثقافيا سنويا ينتظم في قرية الوساعية، التابعة لمدينة سبيطلة بمحافظة القصرين وسط غرب تونس، وذلك لإعلان محيط القرية المتاخمة لجبال الشعانبي وسمامة، منطقة عسكرية في إطار حملات التمشيط التي تقوم بها السلطات التونسية ضد العناصر الإرهابية التي تتخذ من تلك الغابات أوكارا لنشاطاتها.تأسس مهرجان الرعاة عام 2012، بمبادرة من المركز الثقافي الجبلي بالمنطقة وإحدى الجمعيات البيئية، بهدف إيجاد تقاليد سياحية بديلة في القرى الواقعة عند سفوح الجبال بهذا الجزء من تونس المعروف بعراقته حيث كان في الماضي مهدا للحضارة الرومانية. كما يعتبر المهرجان أول تظاهرة من نوعها في العالم العربي تحتفي برعاة تونس وتصالح بينهم وبين الموروث الثقافي المتمثل بمخزون شفهي هائل من الغناء والشعر والسرديات، بالإضافة إلى منتجات زراعية وصناعات تقليدية ترتبط بتلك البيئة.
ساهم هذا المهرجان في تعزيز الدور الأساسي للرعاة في إعمار هذه الجبال الشاسعة وحمايتها من الإرهابيين، خصوصا بعد حادثة إقدام 20 عنصرا إرهابيا مسلحا في نوفمبر 2015 على ذبح راعي أغنام يبلغ من العمر 16عاما، وذلك في رسالة ترهيبية تحذيرية إلى باقي الرعاة الذين يتعاملون مع الجهات الأمنية والعسكرية.
اضطر فريق المركز، وقتها، إلى النشاط على سفح الجبل بعد أن وضع التصوّر الأولي للفعاليات داخل الجبل، في مغاراته الجميلة وفي شعابه وعلى هضابه وفي مواقعه الأثرية التي لم تستكشف بعد. وانطلقت تلك الدورة من المهرجان تحت شعار ” نعمْ.. أنا راعٍ.. وألفُ نعمْ”، وذلك تخليدا لقصيدة الشاعر الراحل عامر بوترعة، الذي قال هذه القصيدة ردا على مذيعة تلفزيونية كانت قد تعرضت لفئة الرعاة بالسخرية والتحقير من شأنهم.
توسعت نشاطات وفعاليات عيد الرعاة في غضون سنوات قليلة من تأسيسه، وأقام له حملة دعائية في العاصمة تونس، عبر مجموعة أصوات غنائية وشعرية رافقتها النايات المصنوعة من تلك الأحراش.
وكان المهرجان قد دأب على استقبال ضيوفه، وتكريم رواده، نهاية الربيع من كل عام بين قطعان الأغنام، تحت الخيام وفي المغارات، حيث يقف زواره على تلك الحياة البسيطة الوديعة رغم قسوة الظروف في تلك الجبال التي يريد الإرهاب تحويلها إلى مصدر تخويف وترهيب، مما يضطر بعض السكان إلى مغادرتها نحو الضواحي البائسة في المدن المكتظة.
ويعتزم القائمون على المهرجان تدارك تأجيل دورته هذا العام، مع استتباب الأمن والتنسيق مع الجهات التي ستعمل على حمايته وتأمين انعقاد دوراته في مواعيده المقررة.
مساهمة حيوية في تكوين الحضارة
وبالعودة إلى الوقوف عند فئة الرعاة فلا بأس من إسداء الاعتراف والتقدير لهؤلاء الملقبين بـ “حراس الشعر” في تاريخ الإنسانية وعند محطاتها في مختلف أنحاء العالم.
فلو فكرت الإنسانية في قيمة ما قدم لها الرعاة عبر تاريخها لأقامت لهم النصب والتماثيل – مع قطعانهم ـ في مداخل المدن قبل البوادي، وذلك اعترافا وتقديرا لإسهامات هذه الفئة في صناعة الحضارة.
قد يعتقد البعض أن الحضارة لا تقوم على ظهور الدواب وأن ” الحجر المتدحرج لا ينبت عليه العشب” فالإنسان لا يفكر في الزراعة والصناعة والعمران إلا عندما يستقر ويفكر فيما حوله بهدوء وتمعن ورغبة في التكيف، ولكن، من قال إن الحضارة هي فقط مظاهرها ومفرداتها؟
حسب الراعي فخرا أنه أول من فهم ورصد وتكيف مع لغة الحيوان والطبيعة فتعلم منها الكثير، ودجن الرياح في نايه ليحاكي غربة القصب ويؤسس لمفهوم الشعر كلحظة اندهاش أبدية أمام معجزة الحياة.
نماذج من إبداعات الرعاة
يدرك الراعي، وبالفطرة والسليقة، أن الدواب والغيوم والسواقي لا تحتاج الى إشارات مرور، ولا يلزمها نقود أو نميمة أو أوراق ثبوتية. كما لا يعنيه الوقوف أمام الواجهات التجارية أو في طوابير طالبي التأشيرات أمام السفارات الأجنبية غير أن تفاصيل كثيرة من مظاهر الحياة المدينية وترفها مدينة في وجودها الى الرعاة واليكم بعض النماذج:
ـ بنطال الجينز، هذا اللباس المفضل لدى رعاة البقر لمتانته ومناسبته لصهوات الخيول المطاردة للأبقار أو الجامحة والعصية على الترويض، جاء السيد لفيس ستراوس وهو أمريكي من أصل ألماني، وأدرك بحسه التجاري الماكر أن هذا القماش الأزرق المتين العجيب سوف يكون له شان عظيم فأقدم على إنشاء أول معمل لتصنيعه وتعميمه ليناسب جميع الفئات والأذواق والأزمنة وبات الجينز رمزا لكسر رتابة الأناقة الأرستقراطية وعنوانا للانفتاح الطبقي.. لا سيما أن تسميته تعود إلى مصدره في جنوى الإيطالية، بحسب ما يؤكد المؤرخون المعاصرون..
ـ الروك فور: هذه الجبنة الفرنسية ذات الطعم الآسر يعود اكتشافها وبالصدفة إلى راعي أغنام في مقاطعة من الريف الفرنسي تحمل الاسم ذاته. أخفى صاحبنا زوادته من الجبن العادي في مغارة ذات رطوبة خاصة وحينما عاد اليها بعد أيام وجد أن قطع الجبنة قد تعفنت ولكنه كان مضطرا لأكلها بدافع الجوع (أمهر الطباخين). ومن يومها أدمن الراعي إيداع أجبانه تلك المغارة الساحرة، وأدمن الفرنسيون من بعده، هذا المذاق العجيب، جعلوه على رأس ثقافتهم “الجبنية”، تباهوا به وصدروه إلى مختلف أصقاع الأرض.
ـ الغولف: رياضة أصحاب الصولجانات، يعود اكتشافها الى راع من الريف السكوتلندي يلهو بعصاه بين التلال ويقذف بطرفها الأحجار كي يفزع الأرانب في حفرها ومضاجعها. أحب بقية زملائه من الرعاة هذا اللون من التسلية وعمموها على أهالي القرية إلى أن تفطن إليها بعض الأثرياء من المتقاعدين فاحتكروها وجعلوها رياضتهم المفضلة.
كما أن أغلب الرياضات الأخرى من العاب القوى كالركض والسباحة والقفز والتسلق ورمي الأثقال ورفعها وفنون المبارزة والقتال كان يمارسها الرعاة دون حاجة الى احتفاليات وتتويجات، إضافة الى الفوتبول الذي كان يصنع من وبر الإبل أو شعر الماعز.
ـ القهوة هذا المشروب الأسود الساخن الذي أحيط بهالة من السحر والغموض فحرص الاتراك العثمانيون على عدم خروجه من قصور السلاطين وأحاطوا كيفية اعدادها بالسرية والكتمان فبالغوا في تحميص حبيباتها لمحو خصائصها الظاهرية ولكنها وصلت الى أقاصي الشرق عن طريق رجل هندي أخفى حبيباتها الخضراء تحت ثيابه كما اخترقت أوروبا عن طريق جاسوس نمساوي وما لبثت أن انتشرت كالإشاعة وأرست ثقافة بأكملها فارتبطت بأسماء لامعة من محبيها فسميت أنواع بأسمائهم مثل كازنوفا وفاغنر وتفننوا في إعدادها مثل تعديلها بخيط حليب مما جعلها تشبه ثوب كهنة الكابوتشينو (أصل تسمية هذا النوع من القهوة في البندقية). ولا ننسى الكاتب الفرنسي بلزاك الذي يقول إنه كان يشرب أربعين فنجانا منها كل يوم أثناء الكتابة. يعود الفضل في اكتشاف هذا المشروب الى راع حبشي (ومنهم من يقول يمني) لاحظ تغيرا في نشاط أغنامه عندما تقبل على تناول هذه النبتة. جرب ذلك على نفسه فاستساغ طعمها ومفعولها وكانت القهوة التي غزت الآفاق ومثلت في أرقى الصالونات.
ما أنبل تلك العلاقة التي تنشأ بين الراعي وقطيعه.. إنها على بساطتها، درس في كل شيء لأنها العودة الى الينابيع الأولى حيث الأسئلة الأولى، والحوار النقي مع الكون وتلك الغنائية الخلاقة التي جعلت الناقد والمفكر باختين يقول: إن كل الشعر هو إعادة انتاج للحالة الرعوية الأولى المتمثلة في “نشيد الإنشادّ” الوارد في العهد القديم من الكتاب المقدس.
قال راع لحبيبته الراعية في هذا الشرق القديم “شعرك قطيع ماعز يتسلق جبل جلعاد”.
يكفي أن نشير بأن مهنة الرعي قد تأتمتت في الدول الغربية وأصبح الراعي يستخدم المروحيات وأجهزة الاتصالات الحديثة، ولكنه لم يفقد روحه الرعوية التي ما زالت تعج بالشعر والحب.
مهرجان الرعاة في مراعي وجبال الوسط التونسي، إنجاز ثقافي وحضاري ينبغي دعمه والمحافظة على استمراره.. هذا ما يتفق عليه جميع المهتمين في تونس وخارجها.
ملاحظة
الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر عن آراء الكاتب (الكتّاب)، وليس المقصود منها التعبير عن آراء أو وجهات نظر فَنَك أو مجلس تحريرها.