المقدمة
أثناء حكم البايات الحسينيين، شهدت تونس في البداية فترة ازدهار، ولا سيما خلال فترة الثورة الفرنسية التي أدت إلى عجز اقتصادي في أوروبا تمت تغطيته جزئياً عن طريق الصادرات التونسية.
لكن في أوائل عشرينيات القرن التاسع عشر، بدأ الاقتصاد التونسي يتدهور. وفي أوائل القرن التاسع عشر، كانت تونس قد أوقفت عمليات القرصنة بموجب اتفاقية مع السلطات البريطانية والفرنسية. بالإضافة إلى ذلك، بدأت قوى أوروبية عديدة بتصدير منتجاتها إلى تونس، مما أدى إلى تغيير الأسعار المحلية بشكل أضرّ بالتجار التونسيين والسلطات الحاكمة. وبالتالي، لم يتمكن التجار المحليون من منافسة العديد من المنتجات الأوروبية، الأمر الذي صعّب عليهم بيع سلعهم وخدماتهم. بلغ النفوذ الأوروبي المتزايد ذروته عام 1881 حين فرضت فرنسا حماية على تونس استمرت حتى عام 1956. احتفظ البايات الحسينيون بمناصبهم تحت الحماية، غير أن دورهم أصبح مراسمياً إلى حد كبير.
الحماية الفرنسية
أعلنت روسيا الحرب على الأتراك عام 1877، مما أدى في النهاية إلى سقوط الإمبراطورية العثمانية. وبعد عقد من الزمن، اجتمعت القوى الأوروبية في مؤتمر برلين عام 1887 لمناقشة مستقبل الأراضي التي كانت للإمبراطورية العثمانية المهزومة. تقرر أن تحصل إيطاليا على ليبيا الحالية، في حين طالبت بريطانيا بالدعم الأوروبي لاحتواء الثوار في مصر المحتلة. وحصلت فرنسا على وعد بالسيادة على تونس، البلد المعروف بين القوى الاستعمارية بجودة مرافق الموانئ فيه وموقعه الاستراتيجي الهام على الحدود الجزائرية قرب جزيرة صقلية.
في البداية، حاولت فرنسا التوصل إلى اتفاق مع الباي الحاكم حول احتلالها لتونس، غير أن المفاوضات فشلت. أعطت الغارة التي شنتها قبيلة الخرومير التونسية على الجزائر الفرنسية عام 1881 حجةً لفرنسا لغزو تونس. وسرعان ما فرضت فرنسا سلطتها على جميع أنحاء البلاد بجيش قوامه 36,000 جندي.
في أيار/مايو عام 1881، أرغم محمد الثالث الصادق باي على توقيع معاهدة باردو التي فرضت سيادة فرنسا على تونس. وبعد التوقيع على المعاهدة، اندلعت الثورات في جميع أنحاء البلاد – رفض السكان الحكام الجدد وخضوع البايات لهم. فرضت اتفاقية المرسى (1883) حماية فرنسية على البلاد مع ضمان استقلال تونس الرسمي. وسُمح للباي بالبقاء في منصبه، وبقيت المعاهدات الثنائية القائمة سارية المفعول. إلا أن سلطة المقيم العام الفرنسي كانت لا تضاهى: كان رئيس الوزراء وقائد القوات المسلحة ورئيس الشؤون المالية في تونس، كما كان مخولاً بإعادة هيكلة المسائل القضائية والمالية. وسرعان ما أصبح البايات مجرّد وسيلة لوضع القرارات الفرنسية وإضفاء الشرعية عليها.
بحلول نهاية القرن التاسع عشر، تمكن الفرنسيون من إحكام سيطرتهم على تونس من خلال مجموعة من القوانين والتدابير. وأُرغم البايات على تعيين أشخاص مخلصين لا يعارضون الفرنسيين في مناصب رئيسية، مثل منصب رئيس الوزراء، بينما تمت إقالة الذين دعموا الثورة المناهضة للفرنسيين عام 1881. وضع المقيم العام مراتب إدارية تم الإعلان عنها لاحقاً من قبل الباي، لتقليص سلطة هذا الأخير في البلاد. وللسيطرة على السلطات المحلية بفعالية أكبر، سمح الفرنسيون للقادة وحكام المقاطعات والشيوخ بالاحتفاظ بمناصبهم، علماً أن فرنسا كانت تشتري ولاءهم بحكم الأمر الواقع. كما عينت السلطة الفرنسية “مراقبين مدنيين” مهمتهم الإشراف على حكام المقاطعات والشيوخ.
وعندما تمت السيطرة على جهاز الاستخبارات السرية في تونس في نهاية القرن التاسع عشر، أصبحت السيادة الفرنسية منيعة. على الصعيد الاقتصادي، وضعت الدولة الفرنسية مسألة تقليص ديون تونس على رأس أولوياتها، وذلك من خلال الإشراف على تحصيل الضرائب، وغير ذلك. نتج عن ذلك استقرار أموال الدولة. وعلى صعيد القضاء، تم إنشاء محاكم وقوانين فرنسية للفصل في قضايا المقيمين الأجانب والفرنسيين، فضلاً عن قضايا بين الأوروبيين والتونسيين. كما واصلت المحاكم الإسلامية عملها إلى جانب النظام القانوني الفرنسي للفصل في قضايا التونسيين. كما قام الفرنسيون بتحديث الاتصالات والتعليم في تونس.
فأصبحت كافة المدارس، بما في ذلك المدارس الإسلامية، تابعة لمدير التعليم العام الفرنسي. ولتقليص الفجوة التعليمية بين الفرنسيين والتونسيين، تم إدخال نظام تعليمي موحد. وتم تأسيس مدارس فرنسية عربية تدرّس باللغة الفرنسية واللغة العربية كلغة ثانية. وأصبحت المدرسة الصادقية الأكثر شهرة، والتي أسسها خير الدين باشا، والتي ضمنت لخريجيها تولي مناصب سياسية أو اقتصادية رفيعة المستوى بفضل نظام القبول التنافسي والمعايير التعليمية العالية.
حزب الدستور
بسط الفرنسيون سيطرتهم على الدولة التونسية بشكل فعال، على الرغم من وضعها كمحمية. في البداية، لم تكن للثورات الوطنية التي كانت تظهر من حين إلى آخر تأثير كبير. ولم تندلع أولى الثورات الكبرى بهدف تشكيل منتديات سياسية بديلة إلا في فترة ما بين الحربين العالميتين، عندما تأسس الحزب الحر الدستوري، المعروف باسم حزب الدّستور تيمناً بدستور تونس عام 1861.
وعندما طالب حزب الدستور عام 1920 بتشكيل حكومة دستورية تمنح للشعب التونسي الحقوق ذاتها، اعتقل الفرنسيون عبد العزيز الثعالبي زعيم الحزب. من خلال استخدام تدابير تقييدية مماثلة وإدخال بعض الإصلاحات الظاهرية بهدف استرضاء المعارضة، تمكن الفرنسيون من السيطرة الفعالة على خصوم الحكومة لبعض الوقت.
حزب الدستور الجديد
ترك المحامي حبيب بورقيبة حزب الدستور عام 1934، وأسّس مع بعض زملائه حزب الدستور الجديد الذي كان أكثر عدائية تجاه الفرنسيين. وسرعان ما حلّ حزب الدستور الجديد مكان الحزب القديم ونجح في استقطاب دعم جماهيري في تونس. وبعدما أدركت فرنسا خطورة هذا الحزب، قامت باعتماد أساليب قمع عنيفة، فاعتقلت زعماءه، مما زاد من نشاط الحزب.
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ازدادت المطالب المنادية باستقلال تونس، واضطرت فرنسا في النهاية إلى الإذعان نتيجة ضغوط القوى العالمية. ومع اقتراب الاستقلال، برزت خلافات ضمن حزب الدستور الجديد بين صالح بن يوسف، زعيم قومي وأمين عام الحزب، والحبيب بورقيبة زعيم الحزب، والذي كان يدعو إلى اعتماد نمط حياة غربي. دعم الأوروبيون بورقيبة، وأصبح أول رئيس جمهورية بعد الاستقلال عام 1957. وتم إرسال منافسه بن يوسف إلى المنفى، حيث اغتيل عام 1961.