وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

“شبه الجزيرة العربية” قبل الإسلام: أسرار خفية

في مطلع نوفمبر 2022، عثرت السلطات الإماراتية على أطلال دير مسيحي قديم على جزيرة قبالة ساحل الإمارات.

شبه الجزيرة العربية
يزور السائحون بقايا دير يعود تاريخه إلى القرن السابع ويقع في جزيرة صير بني ياس إحدى أكبر الجزر الطبيعية في دولة الإمارات العربية المتحدة. صورة لوكالة فرانس برس / كريم صاحب

دانا حوراني

في مطلع نوفمبر 2022، عثرت السلطات الإماراتية على أطلال دير مسيحي قديم على جزيرة قبالة ساحل الإمارات يُرجّح بناؤه قبل قرون من انتشار الإسلام في المنطقة.

يقدّم الدير، المتواجد على جزيرة السينية في إمارة أم القيوين، معلومات جديدة عن فترة المسيحية المبكرة في منطقة الخليج. ويُعتبر هذا الدير الذي يعود تاريخه إلى قبل 1400 عام، الثاني من نوعه في الإمارات.

ووفقًا للتأريخ الكربوني للعينات الموجودة في أساسات الدير، يُرجّح أنه قد بُني في الفترة الممتدة ما بين أوائل القرن السادس ومنتصف القرن السابع الميلادي. وبناءً على تخطيط الموقع، من المرجّح أن المصلين المسيحيين الأوائل كانوا يصلّون في كنيسة ذات ممر واحد. ويبدو أن الهيكل كان يحتوي على جرن معمودية وفرن لإعداد الرقائق أو الخبز المستخدم في طقس المناولة ووفقًا للمسؤولين، يُحتمل أنه كان يُوجد أيضًا مذبح ومكان لإعداد النبيذ في صحن الكنيسة.

عُثر على أول دير مسيحي في الإمارات في أوائل التسعينيات. وتاريخه يعود إلى الفترة الزمنية نفسها التي بُني فيها الدير المكتشف حديثًا في أم القيوين. ويقع الدير في جزيرة صير بني ياس التي تضمّ الآن محمية طبيعية وفندقًا فاخرًا قبالة ساحل “أبو ظبي”.

وفقاً للبيانات المتوفرة، كان أول ظهور للبشر في أم القيوين في وقت مبكر من العصر الحجري الحديث. وأضاف علماء الآثار الذين يعملون في موقع الدير أنه سوف يُغلق بغرض حمايته لاحتمال اكتشاف أسرار أخرى مدفونة تحت رمال الجزيرة.

وفي ظلّ غياب معلومات كثيرة عن شبه الجزيرة العربية قبل مجيء الإسلام، يرى الخبراء أن الاكتشاف الجديد يسلّط الضوء على رغبة منطقة الخليج في بناء سُمعة ثقافية تضيف إلى ثرواتها النفطية.

البدايات

أفاد تيموثي باور، الأستاذ المشارك في علم الآثار في جامعة الإمارات العربية المتحدة، والذي ساعد في فحص الدير المكتشف حديثًا، أن أعمال التنقيب قد توقفت حتى يناير، وبعد ذلك سيبدأ موسم جديد يستمر حتى بداية شهر رمضان في مارس 2023.

وبحسب باور، فإن الحكومة تعتزم تطوير جزيرة السينية لبناء فيلات راقية، لكنها طلبت من دائرة السياحة والآثار إجراء فحوصات لتحديد ما إذا كانت المخططات ستضر بأية مواقع أثرية.

وقال باور لفنك: “سيجري الآن توسيع الخطة لاستيعاب المزيد من المشاركين لأننا تلقينا المزيد من التمويل من وزارة الثقافة والشباب. كما أننا نعتزم بدء أعمال الحفر في قرية قريبة من الدير”.

وبحسب باور، تقع القرية على بعد 500 متر من الدير، وسوف تكشف أعمال التنقيب أيهما قد وُجد أولاً، القرية أو الدير. وسوف يتحقق الفريق من هذا الأمر من خلال دراسة أوجه التشابه المعمارية التي اكتُشفت في الكنائس والأديرة الأخرى في منطقة الخليج العربي. ووفقًا لباور، يوحي تصميم الدير المعماري إلى أن الرهبان كانوا يعيشون في منازل منفصلة من أجل الخلوات الروحية المنتشرة حول الدير.

وأضاف أن طراز الدير شائع في بلاد الشام ويكشف كيف شيّدت تلك الأديرة القبائل المسيحية المحلية التي أحضرت معها الشعائر والمعتقدات والإيمان المسيحي من بلاد الشام إلى شبه الجزيرة العربية.

وأوضح باور: “عندما نزل القرآن، كان غالبية السكان من المسيحيين واليهود، ما أرسى أساس التوحيد. لذلك علينا البحث في ما جاء قبل الإسلام إذا أردنا أن نفهم تطوّره”.

وادّعى عالم الآثار أن خزان المياه المكتشف، والذي كان يُستخدم في المعمودية، يتفق والكتابات الآرامية السريانية التي تصف كيف كان يرتحل الرهبان من العراق وسوريا إلى المناطق الصحراوية سعيًا إلى تبشير الوثنيين بالمسيحية في شبه الجزيرة العربية.

وقال: “لقد ضاع جزء كبير من تاريخ شبه الجزيرة العربية الخاص بالمجتمعات المسيحية في المنطقة التي كانت ذات يوم تقطنها أعراق متعددة قبل ظهور الإسلام وتحوّل منطقة الخليج إلى بؤرة انتشار الإسلام”.

شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام

اعتنق عرب شبه الجزيرة العربية ديانات عديدة، وذلك استنادًا إلى أدلة من المواقع الأثرية ومخطوطات اكتُشفت في المنطقة من فترة ما قبل الإسلام. تضمّ شبه الجزيرة العربية عددًا كبيرًا من المواقع التي سبقت فترة ظهور الإسلام، إذ تحتوي على كومات من الحجارة، ومقابر، وصفوف من الحجارة المرتفعة القديمة.

وكان المشركون يعبدون أصنامًا عديدة، وكان لكل قبيلة إله تعبده. وحتى الكعبة في مكة، التي بناها النبي إبراهيم وابنه إسماعيل لعبادة الله حسب المعتقد الإسلامي، كانت ذات يوم تحتوي على 360 من الأصنام والأوثان الخشبية والحجرية.

أما الزنادقة، فيُقال إنهم تأثروا بعقيدة الثنوية الفارسية في القرن الثالث الميلادي. فقد كانوا يؤمنون بوجود إلهين يمثّلان الخير والشر، أو النور والظلام، وتدور بينهما حرب مستمرة من أجل السيادة.

وبعدما دمّر الرومان القدس عام 70 ميلادية، أجبر عدد كبير من اليهود المتواجدين فيها على مغادرة أراضي فلسطين وسوريا، فانتقل كثير منهم إلى منطقة الحجاز نحو عام 957 قبل الميلاد

وبعدما تركزت أكبر تجمعاتهم في يثرب وخيبر وفدك وأم القرى، دخل كثير من العرب في اليهودية.

بالإضافة إلى ذلك، تحوّل الغساسنة في شمال شبه الجزيرة العربية إلى المسيحية على يد الرومان بعدما هاجروا إلى الحجاز واستقرّوا فيه في القرن الثالث الميلادي. كما جاء الغزاة الحبش من معقلهم في نجران ونشروا المسيحية في اليمن.

وتأكّد وجود الديانات التوحيدية في العديد من النقوش التي تعود إلى أواخر مملكة سبأ (بعد 389 ميلادية)، إذ وُجد أن العرب واليهود والمسيحيين كانوا يعبدون الإله نفسه الذي يُدعى “رحمن”.

فقد ذُكر اسم رحمن، أو الرحمن، في نقش يعود إلى فترة سيادة مملكة سبأ في القرن الرابع الميلادي، وقد وُجد في مأرب في اليمن. ويكشف ذلك النقش عن أوجه تشابه بين الاسم المذكور فيه واسم الله الرحمن في الإسلام.

فقد وُجدت كلمات كثيرة تصف رحمن بأسماء الله الحسنى في الإسلام، بالإضافة إلى نقش واحد يقول: “…اسم رحمن وابنه المسيح، المنتصر…”

وقبل ظهور الإسلام، كان في شبه الجزيرة العربية موحدون يُدعون الحنفاء يتّبعون دين إبراهيم عليه السلام، لذلك لم يعبدوا الأصنام. وكان آل النبي محمد من الحنفاء، وكذلك كان علي بن أبي طالب، رابع الخلفاء وصهر النبي.

الآثار الباقية

تباطأ انتشار المسيحية بعد عام 676 ميلادية، لا سيما في المنطقة المحيطة ببيت قطراية التي تشمل كل شمال شرق شبه الجزيرة العربية. يزعم المؤرخون أن هذا يتفق مع غياب ذكر المسيحيين في الروايات الموثقة اللاحقة لمنطقة الخليج.

يُعتقد أن مدينتي القصور في الكويت والخرج في السعودية، وجزيرة صير بني ياس في الإمارات كانت تحت الحكم المسيحي منذ نهاية القرن الثامن وحتى بداية القرن التاسع الميلادي. وقد حُددت تلك المواقع عن طريق الخزف الذي يعود تاريخه إلى نهاية القرن السابع أو بداية القرن الثامن حتى القرن التاسع.

وتتشابه الكنائس المكتشفة في تلك المواقع في التصميم وطريقة البناء، ويبدو أنها كانت جزءًا من دير. إلا أن المختصين يرون أن المخطوطات السريانية والعربية ما تزال بحاجة إلى مزيد من الفحص، إذ لم تُحدد بعض المصادر حتى الآن.

قالت هيلين صادر، أستاذة علم الآثار في الجامعة الأمريكية في بيروت، لفنك إن شبه الجزيرة العربية ظلّت لفترة طويلة أرضًا غير مستغلة مليئة بكنوز أثرية تنتظر من يكتشفها.

وأضافت: “دول الخليج تنفتح على العالم من خلال السماح بإجراء مثل هذه الحفريات وتسهيل عمل الخبراء”.

ونتيجةً لذلك، ترى صادر أن هذا سيوضح لنا السياق الذي ظهر فيه الإسلام، فهو “لم يظهر في الفراغ”.

بل إن الرسالة التي جاء بها النبي محمد كانت نتيجة عملية طويلة من التطور الثقافي الذي يمكن اكتشافه من خلال الأدلة التاريخية الخفية في شبه الجزيرة العربية.

وقالت صادر: “يحتاج الخبراء إلى دراسة الاكتشافات لتحديد ما إذا كان اكتشافًا وحيدًا، أو ما إذا كان مرتبطًا باكتشافات أثرية أخرى”.

وتابعت: “تعايشت اليهودية والمسيحية والثقافات الوثنية في شبه الجزيرة العربية، لكننا بحاجة إلى معرفة المزيد عن تلك القبائل المنسية التي أثّرت في تاريخ منطقة الخليج”.

منطقة الخليج اليوم

وفقاً لصادر، يجد علماء الآثار حاليًا صعوبة كبيرة في استخراج التصاريح والإشراف على عمليات التنقيب. ومع تزايد اهتمام السلطات المحلية بتاريخ منطقة الخليج، تتنبأ أستاذة علم الآثار بمزيد من الاكتشافات المذهلة في المستقبل.

وأضافت صادر أن المنطقة بإمكانها أن تصبح وجهة سياحية وثقافية مهمة في العالم العربي إلى جانب كونها مركز أعمال غنيًا بالنفط.

ورغم أن الكويت فيها العديد من الكنائس، خلاف السعودية التي لا تحتوي على أية كنيسة، فأحيانًا ما تطفو على السطح بعض التوترات بين المسيحيين والمسلمين في قضايا بناء الكنائس والحرية الدينية في تلك البلدان.

وفي الوقت نفسه، بدأت الإمارات في بناء أول كنيس يهودي في البلاد في “أبو ظبي” عام 2021 كجزء من مبادرة أوسع تموّلها الدولة لبناء مسجد وكنيسة وكنيس في مكان واحد.

كما تُوجد في الإمارات العديد من الكنائس التي بُنيت للزائرين الأجانب من جميع الطوائف والقارات.

وفقًا لسدرة شهباز، عالمة الاجتماع المقيمة في الإمارات، تهدف الدولة إلى أن تصبح رمزًا للتسامح من خلال تعزيز التنوع.

وقالت: “توفير الأمان للوافدين والأقليات يمهد الطريق إلى تكوين مجتمع أكثر إنتاجية”.

تتوقع شهباز أن تستمر السلطات الإماراتية في استكشاف طرق جديدة لدمج الجماعات الدينية الأخرى إلى جانب الإسلام لتعزيز مكانتها في المنطقة اجتماعيًا وثقافيًا واقتصاديًا.