في السنوات الأخيرة، نجحت تركيا في التغلب على بعض أكثر الأوقات السياسية اضطراباً والإنقسامات الإجتماعية في تاريخها. ومع ذلك، في حين وضع الرئيس رجب طيب أردوغان وحزبه، حزب العدالة والتنمية، بصمة لا تمحى على البلاد، إلا أنه في العديد من مجالات الحياة السياسية والثقافية، أوضح الأتراك العاديون مقاومتهم لقيادة أردوغان، وربما يعدّ المجال الأكثر غرابةً من بينها، موسيقى الراب.
موسيقى عصرية، مقاومة عصرية
في عام 2019، مع إنتشار إحدى أغاني الراب كالنار في الهشيم وتوجيه تهمٍ جنائية لمغني راب آخر، اكتسب موسيقى الراب شهرةً باعتبارها وسيلةً بغيضة ولكن فعّالة بشكلٍ مدهش بالنسبة للأتراك للتعبير عن سخطهم من الوضع الحالي في البلاد.
ففي سبتمبر، أصدر مجموعة من مغني الراب الأتراك أغنية “سوسامام” (لا يمكنني الصمت)، وهي أغنية مدتها 15 دقيقة مقسمة إلى مقاطع يتطرق فيها كل مغني راب لفشلٍ اجتماعي ما أو سياسي مختلف. تتراوح القضايا المطروحة ما بين العدالة والمحسوبية وصولاً إلى نظام التعليم، ومعالجة أوجه القصور لدى كل من الحكومة والسكان بشكلٍ عام. ومن المثير للاهتمام، أن الأغنية تطرح تساؤلاتٍ على المستمعين عما فعلوه لعلاج مشاكل تركيا، مما استفز الجمهور على التحرك.
ويبدو أن أغنية “لا يمكنني الصمت” أعدّت لمخاطبة صمت العديد من الأتراك ووسائل الإعلام التركية حول ما يجري من انتهاكاتٍ لا حدود لها لحقوق الإنسان التي يُسمح بها دون حسيبٍ أو رقيب في السنوات الأخيرة.
ففي الوقت الذي تسيطر فيه الحكومة على جميع وسائل الإعلام الوطنية تقريباً، يشعر العديد من الأتراك بأنه لا يوجد مساحة كافية للمعارضة في المجال العام. فقد كشفت دراسة حديثة أجراها معهد رويترز أن 65% من الأتراك يخشون التعبير عن آرائهم على شبكة الإنترنت، وهي أعلى نسبة من بين 37 دولة.
فقد تمكنت أغنية “لا يمكنني الصمت” من الإلتفاف على هذا الحصار الإعلامي، مما يفسر دون أدنى شك اكتسابها مثل هذه الشعبية. وبعد أقل من شهر من إطلاقها، حظيت الأغنية بحوالي 30,6 مليون مشاهدة على اليوتيوب.
أنقرة ترد
وكما هو متوقع، لم تترك الحكومة مثل هذه الإنتقادات العلنية والشعبية دون رد. ففي حين لم يكن هناك أي رد فعلٍ رسمي تجاه فناني الراب حتى الآن، إلا أن بعض عناصر الشعب التركي عبروا عن مشاعرهم.
تحت هاشتاج # Sustunuz – “لقد التزمت الصمت” – اتهم أنصار حزب العدالة والتنمية مغني الراب (ومؤيديهم) بالتزامهم الصمت خلال الكفاح ضد حزب العمال الكردستاني ومحاولة الانقلاب عام 2016، التي استخدمتها الحكومة لتعزيز مكانتها كديمقراطية وباعتبارها فريسةً للجهات الفاعلة والتهديدات الخارجية.
في الواقع، في إشارةٍ إلى الأجواء المشحونة سياسياً في تركيا، أعلن ديفلت باهجيلي، زعيم حزب الحركة القومية والشريك الحالي لحزب العدالة والتنمية الحاكم، أن الذين يقفون وراء شريط فيديو الراب كانوا يتطلعون لتنفيذ انقلابٍ بأنفسهم. لم يقدم أي دليلٍ آخر لدعم إدعائه.
ومع ذلك، استخدمت الحكومة في الأشهر الأخيرة طرقاً تتجاوز وسائل التواصل الاجتماعي لوقف مثل هذه الرسائل المعارضة.
كبح المعارضة من المصدر
ألقي القبض على مغني الراب عمر سركان إيبكسي أوغلو، المعروف أيضاً باسم إيزيل، في أواخر مايو 2018 بتهمة تشجيع تعاطي المخدرات عبر موسيقاه. وبموجب قانون العقوبات التركي، فإن التهمة تعني أنه سيواجه خمس سنوات على الأقل في السجن. وبعد فترة وجيزة، بدأ وسم #FreeEzhel (أطلقوا سراح أيزيل) يكتسب شعبيةً على تويتر. تمت تبرئته في أوائل عام 2019، بعد أن وجدت المحكمة عدم وجود عناصر للجريمة.
أصدر الشاب البالغ من العمر 28 عاماً ألبومه المبتكر Muptezhel – بمعنى “متعاطي المخدرات” باللغة التركية العامية – في عام 2018. ويقدم الألبوم مزيجاً فريداً من موسيقى التراب والريغي وإيقاعات الأناضول. وفي أغنية “Geceler” – “الليالي” – يشيد بالموسيقيين المتنوعين مثل أسطورة الراب الأمريكي توباك وبطل موسيقى الأرابيسك التركية، أورهان كنجباي.
ومع ذلك، فإن التمرد الاجتماعي لإيزيل لا يقتصر على المخدرات. فقد أثار الألبوم الذي صدر على خدمة الموسيقى الرقمية Spotify، بدلاً من إصدار ألبوم غنائي تقليدي، ضجةً وطنية. جمعت الأغنية المنفردة الرئيسية “الليالي” نحو 42 مليون مستمع على موقع يوتيوب في حين أن الفيديو الخاص بأغنية”Sehrimin tadi” (مذاق مدينتي) حقق ما يقرب من 70 مليون مشاهدة.
كانت أغنية “الليالي” واحدة من أكثر الأغاني التي تم الاستماع إليها في تركيا عام 2018، إذ تقدم بعضاً من أكثر الرسائل السياسية صراحةً، إلى جانب الفيديو الذي يظهر صوراً لعلي إسماعيل قرقماز وبعض الشباب الآخرين الذين قُتلوا خلال احتجاجات حديقة جيزي عام 2013. فقد كان شباب إسطنبول – الأتراك من جيل إيزيل – في قلب الاحتجاجات، التي تعدّ واحدةً من أكبر الاحتجاجات ضد حكم أردوغان الذي دام قرابة عقدين من الزمن.
الراب من تركيا أم ألمانيا؟
ترتبط موسيقى الراب التركية بروابط وثيقة مع مشهد الراب الألماني في التسعينيات والمجتمع التركي الألماني. فقد خرجت أول فرقة راب تركية ذات شعبية واسعة من ألمانيا. عكست أغاني فرقة كارتل تهميش الجالية التركية في ألمانيا، مما عبر عن الإحباط الذي شعر به الكثير من المهاجرين الأتراك في ذلك الوقت.
فقد صدرت أول أغنية راب بكلماتٍ تركية عام 1991 بعنوان “Bir Yabancinin Hayati” من قِبل فرقة King Size Terror ومقرها ألمانيا، والتي تناسب معظم أسلوب الغناء المتبع اليوم. وعلى الرغم من أن فرقة King Size Terror لم يحظوا بشعبيةٍ كبيرة على الإطلاق، إلا أن مغني الراب في الفرقة، AK، انضم إلى فرقة كارتل، لتعمل على صياغة مشهد الراب التركي على نحوٍ أوسع.
بيد أن دور الراب كأداة للأفكار والأفعال المتمردة لم يقتصر على تركيا ومغني الراب الأتراك، فقد حاز مغني الراب السوري أمير على شهرةٍ بسبب كلماته التي تهاجم النظام والجماعات الجهادية التي دمرت حربها وطنه، مستخدماً موسيقى الراب كوسيلةٍ للاحتجاج الثقافي والأمل في التغيير، تماماً كما يواصل مغني الراب في تركيا فعله.