سلطت الاعتقالات الجماعية، والقمع الاجتماعي، وتطهير المؤسسات الرسمية في تركيا منذ محاولة الإنقلاب الفاشل في 15 يوليو 2016، الضوء على القضية الشائكة لحقوق الإنسان في تركيا. ولكن، في حين يُعتبر هذا الاهتمام العام الجديد أكثر من مبرر، لا ينبغي الاعتقاد أنّ انتهاكات حقوق الإنسان ظاهرة جديدة في بلدٍ ناضل لعقود من أجل حقوق الأقليات وضد الانتهاكات التي ترتكبها القوات الحكومية.
ولأكثر من قرن، نغصّ أحد أقدم انتهاكات حقوق الإنسان في تركيا الحديثة على المكانة الدولية للبلاد والوعي العام. فلا تزال الإبادة الجماعية للأرمن عام 1915، وصمة عارٍ على جبين الحكومة التركية، كما أنّ الرغبة بين الأتراك لتذكر هذا الفصل الدموي في تاريخهم، تكاد تكون شبه معدومة. ومع ذلك، مثلت إراقة الدماء التي عززت الهيمنة العرقية للأتراك سابقةً لعلاقة الأناضول مع الأقليات.
فقد شهدت انتخابات عام 2002 لحزب العدالة والتنمية في عهد الرئيس رجب طيب أردوغان تحسناً في حقوق الأقليات، حيث بات الأرمن قادرين على تدريس لغتهم في المدارس، ومُنح العلويون الشيعة المزيد من الإعتراف، فضلاً عن تسرب الدفء للعلاقات بين أنقرة والأكراد في تركيا. ومع ذلك، في عام 2007، أرديّ هرانت دينك، وهو صحفي تركي أرمني بارز ومدافع عن حقوق الإنسان، قتيلاً في أحد شوارع اسطنبول برصاص أحد القوميين الأتراك. وفي حين يعود الفضل في تحسن حقوق الأقليات إلى حدٍ كبير لإنضمام تركيا الذي طال انتظاره إلى الإتحاد الأوروبي، إلا أن الوضع تدهور في السنوات الأخيرة، وبخاصة بالنسبة للأكراد.
فقد بدى أن اتفاق السلام لإنهاء الصراع المستمر منذ عقود بين حزب العمال الكردستاني الكردي المسلح والحكومة ممكناً عام 2013. ومع ذلك، انتهى وقف إطلاق النار الذي استمر لعامين في منتصف عام 2015، مما أعاد تأجيج العنف. كما شهد شهر سبتمبر من عام 2015، معارك ضارية بين المسلحين الأكراد والجيش التركي في عدة بلدات في جنوب شرق البلاد. وخلال موجة العنف هذه وحظر التجول اللاحق، قتلت الحكومة العشرات من المدنيين العزل، وذلك وفقاً لمحامين ونشطاء محليين. أعقب ذلك موجات من الاعتقالات، حيث ألقيّ القبض على أكثر من ألفيّ شخص لصلاتهم المزعومة بحزب العمال الكردستاني.
ولطالما كانت الصحافة التركية هدفاً للقمع الحكومي، إذ تزايدت هذه الموجة بشكلٍ كبير منذ الصيف. بالإضافة إلى ذلك، تُصنف المنظمة الدولية المعنية بمراقبة حرية الصحافة، فريدوم هاوس، الصحافة التركية باعتبارها “غير حرة،” إذ احتلت البلاد المرتبة 151 من أصل 180 بلداً من حيث حرية المعلومات عام 2016.
ولكن بدلاً من حظر المنشورات- بالرغم من أن أنقرة لم تتوانى عن إغلاق عددٍ من المنافذ الإخبارية الكردية- تبنت الحكومة سياسة وضع المجموعات الإعلامية تحت وصاية الحكومة. أدى هذا إلى طرد الصحفيين الناقدين، وتغيير الخطوط التحريرية لتصبح أكثر ملائمةً لمواقف حزب العدالة والتنمية. وعلاوة على ذلك، تعرضت المجموعات الإخبارية التابعة لرجل الدين التركي المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية، فتح الله غولن، الذي كان يوماً ما حليفاً لأردوغان، لضغوطاتٍ جمة على وجه الخصوص. واليوم، بات هناك نقصٌ بالأصوات الإنتقادية.
وللأسف، لم يقتصر القمع على الرقابة. ففي عام 2015، هاجمت الحشود العنيفة مكاتب صحيفة حرييت المعارضة مرتين، وفي كلا المرتين، حصل هذا في أعقاب خطابٍ عدائي لأردوغان ضد الصحيفة اليومية، كما قُتل ثلاثة صحفيين خلال العام بسبب عملهم الصحفي. وفي مايو 2015، بدأت الحكومة تحقيقاً بتهمة الإرهاب في صحيفة معارضة بارزة أخرى، جمهوريت، لكشفها أنّ جهاز المخابرات التركية (ميت)، كان يزوّد الجماعات الإسلامية المتشددة في سوريا بالسلاح. تبع ذلك إلقاء القبض على المحرر، جان دوندار، وصحفي بارز في نوفمبر من نفس العام. فقد نجى دوندار، أثناء حديثه للصحفيين خارج جلسة المحكمة عام 2016، بأعجوبة، من محاولة اغتيالٍ على يد قومي متطرف.
ومع انتقال العالم إلى الإنترنت، توجهت أيضاً أنظار الحكومة التركية إلى هذا العالم الافتراضي، إذ أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي ساحة معركةٍ رئيسية في النضال من أجل حرية التعبير. فقد شهد اتجاهٌ جديد عام 2015 صدور عدة أوامر من المحاكم بالاحتجاز قبل الشروع بالمحاكمات لمتهمين بإهانة أردوغان على وسائل التواصل الاجتماعي. وفي إحدى الحالات على سبيل المثال، اعتقل رجلٌ لمقارنته الرئيس بشخصية غولوم من ملحمة سيد الخواتم، وهي جريمة تنتهك المادة (301) من الدستور التركي، والتي تجرم أي شخص “يُهين علناً المسؤولين في الدولة، وحكومة جمهورية تركيا، والهيئات القضائية للدولة.”
وفي الأشهر الست الأولى من عام 2015، كانت السلطات التركية مسؤولةً عن ما يقرب من ثلاثة أرباع جميع الطلبات إلى تويتر لإزالة التغريدات وحظر الحسابات. وفي مارس 2016، سمحت تشريعات جديدة للوزراء بالطلب من مديرية الإتصالات حجب المحتوى على الإنترنت أو إزالته في غضون أربع ساعات، وهي سُلطة تُستخدم بانتظام لطمس الأنباء عن العمليات العسكرية أو الهجمات الإرهابية.
وعلى صعيدٍ آخر، لا يزال قبول مجتمع المثليين مسألة صعبة، بالرغم من استضافة اسطنبول أكبر موكب فخر للمثليين في الشرق الأوسط كل عام. ولا يزال الرهاب من المثلية أمراً شائعاً، حتى وإن كانت المثلية الجنسية غير قانونية، فلا يزال التمييز المؤسسي حاضراً، إذ يُعفى المثليون الرجال من الخدمة العسكرية، إلا أنه يتوجب عليه تقديم “دليل” على ميولهم الجنسية، والتي غالباً ما تكون على شكل فيديوهات أو صور فوتوغرافية في أوضاع جنسية شاذة. ويحق لأرباب العمل طلب رؤية البطاقة الخضراء التي تصدر للمجندين المعفيين من الخدمة العسكرية، إلا أن مثليي الجنس يحملون بطاقات إعفاءٍ من الخدمة وردية اللون، مما يُسهل المزيد من التمييز.
فالحقوق الأساسية، مثل التجمع السلمي، مستهدفة أيضاً في القانون إلا أنها مرفوضة على أرض الواقع. فقد مكنت مجموعة كبيرة من التعديلات التشريعية في مارس 2015 الاحتجازات التعسفية في الاحتجاجات، ومنحت الشرطة، تقريباً، حرية استخدام حتى القوة المُفضية للموت ضد المتظاهرين. ففي الحملة ضد مظاهر المعارضة، رُفض في عام 2016 منح منظمي مظاهرات عيد العمال التقليدية في ساحة تقسيم في اسطنبول الإذن بتنظيم المظاهرة للسنة الرابعة على التوالي.
وفي يونيو 2016، وللعام الثاني على التوالي في تاريخه الممتد على مدى 12 عام، منعت قوات الشرطة وفضت، بشكلٍ غير متوقع، مسيرة الفخر للمثليين في اسطنبول، حيث أنحت باللائمة على عدم وجود إخطارٍ رسمي والتهديد بمظاهراتٍ مضادة. واستخدمت قوات الأمن الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه ورصاص الفلفل لقمع المتظاهرين والمدعويين للموكب بعنف. وباتت اليوم هذه القوة النمط الحاضر عند تصادم السُلطات مع المتظاهرين في شوارع تركيا، حيث رفض محافظ اسطنبول، في وقتٍ لاحق، منح الإذن لإجراء تحقيقٍ جنائي في سلوك الشرطة.
وعلاوة على ذلك، فإن الإفلات من العقوبة على انتهاكات الشرطة، وحتى اتهامات التعذيب الموجهة إلى قوات الأمن الداخلي، منتشرة على نطاقٍ واسع. فقد كان الافتقار المذهل إلى المساءلة السمة البارزة لاحتجاجات جيزي بارك الجماهيرية عام 2013، إذ لا تزال العدالة غائبة عن مقتل المتظاهر الفتى ذو الـ14 عاماً، والإعتداء الصارخ الذي تعرض له هاكان يمان من قِبل ضباط شرطة اسطنبول. تم تصوير يمان وهو يتعرض للضرب والحرق وتُرك ليموت من قِبل ضباط الشرطة، إذ فقد يمان إحدى عينيه إلا أنه نجى من الهجوم. وبعد عامين ونصف، لم يتم التعرف على هوية ضباط الشرطة في الفيديو. ومع ذلك، كان هناك بعض المساءلة لتورط الشرطة في موت متظاهرين اثنين، إلا أنّ لجنة شكاوى الشرطة المستقلة التي وُعد بتأسيسها منذ فترة طويلة، لم تظهر إلى العلن حتى الآن، والأمل ضئيلٌ بتطبيق مثل هذه الرقابة ذات المغزى.
فقد جذبت احتجاجات جيزي بارك ضغوطاتٍ دولية غير مرحب بها للتأثير على تركيا، حيث جاء رد أردوغان عنيفاً بتلفيقاتٍ غيّرت القاعدة الأساسية لمثل هذه القضايا. كما اتهم نشطاء في مجال البيئة بـ”تأسيس منظمات إرهابية،” وأدين الأطباء بـ”تشويه مكانٍ للعبادة،” بعد تقديم العلاج للحالات الطارئة من المتظاهرين المصابين في الاحتجاجات في أحد المساجد.
بل إن تحديات حقوق الإنسان في تركيا، موطن أكثر من مليونيّ لاجىء سوري وطريق عبور رئيسي للمهاجرين إلى أوروبا، تمتد حتماً إلى غير الأتراك. وتبقى حماية ظروف وحقوق اللاجئين وطالبي اللجوء والمهاجرين غير متساوية في أحسن الأحوال، بما في ذلك بالنسبة إلى التعليم والعمل، في حين أن العمل دون السن القانونية في المصانع التي تستغل العمال، أصبح أمراً من شبه المستحيل القضاء عليه.
فقد أغلقت السلطات الحدود السورية-التركية أمام اللاجئين في مارس 2015، ووردت عدة حالات عن قيام حرس الحدود بإطلاق النار وقتل الفارين السوريين، مما أثار انتقاداتٍ دولية.
ولمواجهة تزايد أسلمة المجتمع التركي في ظل حكم حزب العدالة والتنمية، يرى كثيرون أن حقوق المرأة تتآكل باطراد. ففي عام 2004، أوقف غضبٌ شعبيٌ عارم حكومة أردوغان من إصدار قانونٍ يُجرم الزنا، فضلاً عن محاولةٍ مماثلة لإضفاء الشرعية على زواج القاصرين، فيما أوقفت احتجاجاتٌ عمت البلاد عام 2016 قراراً بالعفو عن العنف ضد الأطفال. وخارج المجال القانوني، كان هناك اعتراضات متزايدة، صريحة ومباشرة، حتى من قِبل وزراء في الحكومة، تتطالب بسيطرة النساء على أجسادهنّ ونمط حياتهنّ. ففي الجمهورية التي لطالما دافعت عن المساواة بين الجنسين، وقدست القوانين المناهضة للتمييز والمنصوص عليها في دستور عام 1923، لا يبشر الإنخفاض الحاد في عدد النساء النواب ووعد أردوغان بحقوق للمرأة من “الطراز التركي،” بالخير بالنسبة لمستقبل البلاد.
فالسُلطات المرتبطة بحالة الطوارىء التي يُشرعها أردوغان منذ محاولة الإنقلاب في يوليو 2016 تنطوي على كل شيء حتى إلغاء حماية حقوق الإنسان. واليوم، تدفع تركيا ثمناً باهظاً لعدم الاستقرار وعدم اليقين الذي عانت منه البلاد ولا تزال تواجهه، إذ تبدو غير قادرةٍ على السيطرة على الدافع لقمع القضية التي ميزت الفترات الأكثر عنفاً في تاريخ الجمهورية.