عمليًا، يصعب اليوم وضع أيّة حلول لأزمة قطاع الكهرباء في أي دولة عربيّة، قبل ضمان الاستقرار الأمني، الكفيل بحماية مختلف الإستثمارات التي يمكن القيام بها في هذا القطاع.
علي نور الدين
يُعاني العديد من الدول العربيّة من أزمات مزمنة في قطاع الكهرباء، ما ينعكس في ازدياد ساعات التقنين الطويلة خلال كلّ أيّام السنة. وفي طليعة قائمة الدول التي تعاني اليوم من عجز في إنتاج الكهرباء، تبرز كل من سوريا ولبنان والعراق والسودان واليمن وليبيا، فيما تعاني دول أخرى من انقطاعات محدودة خلال فترات محددة من السنة. وبينما تتنوّع أسباب أزمات الكهرباء بحسب كل دولة، تتشارك جميع هذه الدول نتائج هذه الظاهرة القاسية، على المستويات المعيشيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة.
يُعتبر قطاع الكهرباء من القطاعات الحسّاسة، التي تتصل بحاجات الأسر الأساسيّة والاقتصاد المحلّي. وهذا ما يتطلّب عادة تحسين إدارة هذا القطاع، أو على الأقل تنظيمه والإشراف عليه، من قبل الحكومات مباشرةً. في الوقت نفسه، يحتاج هذا القطاع بالذات إلى إنفاق استثماري ضخم، لبناء المعامل وصيانتها وزيادة إنتاجيّتها. كما يحتاج إلى استقرار مالي ونقدي، لتأمين مصادر الطاقة بشكل مستمرّ، وبخاصّة عند الاعتماد على مصادر الطاقة غير المتجددة بشكل شبه حصري.
هذه العوامل الثلاثة، هي تحديدًا ما يجعل قطاع الكهرباء ضحيّة الاضطرابات النقديّة والماليّة والأمنيّة الأولى، التي تؤثّر على ملاءة الحكومات وقدرتها على بناء المعامل والبنية التحتيّة وتشغيل المرافق العامّة. وهنا، تتفاقم مشاكل القطاع عندما تعجز الاقتصادات المأزومة عن استقدام الاستثمار الخارجي، لإنتاج الكهرباء وفق نماذج الشراكة ما بين القطاعين العام والخاص. وعند حصول انهيارات في سعر صرف العملة المحليّة، تبرز سريعًا مشاكل التمويل، التي تضرب القدرة على تأمين المحروقات اللازمة لتشغيل المعامل، حتّى في حال توفّر البنية التحتيّة.
في الوقت نفسه، يحتاج قطاع الكهرباء في العادة إلى تخطيط حكومي طويل الأمد، بما يشمل استهداف معدّلات الإنتاج المطلوبة في المستقبل، وترقّب الزيادات في معدلات الإستهلاك. كما يحتاج إلى خطط دقيقة لتحديد مواقع وأنواع المعامل المطلوبة، ونوعيّة البنية التحتيّة وشبكات التوزيع والربط الكهربائي التي تحتاجها البلاد. وفي حال اللجوء إلى نماذج الشراكة بين القطاعين العام والخاص، تحتاج الحكومات إلى وضع دفاتر شروط الإستثمار، لإجراء المناقصات الشفّافة.
هذا العامل بدوره يجعل قطاع الكهرباء ضحيّة الفشل الإداري الأولى، إضافة إلى سوء الحوكمة على مستوى الدولة. كما يدفع القطاع عادة ثمن سوء التخطيط، والفساد في إجراء المناقصات والتلزيمات، وعدم فعاليّة الإدارة العامّة. وبشكل عام، تترهّل ظروف قطاع الكهرباء في الدول التي تعاني من تجاذبات سياسيّة، أو تقلّبات سريعة في الحكم، ممّا يؤدّي إلى تخبّط كلّ هذه السياسات.
اختلفت الأسباب التي أدّت إلى ترهّل قطاع الكهرباء، في المنطقة العربيّة، بحسب ظروف كلّ بلد، بين تلك المتصلة بالخضات الأمنيّة أو نقص السيولة والأزمات الاقتصاديّة، وتلك التي ارتبطت بسوء الإدارة والفشل في تنظيم القطاع، ووضع الخطط الفاشلة. لكن في كلّ الحالات، كانت النتيجة الحد من حصول المقيمين على أدنى حقوق الإنسان البديهيّة، مثل الحق في حفظ الطعام بشكل صحّي، أو الحصول على المياه بشكل منتظم، أو حتّى القدرة على التعلّم.
وللتمكّن من فهم درجة استعصاء مشكلة التغذية الكهربائية، في كل البلدان العربيّة التي تعاني من مشاكل في قطاع الكهرباء، يجب أوّلًا دراسة أسباب هذه الأزمة في كل من هذه الدول، ومستويات تقنين الكهرباء فيها.
لبنان: تقاطع عدة عوامل
في لبنان، جاءت أزمة الكهرباء نتيجة تقاطع عدّة عوامل، أبرزها: ضعف الطاقة الإنتاجيّة نتيجة عدم كفاية المعامل، وتهالك البنية التحتيّة المخصصة لتوزيع الكهرباء على المناطق، والأزمة النقديّة التي أدّت إلى عدم توفّر التمويل لشراء المحروقات للمعامل. كما ساهم في إنتاج هذه الأزمة ضعف معدلات الجباية، وارتفاع معدلات الهدر والتعديات على الشبكة الكهربائيّة، بالإضافة إلى سوء الإدارة الماليّة في القطاع.
في الوقت الراهن، تقتصر قدرة المعامل اللبنانيّة الإنتاجيّة القصوى على نحو 1600 ميغاواط ، بينما تبلغ حاجة لبنان للطاقة نحو 3000 ميغاواط، ما يعني أن المعامل الموجودة لا تستطيع أن تؤمّن سوى 13 ساعة يوميًا من التغذية للمشترك كحد أقصى. ويعود ضعف القدرة الإنتاجيّة الى التجاذبات السياسيّة التقليديّة في لبنان، والخلافات المزمنة على مواقع المعامل، وعلى هويّة الشركات التي ستجني أرباحًا كبيرة من بناء واستثمار هذه المعامل.
المشكلة الأهم، هي أنّ المعامل الموجودة أساسًا لا تعمل اليوم إلّا بنحو ربع طاقتها القصوى، ما خفّض معدلات التغذية إلى أقل من أربع ساعات يوميًا للمشترك. فبسبب الأزمة النقديّة التي تمر بها البلاد، تراجعت قدرة المصرف المركزي على بيع الدولارات لمؤسسة كهرباء لبنان، مقابل الليرات اللبنانيّة التي تجبيها المؤسسة من المشتركين كتعرفة. مع الإشارة إلى أنّ نصف التغذية الحاليّة تأتي اليوم بفضل شحنات من الفيول التي يؤمّنها العراق للبنان، مع تسهيلات بالدفع تسمح للدولة اللبنانيّة بتسديد قيمة الفيول بالليرة اللبنانيّة، بعد فترة سماح تتخطّى السنة.
بالنتيجة، وبحسب أرقام هيومان رايتس واتش، تعاني أسرة واحدة من أصل كل 5 أسر، من شريحة ال20% من السكّان الأكثر فقرًا، من عدم قدرتها على الحصول على كهرباء المولّدات الخاصّة. بمعنى آخر، تقتصر التغذية الكهربائيّة التي تستفيد منها هذه الأسر على الساعات الأربع التي تؤمّنها مؤسسة كهرباء لبنان. وبما أنّ أشتراكات المولدات الخاصّة باتت مقوّمة بالدولار النقدي، وفي ظل تدهور سعر صرف الليرة اللبنانيّة، أفادت 9 من كل 10 أسر لبنانيّة شملها المسح بأن تكلفة الكهرباء أثّرت على قدرتها على تأمين الخدمات الأساسيّة الأخرى.
العراق: الاعتماد على الغاز الإيراني المستورد
يُعتبر العراق من البلدان المصدّرة للنفط. كما يمتلك احتياطات ضخمة بالعملة الصعبة، تجاوز حجمها حدود ال100 مليار دولار في بدايات العام 2023، نتيجة ارتفاع سعر برميل النفط. وتجدر الإشارة إلى أنّ العراق حقق خلال العام 2022 فائضًا بقيمة 18.5 مليار دولار في ميزانيّة الدولة العامّة ، نتيجة عائدات تصدير النفط التي تجاوز حجمها ال115 مليار دولار خلال تلك السنة. لهذا السبب بالتحديد، لم تعترض الدولة العراقيّة أيّة مشاكل في توفير السيولة المطلوبة لشراء المحروقات لمعاملها، أو تجهيز المعامل الجديدة.
ورغم كل ذلك، تعاني المحافظات العراقيّة من ارتفاع ساعات تقنين التغذية الكهربائيّة، وصولًا إلى مستويات تلامس ال12 ساعة في اليوم الواحد. أمّا السبب، فهو سوء إدارة قطاعي الكهرباء والبترول محليًا، حيث تم تجهيز معامل الكهرباء للعمل على الغاز، في حين أنّ الدولة العراقيّة لم تجهّز أيّة منشآت تسمح باستثمار واستخراج الغاز الموجود في الحقول العراقيّة. وفي الوقت الراهن، تعتمد الدولة العراقيّة على الغاز المستورد من إيران لتشغيل معاملها، بينما تنقطع هذه الإمدادات خلال فترات متعددة من السنة، ما يتسبب بزيادة ساعات التقنين الكهربائي.
ومن المعلوم أن انقطاع الكهرباء عن العديد من المحافظات العراقيّة شكّل أحد أسباب الاضطرابات السياسيّة المتكرّرة، والتي أفضت في الكثير من الأحيان إلى احتجاجات صاخبة في الشارع. كما يربط جزء واسع من الشارع العراقي اليوم ما بين نفوذ طهران في العراق، وتأخّر الحكومات العراقيّة في اعتماد الحلول التي تنهي اعتماد العراق على الغاز الإيراني.
السودان: أزمة نقديّة وشح في العملة الصعبة
في السودان، ترتبط أزمة الكهرباء بالتضخّم وارتفاع أسعار المحروقات المستوردة، نتيجة تدهور سعر صرف العملة المحليّة، بالإضافة إلى شح احتياطات النقد الأجنبي التي تسمح بتمويل استيراد المحروقات. كما تعاني الدولة من تراجع كميات السيولة المتوفّرة، لصيانة محطات الكهرباء وتوفير قطع الغيار لها. وهذا ما ساهم تدريجيًا في تهالك الشبكة الكهربائيّة، وتراجع كفاءتها. أمّا الأهم، فهو نقص الاستثمارات في الشبكة الكهربائيّة، ما يجعل تغطيتها تقتصر على 40% من الأراضي السودانيّة.
حاليًا، تنظّم الشركة السودانيّة لتوزيع الكهرباء جداول لتوزيع التيار الكهربائي، بمستويات تقنين تقارب الست ساعات للمشترك في اليوم الواحد. وتراهن الشركة على مجموعة من المشاريع المستقبليّة لتقليص معدلات التقنين، ومنها بعض مشاريع إنتاج الكهرباء عبر الطاقة الشمسيّة. كما تراهن على مشروع الربط الكهربائي مع مصر، الذي سيسمح للسودان بشراء فائض الكهرباء من المعامل المصريّة.
سوريا واليمن وليبيا: المخاطر الأمنيّة وتدمير شبكات الكهرباء
تتشابه الظروف التي أدّت إلى انهيار قطاع الكهرباء في كل من اليمن وسوريا وليبيا، والتي تتصل جميعها بالأحداث الأمنيّة والاشتباكات العسكريّة، وتعرّض المعامل وشبكات الربط والتوزيع للدمار.
وهذه الدول الثلاث، عانت جميعها أيضًا من تدهور وضعيّة ميزانيّاتها العامّة خلال فترات الاضطرابات السياسيّة، بالإضافة إلى الانقسامات الداخليّة والحروب الأهليّة، وتعدد الحكومات التي تدّعي مشروعيّة سيطرتها على أجزاء مختلفة من البلاد. وكما هو متوقّع، حالت جميع هذه الأحداث دون التمكّن من وضع خطط لإعادة إعمار شبكات الربط المدمّرة، كما منعت حتّى تلزيم بناء المعامل الجديدة لشركات أجنبيّة وفق نموذج الشراكة ما بين القطاعين العام والخاص.
وهكذا، تعاني المناطق السوريّة حاليًا، من تطبيق جدول تقنين تصل معدلاته الى حدود 20 ساعة في اليوم، بينما ارتفعت هذه المعدلات في ليبيا لتصل إلى حدود ال18 ساعة متواصلة في اليوم الواحد، خلال صيف العام 2022. أمّا اليمن، فتقتصر ساعات التغذية فيه على نحو ست ساعات في اليوم الواحد، فيما تعاني مناطق يمنيّة واسعة من انقطاع التغذية الكهربائيّة بشكل كلّي.
الحلول المطلوبة
عمليًا، يصعب اليوم وضع أيّة حلول لأزمة قطاع الكهرباء في أي دولة عربيّة، قبل ضمان الاستقرار الأمني، الكفيل بحماية مختلف الإستثمارات التي يمكن القيام بها في هذا القطاع. كما يُفترض أن تتوفّر بالدرجة الثانية القيادة السياسيّة الفاعلة القادرة على وضع الخطط المتكاملة على المدى البعيد، بما فيها تلك التي تلحظ حاجات الإنتاج والتوزيع في كل منطقة. وعلى هذه القيادة السياسيّة إجراء الإصلاحات الهيكليّة اللازمة في ميزانيّاتها العامّة، لضمان الحد الأدنى من الإنفاق الحكومي على البنية التحتيّة في كلّ القطاعات الحيويّة، ومنها قطاع الكهرباء.
وبعد القيام بهذه الخطوات التمهيديّة، يمكن وضع الآليّات اللازمة لضمان مشاركة القطاع الخاص في قطاع الطاقة، وخصوصًا في مجال إنتاج الطاقة النظيفة والمتجددة. وهذا الأمر سيتطلّب وضع أطر شفّافة للحوكمة، كما سيتطلّب وضع الأطر التشريعيّة المطلوبة لرعاية شراكات القطاعين العام والخاص. ولتأمين المزيد من الاستثمارات، يجب توجيه المصارف والقطاع المالي، لتعزيز التسهيلات التي يتم تقديمها إلى الشركات العاملة في هذا القطاع، من أجل ضمان قدرة القطاع الخاص على المساعدة في تلبية الطلب المحلّي على الطاقة.