علي نور الدين
أعلنت إيران عن اكتشافها حقلا ضخما للغاز الطبيعي، شمالي حقل “بارس الجنوبي”، بمخزون يتجاوز حجمه التريليون متر مكعّب، فيما تشير تكهّنات الخبراء الإيرانيين إلى احتمالات وجود مخزن آخر أضخم في نفس المنطقة. وهذا المخزون الذي تم اكتشافه حديثًا، سيُضاف إلى احتياطات البلاد الكبيرة من الغاز الطبيعي، والتي يتجاوز حجمها الإجمالي ال34 تريليون متر مكعّب. وهذه الاحتياطات توازي بحجمها نحو 17.8% من احتياطات الغاز العالميّة، ما يضع إيران في المرتبة الثانية عالميًّا –بعد روسيا- من حيث احتياطات الغاز التي تملكها. تجدر الإشارة إلى أنّ إيران مازالت تملك إمكانات هائلة لاكتشافات غازيّة جديدة، في المناطق التي لم يتم العمل على التنقيب فيها بعد، مثل بعض مساحات بحر قزوين وشمال شرقي إيران ووسط كافير وبعض المناطق المحيطة بمضيق هرمز. وهذه الإمكانات من شأنها في المستقبل تضخيم احتياطات إيران من الغاز بشكل إضافي، في حال تسجيل اكتشافات تجاريّة وازنة فيها، وهو ما تراهن عليه إيران اليوم لتحصين اقتصادها.
أمّا من حيث النفط، فإيران تملك أساسًا احتياطات ضخمة من هذه المادّة، بما يُقدّر بنحو 158 مليار برميل، ما يوازي وحده 9% من احتياطات النفط الخام العالميّة. وبذلك، تحل إيران في المرتبة الرابعة عالميًّا، من حيث حجم احتياطاتها النفطيّة، بعد كل من فينزويلا والسعوديّة وكندا. وهذه الاحتياطات مرشّحة أيضًا للزيادة، شأنها شأن احتياطات الغاز الطبيعي، بالنظر إلى وجود المساحات الشاسعة التي لم يتم التنقيب فيها عن النفط والغاز بعد.
على أنّ إمكانات البلاد في هذا القطاع لا تقتصر على الاحتياطات ومكامن النفط والغاز المحتملة فقط، بل تشمل أيضًا موقع إيران الإستراتيجي. فإيران تتوسّط مجموعة مهمّة من التكتلات الاقتصاديّة والديموغرافيّة المستوردة للنفط والغاز، وهو ما يمكن أن يسمح لها بتسويق هذه المواد بكلفة منخفضة نسبيًّا. وعلى أي حال، من المعروف أن النظام الإيراني لطالما حاول تاريخيًّا لعب دور مركزي على مستوى إمدادات الطاقة في المنطقة، في محاولة لاستثمار الموقع الجغرافي للبلاد، واكتساب دور استراتيجي على مستوى تجارة النفط والغاز.
تعزيز القوّة التفاوضيّة الإيرانيّة
أهم الفرص التي يمكن أن يستفيد منها النظام الإيراني من خلال احتياطات الغاز المكتشفة حديثًا، والتي ستُضاف إلى الاحتياطات المُكتشفة أساسًا، باتت ترتبط بالتطوّرات الدوليّة الأخيرة، وتحديدًا تلك التي تلت الحرب الأوكرانيّة. فبعد خفض إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا، وخشية الأوروبيين من انقطاع الغاز الروسي بشكل تام عن قارّتهم، باتت احتياطات الغاز الضخمة –بما فيها المكتشفة حديثًا- تعطي إيران قوّة تفاوضيّة إضافيّة في وجه الأوروبيين. مع الإشارة إلى أنّ الدول الأوروبيّة، وبمعزل عن احتمالات انقطاع الغاز الروسي عنها، باتت تبحث أساسًا عن مصادر بديلة عن الغاز الطبيعي الروسي، لتنويع موارد الطاقة التي تستخدمها وتقليص اعتمادها على روسيا، وهو ما يرفع من الأهميّة الإستراتيجيّة للغاز الإيراني. أما ارتفاع أسعار الغاز في الأسواق العالميّة، نتيجة الحرب الأوكرانيّة وبفعل ارتفاع الطلب على المادّة، فبات يزيد من أهميّة هذه الاكتشافات من ناحية الإيرادات الماليّة التي يمكن أن يؤمّنها. مع العلم أن أسعار الغاز الطبيعي قاربت حدود ال 2350 دولار لكل ألف متر مكعّب في السوق الأوروبي، للمرّة الأولى منذ شهر آذار/مارس الماضي.
هكذا، سيكون بإمكان النظام الإيراني استثمار مخزونه الضخم من الغاز، والذي أُضيفت إليه الاكتشافات الجديدة اليوم، من أجل البحث عن دور سياسي أوسع وأقوى على المستوى الدولي، في ظل حاجة الأسواق الماسّة لهذه المادّة في هذه المرحلة بالتحديد. أمّا أهم ما في الموضوع، فهو أنّ ارتفاع أسعار الغاز الحاصل على مستوى العالم، سيسمح للنظام الإيراني بتطوير الكثير من حقول الغاز التي لم يجرِ تطويرها في السابق لارتفاع كلفة الاستخراج منها، حيث بات من المجدي اليوم استثمار هذه الحقول بعد ارتفاع عوائد بيع الغاز. وهكذا، سيسمح ارتفاع أسعار الغاز بزيادة إنتاج البلاد السنوي، وتوسيع قاعدة استثماراتها في هذا القطاع في المستقبل.
في كل الحالات، وكما هو واضح، لن تقتصر الفرص المتاحة أمام إيران بعد الحرب الأوكرانيّة على الجانب المرتبط باحتياطات الغاز الطبيعي. فإيران ستسفيد أيضًا من الارتفاع الحاصل مؤخّرًا في سعر برميل النفط، والذي يتراوح اليوم عند مستويات تتجاوز المئة دولار للبرميل الواحد، بعدما اقتصر متوسّط سعر برميل النفط خام برنت خلال العام الماضي على 70.68 دولار، وعلى 41.96 دولار خلال العام 2020. وهكذا، ومع الارتفاع السريع في أسعار برميل النفط العالميّة، بإمكان إيران أن تزيد من عوائدها النفطيّة، وأن ترفع فرص استثمار الحقول التي لم تبدأ باستثمارها بعد. ومع إلحاح الدول الصناعيّة الكبرى ومطالبتها دول أوبيك+ بزيادة إنتاجها من النفط، تتزايد في الوقت نفسه قوّة إيران التفاوضيّة في وجه هذه الدول، إلى جانب شركائها في أوبيك+ من الدول المنتجة للنفط، كالسعوديّة وروسيا. مع العلم أنّ الولايات المتحدة بالتحديد تقود منذ العام الماضي حملة دوليّة واسعة النطاق، لإقناع دول مجموعة أوبيك+ بزيادة إنتاجها من النفط، في محاولة للجم الارتفاع في سعر برميل النفط، الآخذ بالارتفاع تدريجيًّا منذ العام الماضي.
أهميّة التطورات الأخيرة بالنسبة لإيران
في الواقع، يمكن القول أن إيران تحتاج في هذه المرحلة بالتحديد إلى كل أوراق القوّة هذه، وبشكل ملح، سواء من ناحية العوائد الماليّة الناتجة عن ارتفاع أسعار الغاز والنفط، أو من ناحية تعزيز الدور السياسي والقوّة التفاوضيّة نتيجة تبعات الحرب الأوكرانيّة.
فمن ناحية العوائد الماليّة، تبدو إيران مهتمّة للغاية بزيادة إيرادات تصدير الغاز والنفط، بوجود كتلة ضخمة من المشاكل الاقتصاديّة التي تمر بها البلاد، وفي طليعة أزمة التضخّم، التي أدّت إلى زيادة أسعار السلع الغذائيّة بنسب تتراوح بين 100% و150%. وهذا التضخّم، نتج أولًا من تدهور سعر صرف التومان الإيراني إلى مستويات قياسيّة، نتيجة تراجع السيولة المتاحة بالعملات الصعبة، بالإضافة إلى تقليص الدعم الذي تقدّمه الحكومة للسلع الأساسيّة. وهكذا، ستتمكّن إيران من استعمال التدفقات النقديّة الناتجة عن زيادة عوائد تصدير النفط والغاز، لضبط أزمة سعر صرف عملتها المحليّة أولًا، واستعادة قدرتها على دعم الحاجات المعيشيّة الماسّة لمواطنيها. مع الإشارة إلى أنّ إيران تملك أساسًا برامج للدعم النقدي المباشر للأسر الأكثر حاجة، لكنّها تحتاج إلى زيادة إيراداتها لتوسيع نطاق الأسر المستفيدة من هذا الدعم.
في الوقت نفسه، تبدو إيران بحاجة ماسّة إلى هذه الإيرادات الإضافيّة بالعملة الصعبة، التي ستنتج عن زيادة أسعار المحروقات، نتيجة حاجتها لتمويل الصراعات المتعددة التي تنخرط فيها على مستوى المنطقة. فإيران مازالت حتّى اللحظة تقدّم الدعم المالي واللوجيستي المباشر لميليشيا الحشد الشعبي في العراق، حتّى بعد اندثار تنظيم داعش وتقلّص مخاطره. وفي اليمن، تستمر إيران بإرسال العتاد العسكري والدعم المالي لميليشيا الحوثي، التي تخوض بدورها حرب ضروس ضد المملكة العربيّة السعوديّة والسلطة المحليّة المدعومة منها. كما تواظب إيران إلى تقديم دعم مالي وعسكري ضخم لتنظيم حزب الله في لبنان، فيما تستمر بدعم مجموعة من المليشيات المحليّة في سوريا التي تعمل لدعم نظام بشّار الأسد هناك.
وهكذا، ومع توسّع نشاطات وتدخلات إيران العسكريّة في المنطقة، وتوسّع الأدوار الأمنيّة التي يلعبها الحرس الثوري من خلال هذه الأنشطة، تتزايد حاجات الحرس الثوري التمويليّة بالعملة الصعبة، وهو ما تؤمّنه في العادة إيرادات بيع النفط والغاز التي ارتفعت مؤخرًا. مع العلم أن تنظيم الحرس الثوري بالتحديد، الذي ينخرط في جميع هذه الصراعات العسكريّة الإقليميّة، يملك دورا أساسيا على مستوى تسويق وبيع جزء كبير من النفط والغاز الإيرانيين، بالنظر إلى حاجاته إلى عوائد عمليّات البيع لتمويل نشاطه.
فرص وإمكانات ضائعة: سوء الإدارة والعقوبات
رغم كل هذه الفرص التي تتيحها اكتشافات الغاز الجديدة، واحتياطات الغاز والنفط الضخمة المتوفّرة، تعاني إيران من مشاكل كبيرة تعيق الاستفادة من كل هذه الإمكانات. لا بل يمكن القول إن إيران، وبالرغم من امتلاكها كل هذه الاحتياطات الضخمة من الغاز، مازالت تواجه حتّى اليوم خطر التحوّل إلى دولة مستوردة للغاز، بدل الاستفادة من عائدات تصدير هذه المادة. هذا الخطر بالتحديد، هو ما حذّر منه وزير النفط الإيراني جواد أوجي في تشرين الثاني/نوفمبر من العام الماضي، حين انتقد تقاعس بلاده عن القيام بالاستثمارات اللازمة في قطاعي الغاز والنفط. يومها حذّر أوجي من إمكانيّة اضطرار البلاد إلى استيراد هذه المواد خلال سنوات قليلة فقط، بسبب انخفاض معدلات إنتاج ومعالجة وتكرير النفط والغاز، نتيجة تردّي أوضاع القطاع من ناحية التجهيز والمنشآت.
ببساطة، وعلى مدى الأعوام الماضية، ونتيجة سوء الإدارة المحليّة والعقوبات المفروضة على إيران، تقاعست إيران عن تخصيص الميزانيّات اللازمة لصيانة مصافي ومنشآت النفط والغاز القائمة، وحفر الآبار الجديدة، وتطوير الحقول القائمة، والتوسّع بعمليّات التنقيب في الحقول المحتملة. وهذه العمليّات، تُعتبر من المسائل المطلوبة في العادة للحفاظ على معدلات الإنتاج القائمة، بالتوازي مع استهلاك المنشآت والمعدات الموجودة، ونضوب بعض الآبار القديمة. ولهذا السبب بالتحديد، باتت إيران بحاجة إلى ما يقارب ال80 مليار دولار أميركي، بحسب أرقام وزارة النفط الإيرانيّة نفسها، لتلبية حاجات هذا القطاع الاستثماريّة، والتعويض عن التقصير الحاصل في السنوات السابقة.
السبب الأوّل لهذه المشكلة، كما أشار وزير النفط نفسه، يكمن في إهمال السلطات لتطوير القطاع، بسبب تركيز الإنفاق العام على التعامل مع الأزمات الاقتصاديّة الداخليّة، واستعمال عوائد بيع النفط والغاز لتمويل أنشطة الحرس الثوري الإقليميّة. أمّا السبب الثاني، فيتعلّق بحظر النفط والغاز الإيرانيين، بسبب العقوبات، وهو ما قلّص من عوائد إيران من بيع هذه المواد، وحدّ من قدرتها على الاستثمار في بنية القطاع التحتيّة. فبحسب أرقام رئيس نقابة مصدري النفط والغاز والبتروكيماويات الإيرانيّة، حميد حسيني، تصل خسائر إيران السنويّة في قطاع النفط والغاز، نتيجة العقوبات المفروضة على البلاد، إلى حدود ال62 مليار دولار. وأشار حسيني إلى أن إيران تضطر إلى تسويق محروقاتها بحسومات تتراوح بين 10 و12%، للتمكّن من بيع هذه المواد في ظل العقوبات، فيما تتكبّد إيران خسائر تتراوح بين 10 و15 مليار دولار بسبب تكاليف شحن إضافيّة ترتبط بالتملّص والتهرّب من العقوبات.
حلول بديلة
في ظل هذه الظروف، تحاول إيران إيجاد بدائل لتأمين الاستثمارات اللازمة في قطاع النفط والغاز، والاستفادة من الظروف الدوليّة التي تسمح باستعمال احتياطاتها لزيادة عوائدها الماليّة وحضورها السياسي. ولهذا السبب مثلًا، قامت إيران بتوقيع اتفاقيّة بقيمة 40 مليار دولار مع شركة “غاز بروم” الروسيّة، لتطوير مجموعة كبيرة من حقول النفط والغاز، ونقل التكنولوجيا المتعلّقة بالقطاع. كما تنص الاتفاقيّة على تكليف “غاز بروم” ببناء وصيانة مجموعة من أنابيب الغاز، ومقايضة المشتقات النفطيّة لتأمين حاجة إيران من بعض هذه المشتقات، بالإضافة إلى تنفيذ بعض المشاريع الإستراتيجيّة الأخرى.
وجميع مندرجات الاتفاقيّة، تتركّز على منح شركة “غاز بروم” حق استثمار بعض الحقول الإيرانيّة والاستفادة من المواد المستخرجة، مقابل سداد جزء من عائدات الاستثمار لإيران، والتزام “غاز بروم” بإنجاز بعض المشاريع البتروليّة لمصلحة إيران، كمد الأنابيب، وهو ما يسمح لإيران بتطوير القطاع والاستثمار فيه دون تكبّد نفقات ماليّة من ميزانيتها. وفي الوقت نفسه، ستكون إيران قد حمّلت شركة “غاز بروم” مسؤوليّة تصدير جزء كبير من المشتقات النفطيّة والغاز إلى الأسواق العالميّة، وهو ما يحرّر إيران من عبئ إيجاد الأسواق وتحمّل حسومات وخسارات من قيمة الغاز والنفط المستخرجين، للتمكن من بيعهما في ظل العقوبات الدوليّة.
هذا النوع من المشاريع والشركات هو ما تراهن عليه إيران، بالتوازي مع عملها الدؤوب لإيجاد تسوية نهائيّة للملف النووي، من خلال المفاوضات الجارية في فيينا. وفي خلاصة الأمر، وفي حال التوصّل إلى تسوية نهائيّة لهذا الملف، سيكون بإمكان طهران العودة إلى أسواق النفط والغاز الدوليّة بزخم وقوّة، بعد رفع العقوبات الأميركيّة المفروضة عليها. وفي هذه الحالة، سيكون بإمكان أوروبا الاعتماد على الغاز الإيراني المُسال، أو حتّى على ربط شبكة الأنابيب الإيرانيّة بشبكات الأنابيب التي تصل إلى أوروبا، لتأمين جزء من حاجة أوروبا من الغاز، وتنويع مصادر الطاقة التي تستفيد منها، بعد توسيع استثمارات إيران في حقول الغاز الخاصّة بها. وهنا سيكون بإمكان شركة توتال الفرنسيّة العودة إلى السوق الإيرانيّة، لاستكمال عملها في تطوير هذه الحقول. وهكذا، وبمجرّد رفع العقوبات عن إيران في حال تفعيل الاتفاق النووي، ستتمكّن إيران من استثمار الوضع الناشئ عن الحرب الأوكرانيّة لصالحها من الناحية الماليّة، وخصوصًا من ناحية العلاقات التجاريّة مع دول الاتحاد الأوروبي.