وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الذكاء الاصطناعي في الشرق الأوسط: آفاق كبيرة وأسواق جديدة

تسعى العديد من البلدان جاهدة لدمج الذكاء الاصطناعي في الشرق الأوسط في إداراتها العامة وقطاعاتها الاقتصادية لزيادة الإنتاجية والكفاءة.

الذكاء الاصطناعي الشرق الأوسط
الروبوت” أميكا” يرحب بالزوار خلال معرض جيتكس العالمي للتكنولوجيا في مركز دبي التجاري العالمي (DWTC) في إمارة الخليج، في 12 أكتوبر، 2022. كريم صاحب / وكالة الصحافة الفرنسية

علي نور الدين

تتسابق دول العالم على دمج تقنيّات الذكاء الاصطناعي في مختلف القطاعات الاقتصاديّة والإدارات العامّة، بهدف زيادة كفاءة وإنتاجيّة اقتصاداتها. في منطقة الشرق الأوسط، يبدو من الواضح أن العديد من الدول تسعى إلى المنافسة في هذا المجال، وخصوصًا المملكة العربيّة السعوديّة والإمارات العربيّة المتحدة والكويت والأردن وتركيا.

خلال الأشهر الماضية، أثار إطلاق تطبيق “شات جي. بي. تي.” اهتمام الرأي العام، وخلق عاصفة من التعليقات المتفاجئة بقدرة التطبيق على استخدام الذكاء الاصطناعي في كتابة النصوص والإجابة عن الأسئلة، وتقديم تحليلات خلّاقة –ولو مبسّطة وبدائيّة- للمسائل التي يطرحها المستخدم.

إلا أنّ هذا التطبيق لم يكن سوى جزء صغير جدًا من التقدّم الهائل الذي حققته تقنيّات الذكاء الاصطناعي خلال السنوات الماضية، في جميع المجالات العلميّة والاقتصاديّة، بعدما ظلّ هذا المفهوم أسير التقدّم العملي البطيء عقودًا.

فرص في جميع القطاعات الاقتصاديّة

يقوم مفهوم الذكاء الاصطناعي على تمكين الآلات وبرامج الحاسوب من محاكاة بعض قدرات العقل البشري الذهنيّة، ومنها اكتساب القدرة على التعلّم والتحليل والاستنتاج واستخلاص النتائج بسرعة فائقة، وبناءً على قواعد بيانيّة ضخمة.

وبفضل التقدّم السريع في هذا النوع من التقنيّات خلال الفترة الماضية، تتوقّع دراسات شركة PWC أن يسهم الذكاء الاصطناعي بحلول العام 2030 في 45% من مجمل الزيادة في الأرباح الاقتصاديّة، الناتجة عن تطوير السلع والخدمات. كما تتوقّع أن تبلغ مساهمة الذكاء الاصطناعي في الاقتصاد العالمي نحو 15.7 تريلون دولار بحلول ذلك العام.

في المجال الطبّي وصناعة الأدوية مثلًا، دخلت تقنيّات الذكاء الاصطناعي على خط تمكين العلماء من خلق خوارزميّات تسمح بتحليل بنية البروتينات، ما يساعد في تصميم أدوية مخصصة للتعامل مع أنواع محددة من الاختلالات في بنيتها. مع الإشارة إلى أنّ التمكّن من القيام بهذه التحليلات، وبناءً على قواعد بيانيّة ضخمة جدًا، ظلّ معضلة واجهها العلماء على مدى أكثر من 50 عامًا.

في قطاع شركات التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، تتوقّع مراكز الأبحاث أن يكون العام 2023 عامًا مفصليّا، على مستوى توسّع شركات هذا القطاع بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي لتحليل الصور والفيديوهات والنصوص، ومن ثم توجيهها للمستخدمين بحسب أنماط مشاهداتهم السابقة. وكانت وسائل التواصل الاجتماعي قد بدأت أساسًا بالاعتماد على هذه التقنيّات خلال السنوات الماضية، إلا أنّ تطوّر الأبحاث في هذا المجال سيُتيح تحليل محتويات المستخدمين بشكل أعمق وأكثر دقّة.

كما يتوقّع كثيرون أن تسهم تقنيّات الذكاء الاصطناعي في تطوير أساليب ومناهج التعليم، وتحرير المدرّسين من عبء الكثير من المهام المكتبيّة كالتحضير والتصحيح والتقييم وغيرها. وتشير الدراسات إلى أنّ الذكاء الاصطناعي سيسمح بتحقيق قفزات كبيرة في النشاط الصناعي، وخصوصًا في الجانب المتعلّق بتقييم الفرص وتحليل بيانات السوق وتوقّع اتجاهات الطلب، بل وحتّى التعامل مع شكاوى وطلبات العملاء، وتصنيع المنتجات المصممة لكل عميل على حدة.

باختصارٍ، قد يغيّر الذكاء الاصطناعي قريبًا شكل وإنتاجيّة وربحيّة القطاعات الاقتصاديّة كافّة، فيما تستثمر الشركات الكبرى حول أنحاء العالم لتلقّف الفرص التي ستوفرها هذه التقنيّات. في المقابل، يبدو من الواضح أن العديد من حكومات الشرق الأوسط قد بدأت بتلمّس أهميّة هذه الفرص أيضًا، مما دفعها للاستثمار بسخاءٍ في هذا المجال بالتحديد.

الذكاء الاصطناعي ضمن رؤية السعوديّة 2030

تعتمد المملكة العربيّة السعوديّة على رؤية السعوديّة 2030 منذ العام 2016، التي تشمل مجموعة واسعة من الخطط والبرامج الوطنيّة الهادفة إلى تحويل المملكة إلى قوّة استثماريّة عالميّة، والتخلّص من اعتمادها على النفط كمحرّك اقتصاديّ أساسيّ. وكجزء من هذه الرؤية بالتحديد، وضعت المملكة الإستراتيجية الوطنيّة للبيانات والذكاء الاصطناعي، التي هدفت إلى دمج تقنيّات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات بسائرِ الخطط المتعلّقة بكل قطاع من القطاعات الاقتصاديّة.

ضمن إطار هذه الإستراتيجية، استحدثت المملكة الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي، والتي تم تكليفها بتنفيذ الإستراتيجية والإشراف على تنفيذ جميع المبادرات المتعلّقة بها. كما تولّت الهيئة إدارة أكاديميّة سدايا، الهادفة إلى تأهيل موظفي القطاعين العام والخاص، لتطوير قدرتهم على استخدام الذكاء الاصطناعي ودمجه ضمن المهام التي يقومون بها في الإدارات العامّة والقطاع الخاص.

في الوقت الراهن، تستهدف الهيئة تطوير منصّات البيانات الضخمة وأدوات تحليلها، بالتنسيق مع القطاع الخاص، في سبيل اعتماد تقنيّات الذكاء الاصطناعي في خمسة مجالات أساسيّة:

القطاع الحكومي: عبر ربط جميع بيانات المؤسسات والإدارات العامّة، وتحديث وسائط الوصول إلى هذه البيانات، ومن ثم التأسيس لقطاع حكومي قائم على التقنيّات الذكيّة. أمّا الهدف الأساسي في  المستقبل، فهو التمكّن من الانتقال إلى إجراء المعاملات الرسميّة بشكل ممكنن، ومن ثم دراسة المعاملات وتصديقها عبر تقنيّات الذكاء الاصطناعي، بأقصى درجة ممكنة من الإنتاجيّة والفعاليّة.-

–  قطاع التعليم: عبر تطوير المناهج الأكاديميّة وتحديثها، لتشمل دراسة تقنيّات الذكاء الاصطناعي ودورها في جميع القطاعات.

– القطاع الصحّي: عبر دمج وسائط الذكاء الاصطناعي في مجال الأبحاث الطبيّة وصناعة الدواء.

– قطاع الطاقة: عبر رفع كفاءة هذا القطاع وقدرته الإنتاجيّة والاستيعابيّة، باستخدام البرامج والخوارزميّات التي تسمح بإدارة سلاسل إمداد الطاقة بالشكل الأمثل.

– قطاع النقل والمواصلات: عبر إنشاء نظم معلوماتيّة جديدة تقوم على استخدام التقنيّات الذكيّة في إدارة قطاع النقل، بناءً على قواعد البيانات اليوميّة المتاحة.

إستراتيحية الإمارات للذكاء الاصطناعي

كحال السعوديّة، أدركت الإمارات العربيّة المتحدة باكرًا أهميّة مواكبة التقدّم الحاصل في مجال الذكاء الاصطناعي، وضرورة اعتماد هذه التقنيّات في جميع القطاعات الاقتصاديّة. ولهذا السبب بالتحديد، صادقت الإمارات في تشرين الأوّل/أكتوبر 2017 على “إستراتيحية الإمارات للذكاء الاصطناعي”، التي نصّت على مجموعة من المبادرات الحكوميّة التي يفترض أن يتم إنجازها بحلول العام 2031. كما خصصت الإمارات مقعدا في حكومتها، لوزير دولة للذكاء الاصطناعي، حيث إنّه من المفترض أن يسعى هذا الوزير لمواءمة أهداف هذه الإستراتيجيّة مع سائر الخطط الحكوميّة.

وتسعى الإمارات من خلال هذه الإستراتيجيّة إلى الاعتماد على الذكاء الاصطناعي لإدارة شبكات المياه، عبر الاعتماد على البيانات الضخمة من أجل دراسة سبل ترشيد استعمال الموارد المائيّة، وتحديد مكامن الهدر. كما تسعى لاستخدام هذه التقنيّات من أجل إدارة قطاع المرور، عبر تطوير آليّات وقائيّة تسمح بالتنبّؤ باحتمالات الحوادث والازدحام المروري، بالاستناد إلى الإحصائيّات اليوميّة في كل منطقة. وتراهن الإمارات على الذكاء الاصطناعي لتطوير شبكات الكهرباء الّتي تعتمد على الطاقة المتجددة، عبر دراسة إنتاجيّة هذه الشبكات خلال فترات السنة المختلفة، وتنظيم المشاريع الجديدة على هذا الأساس.

أمّا بالنسبة إلى القطاع العام، فتسعى الإمارات إلى دمج الذكاء الاصطناعي بالخدمات الأمنيّة، وخصوصًا في مجال تحديد الهويّة عبر الكاميرات. كما تراهن على توفير جميع الخدمات الحكوميّة دون أي استثناء، بشكل ممكنن لجميع المقيمين، بالإضافةِ إلى تقليص عبء الروتين الإداري بالاعتماد على التقنيّات الذكيّة لإدارة البيانات.

مبادرات دول الشرق الأوسط الأخرى

على هذا النحو، عملت العديد من دول الشرق الأوسط على مبادرات شبيهة. فعلى سبيل المثال، عملت الكويت منذ العام 2021 على خلق رزم تحفيز ضريبي لشركات التكنولوجيا المتخصصة في مجال الذكاء الاصطناعي، بهدف دفعها إلى فتح مكاتب وتأسيس شركات تابعة لها في الكويت، للاستفادة من تقنيّاتها في القطاعات الاقتصاديّة الأخرى.

أمّا الأردن، فأقرّت مؤخّرًا “الإستراتيجيّة الأردنية للذكاء الاصطناعي”، مع خطّة تنفيذيّة تشمل 68 مشروعًا جديدًا. وتسعى الخطّة التنفيذيّة إلى تأسيس منظومة اقتصاديّة وعلميّة متكاملة، تعتمد على التقنيّات الذكيّة، لدعم أداء القطاعين الخاص والعام. أمّا الإستراتيجيّة الحكوميّة فتسعى لضمان بيئة تشريعيّة وتنظيميّة داعمة لعمل شركات التكنولوجيا، بالإضافة إلى مبادرات تهدف إلى دعم العمل البحثي المرتبط بالذكاء الاصطناعي ومجالات استخدامه الصناعيّة.

في تركيا، عملت الجامعات على استحداث تخصّص جديد في مجال الذكاء الاصطناعي، وبمناهج تأخذ بعين الاعتبار حاجات القطاع الصناعي التركي، وإمكانات نموّه في ضوء تقنيّات دراسة البيانات الذكيّة. كما أنشأت الحكومة التركيّة مراكز بيانات وأبحاث ومختبرات متخصّصة، بهدف دعم المؤسسات الصناعيّة التركيّة في عمليّة الانتقال لاستخدام الذكاء الاصطناعي في عمليّاتها. ومن المعلوم أن تركيا تمتلك قطاعًا صناعيًا قويًا، وهو ما يزيد من حاجة الدولة التركيّة إلى هذه المبادرات للحفاظ على تنافسيّة صادراتها.

كل هذا المشهد يؤكّد أن دول الشرق الأوسط ليست بعيدة عن المنافسة العالميّة في مجال الاستفادة من تقنيّات الذكاء الاصطناعي. ومع ذلك، ثمّة حاجة ماسّة اليوم إلى تطوير النظم التشريعيّة في هذه الدول، إلى جانب المبادرات الهادفة إلى تطوير الإمكانات التقنيّة، لتتمكّن القوانين من تلافي أية محاذير يمكن أن تنتج عن هذا التوجّه الجديد. فجمع واستخدام البيانات الضخمة، بهدف استخدامها في تقنيّات الذكاء الاصطناعي، غالبًا ما تحيطه الهواجس المرتبطة بالخصوصيّةِ، وهو ما يفترض أن تأخذه القوانين بعين الاعتبار.