ظلّت زراعة القنّب الهندي في الشرق الأوسط مشكلة، لا حلًّا، حتّى عند تشريعها أو التغاضي عنها، كما حصل في لبنان وسوريا.
علي نور الدين
يعتقد كثيرون أنّه بإمكان زراعة وتصدير القنّب الهندي أن يكون حلًا للعديد من المشاكل الاقتصاديّة التي تمر بها بلدان الشرق الأوسط.
وهذا ما دفع لبنان مثلًا إلى تشريع زراعة هذه المادّة عام 2020، فيما تغاضت السلطات السوريّة عن هذه الزراعة بشكل متعمّد ولم تعمد إلى تشريعها.
في دول أخرى، مثل مصر والأردن، ظلّت السلطات متمسّكة بموقع المناهض لزراعة وترويج هذه المادّة، ما حوّل هذا الملف إلى مصدر للتوتّرات الأمنيّة في البلدين. وفي جميع هذه النماذج، ظلّت زراعة القنّب الهندي مشكلة، لا حلًّا، حتّى عند تشريعها أو التغاضي عنها، كما حصل في لبنان وسوريا.
تشريع زراعة القنّب الهندي في لبنان
في نيسان 2020، في بداية الأزمة الماليّة اللبنانيّة، وبعد نحو شهر على إعلان لبنان تخلّفه عن سداد سندات الدين العام، أقرّ البرلمان اللبناني قانونًا لتشريع وتنظيم زراعة القنّب الهندي، المعروف محليًا بالحشيش، للاستعمال الطبّي والصناعي. في واقع الأمر، لم يكن المزارعون اللبنانيون ينتظرون هذا التشريع بالتحديد لممارسة هذه الزراعة. فتاريخيًا، ورغم جميع المحاولات المتكرّرة لمكافحة زراعتها، ظلّت زراعة الحشيش موردًا ماليًا أساسيًا لجزء كبير من أهالي سهل البقاع اللبناني.
وقبل العام 2020، أي قبل إصدار هذا القانون، كانت قد تكرّست هذه الممارسة كأمر واقع تحت أعين الأجهزة الأمنيّة، بمعزل عن تجريمها في القانون. وبينما كان البعض يقدّر حجم إنتاج القطاع بنحو 800 مليون دولار سنويًا، ذهب البعض الآخر إلى تقدير قيمة إنتاج الحشيش السنوي في لبنان بنحو 1.5 مليار دولار أميركي، أي ما يوازي نحو 7% من حجم الاقتصاد الشرعي والمعلن.
باختصار، لم يكن هدف القانون عام 2020 فتح المجال أمام زراعة هذه المادّة، بل تنظيم وقوننة هذه الزراعة المتفشية أصلًا، بهدف تجيير جزء من عوائدها كضرائب لمصلحة الخزينة العامّة. بمعنى آخر، أراد المشرّعون اللبنانيون تحويل هذه الزراعة من مشكلة، ومخالفة قانونيّة تبيحها العادات المحليّة، إلى حلٍّ لأزمات الماليّة العامّة وشح العملة الصعبة. ولهذا السبب، لم تكن مصادفةً أن يتزامن إصدار هذا التشريع مع حصول الانهيار المالي في لبنان.
ورغم أنّ القانون حصر غايات زراعة القنّب الهندي بالأهداف الطبيّة والصناعيّة، إلا أنّ المشرّعين كانوا يعلمون أن الإنتاج سيجد طريقه حكمًا إلى أسواق الترفيه المحليّة والأجنبيّة. فإذا كان إنتاج القنّب الهندي اللبناني يذهب اليوم إلى هذه الأسواق، رغم تجريم زراعته، فتشريع هذه الزراعة “لأهداف طبيّة وصناعيّة” سيسهّل بيعه وتداوله لأهداف الترفيه، وخصوصًا في ظل تفشّي اقتصاد الظل الذي يصعب ضبطه.
العجز عن تنظيم زراعة القنّب الهندي بعد تشريعها
لكنّ الدولة اللبنانيّة التي عجزت عن مكافحة زراعة القنّب الهندي قبل العام 2020، لم تتمكّن حتّى هذه اللحظة من تنظيم وقوننة زراعته، بعد صدور قانون تشريع هذه الزراعة. فبحسب القانون الجديد، كان من المفترض أن يتم تعيين هيئة ناظمة خاصّة بالقطاع، كما كان يجب أن تتولّى الهيئة إصدار تراخيص لزراعة هذه المادّة. وعلى هذا الأساس يمكن للدولة أن تنظّم عمليّات تصدير القنّب الهندي وبيعه للأطراف المرخّصة، واستيفاء الرسوم والضرائب من المزارعين.
لكن بعد ثلاث سنوات من صدور هذا التشريع، لم يتم تطبيق أي من مندرجاته، بل لم يتم حتّى تعيين الهيئة الناظمة التي كان من المتفرض أن تتولّى تنظيم القطاع.
بمعنى أوضح، وبعد أن فشلت الدولة تاريخيًا في مكافحة هذه الزراعة، حين كانت القوانين تجرّمها، فشلت الدولة في تنظيم هذه الزراعة بعد تشريعها. أمّا النتيجة، فكانت المزيد من تفشّي الزراعة، وتداول وتعاطي مادّة القنّب الهندي غير القانوني، بدل أن يتم ضبط أسواق هذا القطاع. ولذلك، فشلت الدولة اللبنانيّة في تنفيذ هدفها، الرامي إلى تحويل هذه الزراعة من مشكلة إلى حل.
لا يحتاج الأمر إلى كثير من التحليل لفهم أسباب تعثّر تنظيم زراعة القنب الهندي، كما نصّ تشريع العام 2020. فمزارعو هذه المادّة في منطقة البقاع يمثّلون حاضنة شعبيّة للعديد من الأحزاب الممثّلة في البرلمان اللبناني. وهذه الشريحة من المزارعين، لم تجد مصلحتها في فرض تنظيمات وقيود جديدة على القطاع، وخصوصًا لجهة تقييد المزارعين برخص للإنتاج، أو فرض ضرائب ورسوم جديدة عليهم. وفي جميع الحالات، لم تسمح حالة الإدارات العامّة المتهالكة اليوم، جرّاء شح الموارد الماليّة، بفرض قيود وتنظيمات ورقابة معقّدة من هذا النوع.
على المقلب الآخر، يشير بعض المزارعين إلى أنّ عمليّة الاتجار بالمادّة وتصديرها، يتولّاها اليوم –بشكل غير منظّم وغير قانوني- بعض أصحاب النفوذ، الذين يملكون تأثيرًا على القرار الرسمي. وهذه الشريحة النافذة، لا مصلحة لديها في تنظيم القطاع، وقوننة عمليّة التصدير بشكل شفّاف ومعلن. بل وعلى العكس تمامًا، تجد هذه الشريحة من تجّار الجملة مصلحة في إبقاء القطاع غير منظّم، لاحتكار عمليّات شراء القنّب الهندي من السوق المحلّي، باستعمال نفوذهم.
وبهذا الشكل، تتشابه الأسباب التي منعت الدولة تاريخيًا من مكافحة زراعة القنّب الهندي، مع الأسباب التي منعت الدولة من تنظيم هذه الزراعة بعد تشريعها. ففي الحالتين، كان السبب عجز الدولة وسوء الحوكمة، والتدخّلات السياسيّة واستغلال النفوذ لمصلحة الفئات المستفيدة من القطاع.
في الوقت الراهن، تشكّل زراعة القنّب الهندي في سهل البقاع إشكاليّة أساسيّة بالنسبة للدولة. فالدولة لا تملك الموارد الكافية لتنظيم هذه الزراعة، كما ينص القانون، كما لا يتوفّر حتّى الآن الحد الأدنى من التعاون المجتمعي لإجراء هذا التنظيم.
وفي الوقت عينه، لا يمكن للدولة مكافحة زراعة هذه المادّة غير المنظّمة ، إذ سيكون هذا إجحافًا بحق شرائح واسعة من أبناء البيئة الريفيّة في سهل البقاع، والتي تعتمد في معيشتها على إيرادات زراعة القنّب. مع الإشارة إلى أنّ اللجوء إلى الزراعات البديلة سيحتاج إلى سنوات من الاستثمار والتدريب وفتح الأسواق الجديدة، وهذا ما لا تملك الدولة إمكانيّة القيام به.
مناكفات سياسيّة بسبب الفشل في تنظيم القطاع
فشل الدولة في تنظيم القطاع، سرعان ما تحوّل خلال السنوات الماضية إلى أداة للتجاذبات السياسيّة وتوزيع الاتهامات. فالعديد من الأطراف السياسيّة باتت تتهم اليوم ما يُعرف بالثنائي الشيعي، أي حزب الله وحركة أمل، بتوفير الغطاء السياسي الضمني للاتجار غير المشروع بالقنّب الهندي.
وغالبًا ما يُشار إلى هيمنة التنظيمين الأمنيّة في منطقة البقاع الشمالي، حيث تنتشر زراعة القنّب الهندي، للتأكيد على هذا الادعاء. وفي كثير من الأحيان، يتم الربط ما بين هذا الاتهام، والاتهامات الموجّهة للحزب والنظام السوري، بالتشجيع على إنتاج أنواع أخرى من المخدرات، لتصديرها باتجاه دول الخليج.
في المقابل، يصرّ حزب الله على نفي أي علاقة له بهذه الاتهامات، مشيرًا إلى عدم تصويته أساسًا على قانون تشريع زراعة القنّب الهندي عام 2020، باعتبار أنّ التداول بهذه المادّة أو زراعتها أو تعاطيها محرّم في عقيدته الدينيّة.
سوريا: النظام يغض النظر
لا تقتصر مشاكل زراعة المخدرات على لبنان. فبفعل الأزمة السوريّة، تفشّت في العديد من مناطق الساحل والجنوب السوري ظاهرة زراعة القنّب الهندي، تمامًا كما هي الحال في سهل البقاع في لبنان. وفي الحالة السوريّة، استفاد المزارعون من تجاهل قوى الأمن السوريّة هذه الظاهرة، أو توفير الميليشيات المحليّة الموالية للنظام الغطاء للمزارعين.
ومن المرجّح أنّ النظام تجاهل عن عمد هذه الظاهرة، لكونه رأى فيها حلًا وموردًا ماليًا بالغ الأهميّة، بالنسبة لبعض الشرائح الاجتماعيّة الموجودة في مناطق نفوذه، بالإضافة إلى ما توفّره هذه الزراعة من عملة صعبة في حال تصدير المنتوج. وعلى أي حال، لم يقتصر رواج زراعة القنّب الهندي على مناطق نفوذ النظام وحده، إذ تم توجيه الاتهامات، في العديد من المراحل، إلى قوّات سوريا الديموقراطيّة، التي تسيطر على شمال شرقي سوريا، بالتشجيع على زراعة هذه المادّة أيضًا في مناطق نفوذها.
ومع الوقت، أخذت القضيّة أبعادًا سياسيّة أوسع، مع تلقّي النظام السوري اتهامات بتنظيم عمليّات تصدير المخدرات باتجاه دول الخليج، بهدف زعزعة أمن هذه الدول أولًا، وتوفير الموارد الماليّة التي يحتاجها ثانيًا. وتمامًا كما حدث في لبنان، وبدل أن تكون زراعة المخدرات حلًا اقتصاديًّا كما افترض البعض في البداية، تحوّلت زراعة المخدرات إلى آفّة ذات طابع أمني، بعد نشوء مجموعات مسلّحة وعصابات على هامش إنتاج وزراعة هذه المادّة، ما ساهم في تفشّي الاضطرابات الأمنيّة.
مصر والأردن: الإصرار على مكافحة الظاهرة
في مصر والأردن، وبخلاف سوريا ولبنان، ظلّت زراعة القنّب الهندي محصورة ضمن أطر ضيّقة، بفعل الرقابة الأمنيّة المشدّدة. إلا أنّ هذه الزراعات في البيئات الريفيّة ظلّت مصدرًا للصدامات والتوتّرات الأمنيّة مع السلطات الرسميّة، التي تعمل على مكافحة عمليّات إنتاج ونقل وبيع هذه المادّة بعد زراعتها. وفي البلدين، تنوّع عمل مجموعات تهريب المخدرات، ليشمل نبات الأفيون والبانغو وغيرها، ما فاقم من تداعيات تفشّي عمل هذه المجموعات.
في كل الحالات، من الواضح أنّ إجماع الغالبيّة الساحقة من المراجع الدينيّة على تحريم تعاطي وزراعة القنّب الهندي، هو ما حال حتّى اللحظة دون إقدام معظم دول الشرق الأوسط على محاولة تشريع هذه الزراعة، كما حصل في لبنان.
وحتّى في حالة لبنان، لم يوافق مجلس النوّاب على قانون تشريع هذه الزراعة إلّا تحت وطأة الأزمة الماليّة القاسية، وبعد تفشّي هذه الممارسة كأمر واقع منذ زمن طويل. ولهذا السبب، قد لا يكون من الواقعي تأمّل معالجة هذه المشكلة قريبًا في سائر دول الشرق الأوسط، عبر محاولة تنظيم هذه الزراعة، وهو ما فشل أساسًا في الحالة اللبنانيّة.