علي نور الدين
المقدمة
منذ حصول الانهيار المالي في لبنان، تعددت التداعيات المعيشيّة القاسية التي ألمّت بعموم المقيمين في البلاد، ومنها تلك التي طالت قيمة أجورهم الشرائيّة ومدخراتهم نتيجة تدهور سعر الصرف، وتهاوي شبكات الحماية الاجتماعيّة، بالإضافة إلى عجز وشلل مؤسسات الدولة. إلا أنّ أقسى ما تركه الانهيار من آثار، لم يقتصر على الأزمات المعيشيّة الراهنة فقط، بل شمل كذلك تحوّلات ديموغرافيّة استراتيجيّة، ضربت بنية المجتمع في لبنان وخصائصه، ومقوّمات نهوضه الاقتصادي في المستقبل، وهو ما سيترك أثرًا كبيرًا على المدى البعيد. وحين نتحدّث عن التحوّلات الديموغرافيّة، فنحن لا نشير هنا حتمًا إلى التوازنات الطائفيّة أو الهواجس المرتبطة بوجود اللاجئين، التي غالبًا ما يلمّح لها الزعماء اللبنانيون عند الحديث عن هواجس الديموغرافيا.
إنّ التحوّلات الديموغرافيّة التي نتحدّث عنها هنا، ترتبط بأمور أكثر التصاقًا بمصالح جميع المقيمين، وتحديدًا في ما يخص آثار الهجرة الكثيرة باتجاه الخارج، على مستوى بنية الأعمار في المجتمع، ونسبة المؤهلين للعمل والمساهمة في دورة الإنتاج. كما طالت آثار الهجرة أعداد العاملين في القطاعات الحسّاسة والاستراتيجيّة، كالطب والتمريض والهندسة والتعليم وغيرها. فهذه القطاعات بالتحديد، يتسم تناقص أعداد العاملين فيها في لبنان بخطورة استثنائيّة، نظرًا لأهميّة دورها الاجتماعي، أو لأهميّة دورها الاقتصادي على مستوى دورة الإنتاج. من ناحية أخرى، شملت هذه التحوّلات الديموغرافيّة ظواهر مستجدة على المجتمع اللبناني، كحالة الهجرة العكسيّة من المدن إلى الريف، والتي باتت تعبّر عن تزايد معدلات الفقر وعدم قدرة الأسر على تحمّل كلفة المعيشة في المدن.
الهجرة اللبنانيّة ظاهرة تاريخيّة
لم تكن ظاهرة الهجرة إلى خارج البلاد، بحثًا عن فرص عمل، مسألة مستجدة على الاقتصاد اللبناني بعد حصول الأزمة الماليّة. فالأرقام تشير إلى أن نحو 1.5 مليون لبناني –مقابل نحو 6.7 مليون مقيم حاليًّا- غادروا البلاد بين عامي 1975 و2011، نتيجة موجات هجرة متتالية في حقبات مختلفة. وفي الوقت الذي أدّت فيه الحرب الأهليّة وما شهدته من اضطراب ومجازر إلى موجات متعددة من التهجير القسري قبل العام 1990، ساهم ارتفاع معدلات البطالة والاعتماد على القطاعات الريعيّة غير المنتجة في تكريس هذه الظاهرة بعد العام 1990، بعد انتهاء الحرب.
في واقع الأمر، وقبل حصول الانهيار المالي عام 2019، مثّل ما يُعرف بتصدير الأدمغة، أي هجرة اليد العاملة الكفوء، إحدى ركائز النموذج الاقتصادي الذي ساد في البلاد. فالاقتصاد المحلّي الريعي وغير المنتج، لطالما اعتمد على تحويلات المغتربين إلى الداخل اللبناني لتأمين العملة الصعبة المطلوبة لاستمرار هذا النموذج، إذ تشير الأرقام إلى أنّ قيمة هذه التحويلات قاربت حدود ال25% من الناتج المحلّي في بعض المراحل. وهذه التحويلات، غذّت في العديد من المحطات طفرة القطاع المصرفي، ما سمح لهذا القطاع بالاستمرار باقراض الدولة ومصرف لبنان لتغطية عجز الميزانيّة العامّة وتثبيت سعر صرف العملة المحليّة. وبذلك، كانت ودائع المغتربين إحدى مصادر تغذية تضخّم القطاع المصرفي، الذي انهار لاحقًا وبدد أموال مودعيه، بمن فيهم المغتربين.
لكل هذه الأسباب، كان المجتمع اللبناني مهيّئًا منذ فترة طويلة ليشهد بعد الانهيار المالي، الذي حصل عام 2019، موجة جديدة من موجات الهجرة. فغالبيّة اللبنانيين امتلكوا أقارب موجودين منذ زمن في دول الاغتراب ما ساعد كثيرين على إيجاد فرص العمل في الخارج، والتمكّن من الاستقرار هناك. كما حمل العديد من الأسر اللبنانيّة جنسيّات أجنبيّة أخرى، بفعل تواجد أجيال سابقة من هذه الأسر في دول الاغتراب، وقد ساعد هذا الأمر هذه الفئة بالتحديد ،على الانتقال سريعًا إلى دول الاغتراب هربًا من الأزمة الاقتصاديّة اللبنانيّة.
أكبر موجات الهجرة بعد الأزمة الماليّة
إنّ موجة الهجرة التي حصلت بعد بدء الأزمة الماليّة عام 2019، لم تشبه كل موجات الهجرة التي حصلت في محطات سابقة، بل يمكن القول إنّ ما جرى نتيجة الأزمة خلال الأعوام الثلاثة الماضية ماثل أكبر موجات الهجرة التي شهدتها البلاد تاريخيًّا. فبحسب استطلاع الرأي الذي أجرته مؤسسة “غالوب” العالميّة بعد حصول الأزمة، عبّر 63% من المشاركين اللبنانيين عن رغبتهم بمغادرة البلاد، حال تمكنهم من القيام بذلك، مقارنة بمستويات تراوحت بين 19% و23% في السنوات التي سبقت حصول الانهيار المالي في لبنان. وبحسب هذا الإستطلاع، مثّلت كندا الوجهة المفضلة بنسبة قاربت ال28% من المُستطلعين، تلتها ألمانيا بنسبة قاربت ال19% ومرّة جديدة، كان من الواضح أن موجات الهجرة السابقة أثّرت في خيارات الراغبين بالهجرة، لكون هاتين الدولتين مثلتا تاريخيًّا إحدى الوجهات التي قصدها المهاجرون اللبنانيون بكثافة.
وبالفعل، لم يكتفِ اللبنانيون بالتعبير عن رغبتهم بمغادرة البلاد، إذ تظهر الأرقام أن نسب الهجرة قد سجلت خلال السنوات الماضية نسبًّا تاريخيّةً غير مسبوقة. فخلال العام الماضي وحده، غادر لبنان نحو 79 ألف شخص بهدف الهجرة، نتيجة للأزمة الاقتصاديّة، فيما تُظهر الأرقام أن أكثر من 117 ألف شخص غادروا لبنان خلال السنوات الثلاث السابقة، ولهذا السبب بالتحديد، سجّلت البلاد –ولأوّل مرة في تاريخها- تناقصًا سريعًا في أعداد المقيمين، من نحو 6.9 مليون مقيم عام 2019، إلى نحو 6.6 مليون مقيم اليوم.
الأزمة الفعليّة التي تعكسها الأرقام، لا تكمن فقط في النزيف البشري الناتج عن هذه الظاهرة، بل في نوعيّة هذا الاستنزاف. فمن الناحية العمليّة، تشكّل فئة الشباب من أصحاب المهارات والخبرات، التي تمكنت من العثور على فرص عمل في الخارج، النسبة الأكبر من المهاجرين. وبذلك، وبفعل موجة الهجرة الأخيرة، خسرت البلاد نسبة وازنة من اليد العاملة الكفوء، التي كان يفترض أن تساهم في مسار التعافي المالي خلال السنوات المقبلة، وذلك من خلال المساهمة في بناء القطاعات الإنتاجيّة القادرة على النهوض بالاقتصاد المحلّي. مع العلم أن هذه الظاهرة ستساهم أيضًا في دفع المجتمع اللبناني نحو المزيد من الكهولة، أي المزيد من الارتفاع في متوسّط الأعمار، وهو اتجاه يغذّيه أيضًا إحجام نسبة متزايدة من الشباب عن الزواج بسبب الضائقة الماديّة.
الهجرة تضرب القطاعات الحسّاسة
الإشكاليّة الأخرى في ظاهرة الهجرة، تمثّلت في تضاؤل أعداد العاملين في القطاعات الحسّاسة. فالأرقام تشير على سبيل المثال إلى أن ما يقارب ال20% من أطباء البلاد غادروها خلال العام 2021، بحثًا عن فرص عمل في الخارج. وهذه الظاهرة بالتحديد، دفعت باتجاهها الضغوط الماديّة التي تتعرّض لها اليوم جميع المستشفيات اللبنانيّة، وعدم قدرة هذه المستشفيات على تأمين رواتب جيّدة للأطباء العاملين فيها، مقارنة بالرواتب في دول الاغتراب. مع الإشارة إلى أن رواتب الأطباء في الدول الأجنبيّة ارتفعت بشكل كبير خلال الفترة الماضية، بالتوازي مع زيادة الطلب على خدماتهم خلال فترة تفشي وباء كورونا. وبخصوص هذه الظاهرة بالتحديد، يشير نقيب الأطباء شرف أبو شرف إلى أنّ نحو 2500 طبيب غادروا لبنان خلال الفترة الماضية، وغالبيّتهم من أصحاب الاختصاصات الطبيّة وأصحاب الكفاءة العالية، وهو ما بات يضع القطاع الطبي بأسره أمام تحديات تضع استمراريته على المحك.
هجرة العاملين في القطاعات الحسّاسة لم تقتصر على الأطباء، بل شملت العاملين في مجال التمريض، المكمّل لعمل الأطباء في القطاع الصحّي. ومرّة جديدة، كان الطلب على خدمات هؤلاء في الخارج، وارتفاع الأجور المعروضة عليهم في دول الاغتراب، مقابل تراجع قيمة أجورهم محليًا نتيجة انهيار سعر صرف العملة المحليّة، سببًا لإطلاق العنان لموجة كبيرة من موجات هجرة العاملين في قطاع التمريض. وبحسب احصاءات نقابة الممرضات والممرضين، فقد غادر أكثر من 1600 عامل وعاملة البلاد، ممن يعملون في هذا القطاع، وذلك خلال العام الأوّل ، بعد حصول الأزمة ما أدّى إلى نقص كبير في أعداد الطاقم التمريضي في المستشفيات اللبنانيّة.
في مجال الهندسة، تشير إحصاءات نقابة المهندسين إلى أن أكثر من نصف المهندسين المسجّلين في النقابة، والبالغ عددهم 72 ألف مهندس، باتوا خارج البلاد اليوم. وهذه الظاهرة عززتها جملة من التطورات، أبرزها انتقال مجموعة كبيرة من شركات الاستشارات الهندسيّة إلى الخارج، مع جميع العاملين فيها، نتيجة الظروف الماليّة والنقديّة المتردية في لبنان. أمّا خطورة هذا التطوّر، فتكمن في حرمان لبنان من المهندسين الذين يفترض أن يلعبوا دورًا كبيرًا في نهضة القطاعات الإنتاجيّة في المستقبل، ومنها تلك التي تُعنى بتطوير البنية التحتيّة والأنشطة الصناعيّة وغيرها. ولهذا السبب بالتحديد، مثّل هذا التطوّر ضربة لإمكانات الاقتصاد المحلّي، حتّى ولو تمكّن من استعادة الانتظام المالي والنقدي خلال السنوات المقبلة.
أمّا في القطاع الأكاديمي، فتشير أرقام الجامعة الأميركيّة في بيروت إلى أن نحو 12% من أساتذة الجامعة غادروا البلاد في أولى السنوات التي تلت حصول الأزمة الماليّة، نتيجة تراجع قيمة أجورهم بالعملة المحليّة، وبفعل ارتفاع التنافس على الأساتذة من أصحاب الكفاءات والخبرة بين الجامعات الأجنبيّة، ولهذا السبب، اضطرّ عدد كبير من الجامعات اللبنانيّة إلى تقليص عدد الاختصاصات التي تقدّمها لطلابها، لمحاولة التعامل مع ظاهرة تراجع عدد الأساتذة العاملين فيها. ومرة جديدة، كانت البلاد تخسر أبرز مقومات عمل القطاعات التي ازدهرت في سنوات ما قبل الأزمة، أي القطاع الأكاديمي.
الهجرة الداخليّة المعاكسة باتجاه الريف
التحولات الديموغرافيّة لم تقف عند حدود خسارة العاملين في القطاعات الحسّاسة، ولا عند تراجع نسبة الفئة الشابة في المجتمع، بل شملت إطلاق العنان لموجة من الهجرة الداخليّة المعاكسة، أي الهجرة من المدن إلى الأرياف. وهذه الظاهرة، لم تأتِ حكمًا نتيجة ازدهار قطاعات إنتاجيّة معينة في الريف، ولا نتيجة تزايد الطلب على الأيدي العاملة هناك، بل نتيجة ارتفاع معدلات التضخّم بشكل قياسي، وعدم قدرة العائلات اللبنانيّة على تحمّل تكاليف الحياة في المدينة. ولهذا السبب، اتجهت الأسر اللبنانيّة إلى الهجرة للإقامة في الريف، بحثًا عن طرق لتخفيض كلفة المعيشة، خصوصًا أن كلفة الحياة في الريف –وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة- تقل بنحو 30% عن كلفة الحياة في مدينة بيروت.
الأرقام المتوفّرة حاليًا، تشير إلى أن نحو 77 ألف شخص نزحوا مؤخرًا من المدن باتجاه القرى، فيما ساهم بتشجيع هذه الظاهرة وجود شبكات تضامن أهليّة وعائليّة في الأرياف، بعكس المدن التي تفتقر لهذا النوع من شبكات الحماية المجتمعيّة، ناهيك عن انخفاض كلفة المسكن في القرى. كما ساهم في تشجيع هذه الظاهرة تحدّر نسبة كبيرة من الأسر المقيمة في المدن من أصول ريفيّة، وهو ما سمح لهذه الفئة بالتحديد بالعودة إلى القرى التي تتحدّر منها، وبالاستفادة من العقارات التي تملكها عائلاتها الممتدة هناك.
من الناحية العمليّة، تمثّل العودة إلى الأرياف مسألة إيجابيّة، إذا كانت مقرونة بتنمية اقتصاديّة تسمح بخلق فرص العمل للوافدين الجدد إلى الريف، وبتمنية القطاع الزراعي هناك. فهذا النوع من النزوح المعاكس، يسمح بتخفيف الاكتظاظ في المدن، وبتحقيق التنمية المتوازنة في المناطق النائية. إلا أنّ المشكلة تكمن اليوم في أن هذا النزوح لم يتوازَ مع أي نمو في نشاط المناطق الريفيّة الزراعي أو الإنتاجي، كما أنّه لم يترافق مع خلق أي فرص عمل للوافدين الجدد إلى المناطق الريفيّة. بمعنى آخر، لم تكن الهجرة نحو الريف سوى نتيجة أو انعكاس للإفقار الجماعي المجتمعي الذي دفع نسبة من المقيمين إلى الاتجاه نحو الأرياف، لذلك، بات هناك خشية جديّة من أن تسبب هذه الظاهرة عبئًا سكّانيًا على المناطق الريفيّة، بدل أن تساهم في تنميتها.
في خلاصة الأمر، من المفترض أن يكون التعامل مع كل هذه التحولات الديموغرافيّة، بمختلف أشكالها، أولويّة أساسيّة في أي خطّة نهوض اقتصادي ستتبناها البلاد. فمسائل كاستعادة اليد العاملة الكفوء والماهرة، وإعادة استقطاب المهاجرين من العاملين في القطاعات الحساسة، وخلق فرص العمل بالتوازي مع تنمية القطاع الإنتاجيّة، يُفترض أن تكون من أبرز أهداف أي مسار للتعافي المالي في البلاد. أمّا في حال فشلت البلاد في التعامل مع هذه الظواهر، فالأضرار المجتمعيّة ستكون قاسية وطويلة الأمد.