في 5 نوفمبر 2018، دخل تطبيق العقوبات الأمريكية الجديدة على إيران حيز التنفيذ. وكما قال الرئيس دونالد ترمب وغيره من المسؤولين الأمريكيين مراراً وتكراراً، من المفترض أن تفرض العقوبات ضغوطاً على إيران من خلال وقف تدفق النفط، المصدر الرئيسي لدخلها، إلى خارج البلاد.
تعتبر هذه الحزمة الثانية من العقوبات الأمريكية أحادية الجانب على إيران، فقد تم الإعلان عن الحزمة الأولى في 8 مايو ودخلت حيز التنفيذ في 6 أغسطس، بعد انسحاب ترمب من الصفقة النووية الإيرانية لعام 2015 المعروفة باسم خطة العمل الشاملة المشتركة. وبالرغم من طرح حججٍ مختلفة لأسباب الانسحاب، إلا أن معظم الناس يتفقون على أهداف العقوبات: فقد وضعت لإلحاق الضرر باقتصاد إيران والحدّ من اندماجها في الاقتصاد العالمي. ومع ذلك، حتى مع الأخذ بعين الإعتبار الأهداف الأمريكية المعلنة المتمثلة بصدّ التأثير الإيراني الإقليمي وتقليص قدراتها الصاروخية، يبقى السؤال حول ما إذا كانت العقوبات ستحقق النتائج المرجوة.
عندما انسحب ترمب من خطة العمل الشاملة المشتركة، دخل اقتصاد إيران في دوامة، حيث انخفضت العملة إلى مستوى قياسي وارتفع التضخم. استمر هذا التقلب بعد إعلان الجولة الأولى من العقوبات. وردت الحكومة الإيرانية بتنفيذ سياسة معتدلة تهدف إلى تثبيت العملة من خلال المشاركة المباشرة للبنك المركزي في سوق الصرف من جهة، ومن خلال قمع الوسطاء في أسواق البورصة والذهب من جهةٍ أخرى. وعلى الرغم من تذبذب العملة منذ ذلك الوقت، إلا أن أنه لم يتم الإبلاغ عن حدوث صدماتٍ كبيرة.
ولكن مع الجولة الثانية من العقوبات، يخشى الإيرانيون مشقةً اقتصادية مشابهة لتلك التي عانوا منها أثناء العقوبات السابقة من عام 2011 فصاعداً. تتمثل استراتيجية الولايات المتحدة بفرض “الحد الأقصى من الضغط” لتضييق الخناق مالياً واقتصادياً على إيران إلى أن تغير سياستها الإقليمية والعسكرية وقيادتها. وبالتالي، سيستمر الضغط إلى أن توافق إيران على المطالب التي أعلنها وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في مايو 2018. بعبارةٍ أخرى، تريد الولايات المتحدة أن تلتزم إيران بمطالبها فيما يعتبر في إيران على أنه استسلامٌ عوضاً عن التفاوض.
إن إستراتيجية إيران المضادة بسيطة ومبنية على مقاومة ضغوط واشنطن- أسلوبٌ تمتلك فيه عقوداً من الخبرة. وبحسب المرشد الأعلى علي خامنئي، لن تتفاوض إيران مع الولايات المتحدة على أي مستوى. بدلاً من ذلك، تراهن إيران على الاقتصادات الرئيسية الأخرى مثل الاتحاد الأوروبي والصين والهند التي تعارض عقوبات ترمب وترغب في الحفاظ على فعالية خطة العمل الشاملة المشتركة. والحجة هي أن إدارة ترمب، على عكس العقوبات التي كانت سائدة قبل عام 2015 والتي قادت خلالها الولايات المتحدة تحالفاً دولياً ضد إيران، تقوم اليوم بعملها من جانبٍ واحد، وهو أقل فعالية وأكثر احتمالاً من قِبل طهران.
ومع ذلك، يحتاج المرء إلى إلقاء نظرةٍ فاحصة على اقتصاديات العقوبات الجديدة. يُشكل النفط حوالي 33% من دخل إيران، وهي نسبة شهدت ارتفاعاً منذ التوقيع على خطة العمل الشاملة المشتركة في عام 2015. وعلى الرغم من انخفاض صادرات النفط في عام 2018، ظلت إيرادات إيران مرتفعة بسبب ارتفاع أسعار النفط في السوق العالمية، من أقل من 50 دولار للبرميل إلى أكثر من 70 دولار. وعلى هذا النحو، بلغ دخل النفط الإيراني في الأشهر السبعة الأولى من عام 2018 حوالي 41 مليار دولار على الرغم من انخفاض صادراته النفطية إلى أقل من 2 مليون برميل، بانخفاضٍ من 2,8 مليون برميل في عام 2017. وعليه، فإن دخل النفط الإيراني، الهدف الرئيسي للعقوبات الأمريكية، لا يزال يتدفق على الرغم من انخفاض الكمية.
تعتمد الولايات المتحدة الأمريكية على عدم استدامة هذا الأمر، بالنظر إلى استمرار انخفاض حصة إيران في سوق النفط. ومع ذلك، أعلنت الصين والهند، أكبر زبائن إيران من النفط، عزمهما على مواصلة شراء النفط الإيراني. بالإضافة إلى ذلك، قدم الاتحاد الأوروبي حزمةً يضمن فيها مبيعات إيران بما لا يقل عن مليون برميل في اليوم. ومع ذلك، إذا ما انخفضت صادرات النفط الإيرانية إلى 1,3 مليون برميل في اليوم، فسينخفض دخلها إلى حوالي 32 مليار دولار بعد ذلك، من 45 مليار دولار في عام 2018 و55 مليار دولار في عام 2017. وبالتالي، ستؤثر العقوبات بالفعل على دخل إيران النفطي وستضع اقتصادها تحت مزيد من الضغط في المستقبل.
وفي الوقت نفسه، لا يدخل في الميزانية سوى 50% من دخل النفط الإيراني ويستخدم في الإنفاق اليومي، في حين يستثمر الباقي في تطوير صناعة النفط (14,5%) وفي المقاطعات المنتجة للنفط (3%) والإيداع في الصندوق الوطني للتنمية في إيران (32%) لاستخدامها في مشاريع التنمية الاقتصادية. وحتى مع ذلك، خسرت الحكومة (وميزانيتها) ما يقرب من 5 مليارات دولار في عام 2018 مقارنةً مع 2017، وستخسر 6,5 مليار دولار في عام 2019. من الناحية النظرية، يمكن تعويض ذلك من خلال تخفيض حصة الصندوق الوطني للتنمية. ففي أوقات الحاجة، كان هناك العديد من السحوبات التي تمت من إحتياطيات الصندوق الوطني للتنمية.
تتمثل ثاني أهم آلية لاستراتيجية الضغط للحد الأقصى لواشنطن في العقوبات المالية. وتركز سياسة الولايات المتحدة على إيذاء إيران بطريقةٍ غير مباشرة من خلال استهداف من يتعاملون مع إيران. في حين يهدف هذا إلى التأثير على التجارة والأنشطة التجارية الإيرانية، هنا أيضاً اكتسبت إيران خبرةً كبيرة- وإن كانت مكلفةً في بعض الأحيان- في التحايل على مثل هذه العقوبات قبل عام 2015. بالإضافة إلى ذلك، فإن منشأة الأغراض الخاصة، التي قدمها الاتحاد الأوروبي في سبتمبر 2018، هي في الأساس “غرفة مقاصة” تسمح للشركات الأوروبية بتجاوز العقوبات لأنها لا تتطلب تحويلاتٍ نقدية بين دول الاتحاد الأوروبي وإيران. في الواقع، تعتبر منشأة الأغراض الخاصة طريقة خلاص الإتحاد الأوروبي لإيران.
باختصار، عائدات النفط الإيرانية آخذةٌ في التناقص، ومعاملاتها بالدولار معرضةٌ للخطر، وهي تواجه ضغوطاً اقتصادية وسياسية متنامية داخل وخارج البلاد. ومع ذلك، هناك أيضاً ايجابياتٌ للوضع القائم، فإيران لا تقف وحيدةً في مواجهة العقوبات الأمريكية هذه المرة، بل تتلقى المساعدة من أقرب حلفاء الولايات المتحدة. كما تمتلك إيران احتياطي يتجاوز الـ100 مليار دولار في البنك المركزي. وعلى الرغم من المعاناة التي ستشهدها البلاد، إلا أنه من المرجح أن تتغلب على هذه العاصفة. وإذا ما حصل ذلك، فإن ادعاء خامنئي بأن دور الولايات المتحدة في العالم بات يتضاءل قد يصبح ذو ميزات.