وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

لبنان وصندوق النقد: الاتفاق وعرقلة المصالح الشخصية

بعد الوصول إلى مرحلة الانهيار، لم تملك السلطة في لبنان سوى برنامج صندوق النقد كرهان وحيد. فكما بات واضحًا اليوم، من الصعب أن يتمكن لبنان من فرض أي مسار للتصحيح الاقتصادي والمالي، ما لم يتمكن أولًا من إنجاز مسار التغيير السياسي، الذي يسمح باستبعاد المنظومة السياسيّة التي تعيق الوصول إلى أي حل يتعارض مع مصالحها.

لبنان وصندوق النقد
متظاهرون لبنانيون ينددون بالسياسات النقدية لحاكم مصرف لبنان في العاصمة بيروت في 25 يناير 2023. جوزيف عيد / وكالة الصحافة الفرنسية

علي نور الدين

غالبًا ما تخشى الحكومات من شروط صندوق النقد الدولي، حين يتم التفاوض مع الصندوق على برامج قروض مصحوبة باتفاق على إصلاحات اقتصاديّة هيكليّة. فهذه الشروط، تنطوي في العادة على إجراءات قاسية على المستوى الاجتماعي، تمامًا كحال الاتفاق الأخير على مستوى الموظفين بين تونس وصندوق النقد الدولي في منتصف أكتوبر/تشرين الأوّل 2022.

مع العلم أنّ هذا الاتفاق فرض على تونس زيادة الأعباء الضريبيّة والحد من فاتورة أجور موظفي القطاع العام، ورفع الدعم عن المواد الأساسيّة ما أجج اعتراضات نقابيّة حادّة في وجه النظام.

في حالة مصر، نص الاتفاق النهائي مع صندوق النقد في 16 ديسمبر/كانون الأوّل 2022 على الانتقال إلى سعر صرف مرن، وهو ما فرض تخفيضات متتالية وقاسية في قيمة العملة المحليّة. وفي النتيجة، انخفضت القيمة الشرائيّة لأجور المصريين، في مقابل أسعار السلع المستوردة. كما فرض برنامج صندوق النقد منذ سنوات التوسّع في عمليّات الخصخصة، وخروج الجيش والدولة تدريجيًّا من القطاعات الاقتصاديّة المختلفة.

لكل هذه الأسباب، تشكّل برامج الصندوق تحديًا كبيرًا لجميع الحكومات التي تفاوضه، نظرًا للنقمة الشعبيّة التي تثيرها شروطه، والتي قد تتحوّل إلى اعتراض عام ضد السلطات وخططها الاقتصاديّة.

ولذلك، تطول فترة المفاوضات التي تخوضها بعثات صندوق النقد، في وجه الحكومات التي تحاول تخفيف الآثار الاجتماعيّة لبرامج الصندوق، لتفادي أية تداعيات سياسيّة محتملة يمكن أن تهدد استقرار الحكم في هذه الدول.

لبنان وصندوق النقد: حالة فريدة

في هذا المشهد، يظهر لبنان كحالة فريدة من نوعها. فبعد أكثر من ثلاث سنوات على حصول الانهيار المالي، فشلت الدولة اللبنانيّة –رغم محاولاتها المتكرّرة– في الوصول إلى اتفاق نهائي مع صندوق النقد.

أمّا المختلف في حالة لبنان، فهو أنّ تعقيدات المفاوضات مع الصندوق لم ترتبط بشروطه القاسية على المستوى الاجتماعي، إذ إنّ الدولة اللبنانيّة قامت أساسًا خلال سنوات الانهيار بما هو أقسى بكثير من هذا النوع من الشروط التي يطلبها الصندوق في العادة.

فعلى سبيل المثال، ومنذ حصول الانهيار في أواخر العام 2019، قام لبنان تدريجيًّا برفع الدعم عن استيراد المحروقات والمواد الغذائيّة والمستلزمات الطبيّة، بالإضافة إلى الغالبيّة الساحقة من الأدوية. كما رفضت الدولة تصحيح أجور العاملين في القطاع العام، رغم خسارة العملة المحليّة ورواتب الموظّفين 97% من قيمتها. وبالنسبة إلى سعر الصرف، انسحب المصرف المركزي بشكل تام من مهمّة تأمين الدولارات للمستوردين، ما ربط أسعار جميع السلع بسعر الدولار في السوق الموازية.

وهكذا قامت الدولة اللبنانيّة بكل السياسات التقشفيّة التي يطلبها صندوق النقد دائمًا ، على مستوى الحد من أجور القطاع العام ورفع الدعم والابتعاد عن دعم سعر الصرف ووقف الإنفاق الاستثماري للدولة.

ولهذا السبب، وبخلاف معظم تجارب صندوق النقد في الدول الأخرى، لم يكن لدى الدولة اللبنانيّة أية مشكلة مع هذا الجانب من توجهات صندوق النقد، كما لم تضطر بعثات الصندوق إلى وضع هذه المطالب في إطار مفاوضاتها مع لبنان.

أمّا الإشكاليّة الأساسيّة التي حالت دون إنجاز الاتفاق النهائي بين لبنان وصندوق النقد، فكانت مطالب الصندوق التي تمس بمصالح المنظومة السياسيّة والنخبة الماليّة في لبنان. ولذلك، رغم توقيع تفاهم مبدئي بين لبنان والصندوق في أبريل/نيسان 2022، لم تتمكّن الدولة اللبنانيّة من إنجاز أي من الشروط المطلوبة للانتقال إلى مرحلة الاتفاق النهائي مع الصندوق.

وفي أواخر العام 2022، تم إدراج ملفّات تونس ومصر على جدول أعمال المجلس التنفيذي لصندوق النقد، لمتابعة تنفيذ الاتفاقات مع الدولتين، دون أن يظهر إسم لبنان على جدول الأعمال نفسه، في إشارة واضحة إلى تعثّر مفاوضات الصندوق مع الدولة اللبنانيّة.

أسباب حاجة لبنان لصندوق النقد

في فبراير/شباط 2020، وقبل أسابيع قليلة من إعلان تخلّف لبنان عن تسديد سنداته السياديّة، لجأت الحكومة اللبنانية إلى طلب المساعدة التقنيّة من صندوق النقد الدولي، ما مهّد في ذلك الوقت لمسار طويل من المفاوضات التي لم تنته حتّى اللحظة.

ومن المهم الإشارة هنا إلى أنّ حجم التمويل الذي ينتظره لبنان من صندوق النقد الدولي لا يتجاوز حدود الثلاثة مليار دولار، وهذا يُعتبَر مبلغًا صغيرًا للغاية قياسًا بحجم الخسائر التي تراكمت في ميزانيّات النظام المالي اللبناني، التي تتجاوز حدود 73 مليار دولار بحسب أرقام الحكومة اللبنانيّة.

لهذا السبب تحديدًا، من الواضح أن حاجة لبنان إلى برنامج صندوق النقد الدولي لا ترتبط فعليًّا بحجم التمويل المطلوب، بل بالمصداقيّة التي يمكن أن يمنحها الصندوق لخطة التعافي الماليّة، بعد الاتفاق عليها مع لبنان. ومن المعلوم أن لبنان يحتاج إلى هذه المصداقيّة لاستعادة ثقة الأسواق الماليّة، ومن ثم التمكن من إقناع حملة سندات الدين العام بإعادة جدولة الديون وفق آجال وفوائد وقيم جديدة.

كما يحتاج لبنان لهذه الثقة للتمكن من إنعاش نظامه المصرفي بعد إعادة هيكلته، واستقدام استثمارات ومساعدات خارجيّة بعد الدخول في مسار التعافي المالي. مع الإشارة إلى أنّ جميع المؤسسات الدوليّة والدول الأجنبيّة جمّدت منذ سنوات الغالبيّة الساحقة من المساعدات والقروض والاستثمارات التي كان من المفترض أن تتجه إلى مؤسسات الدولة اللبنانيّة، بانتظار التوصّل إلى اتفاق نهائي مع صندوق النقد.

هكذا، أصبح الدخول في برنامج جديد مع صندوق النقد الدولي تذكرة العبور التي تراهن عليها الدولة اللبنانيّة، للخروج من الأزمة الراهنة، في ظل انعدام الثقة بأداء الطبقة السياسيّة والمصارف اللبنانيّة.

أمّا أهم ما في الموضوع، فهو أنّ المجتمع الدولي بات يراهن على صندوق النقد كإطار رقابي مؤسساتي، يكفل التزام لبنان بمسار التصحيح المالي المتفق عليه. وهذه الرقابة يفترض أن تتم من خلال توزيع قيمة التمويل الممنوح على دفعات فصليّة، يجري خلالها تقييم تقدّم الدولة في تنفيذ الإصلاحات الهيكليّة المتفق عليها.

عرقلة مفاوضات لبنان مع صندوق النقد

كما ذكرنا سابقًا، حدد صندوق النقد الخطوات المطلوبة من لبنان قبل توقيع الاتفاق النهائي، فيما فشلت الدولة في الامتثال لمعظم هذه المطالب، لتعارضها مع أولويّات كبار السياسيين والمصرفيين النافذين في البلاد. مع الإشارة إلى أنّ لبنان يعاني من تشابك المصالح بين النخب الماليّة والمنظومة السياسيّة، وهو ما يؤثّر إلى حد بعيد على أداء السلطة التنفيذيّة، وقدرتها على تنفيذ الإصلاحات الماليّة المطلوبة منها.

فإحدى الخطوات التي طلبها صندوق النقد مثلًا، كانت وضع استراتيجيّة لإعادة هيكلة القطاع المصرفي المتعثّر، بما يسمح بحماية صغار المودعين والحد من استعمال المال العام لإنقاذ المصارف.

وهذا الشرط، كان يعني بشكل بديهي تحميل الشريحة الأولى من الخسائر القائمة اليوم في ميزانيّات المصارف لأسهم ورساميل أصحاب المصارف، الذين تورّطوا في المجازفات واستفادوا من أرباح المراحل السابقة. ولذلك، لم يتم العمل حتّى اللحظة على تنفيذ هذه الخطوة وفقًا للمعايير التي طلبها صندوق النقد.

كما طلب صندوق النقد الشروع بعمليّة تدقيق واسعة لميزانيّات المصارف التجاريّة والمصرف المركزي، للوقوف على حجم الخسائر المتراكمة في هذه الميزانيّات وأسبابها. وهذا التدقيق بالتحديد، مازال معلّقًا حتّى اللحظة، لكونه سيعني ببساطة كشف العمليّات المشبوهة التي حصلت خلال السنوات السابقة، والتي ساهمت بتبديد أموال المودعين في المصارف اللبنانيّة، بقرارات شاركت فيها المصارف والسلطة السياسيّة.

وتجدر الإشارة إلى أنّ الضغط الدولي دفع لبنان في سبتمبر/أيلول 2021 إلى تكليف شركة استشاريّة أجنبيّة بإجراء تدقيق جنائي مفصّل في ميزانيّات المصرف المركزي. إلا أنّ هذا التدقيق لم يُنجز حتّى اللحظة، نتيجة العراقيل التي منعت الشركة من الحصول على المعلومات التي تحتاجها.

في الوقت عينه، طلب صندوق النقد تطبيق قانون رفع السريّة المصرفيّة، لكشف الجرائم الماليّة السابقة والتحقيق فيها، واسترداد الأموال العامّة المنهوبة. كما طلب رفع السريّة للسماح بإعادة هيكلة المصارف، بعد الوقوف عند حقيقة وضعها المالي.

وهذا الشرط، لم يتم تنفيذه حكمًا، لكونه كان سيؤدّي إلى كشف جميع الارتكابات التي تورّط فيها السياسيّون اللبنانيون في الماضي، والتي أدّت إلى هدر أموال الدولة اللبنانيّة. كما لم يتناسب هذا الشرط مع مصالح المصارف اللبنانيّة، التي تتملّص حتّى اللحظة من كشف حقيقة أرقامها، للهروب من استحقاق إعادة الرساميل لأصحابها دون تحميلهم الخسائر.

إنهيار بلا ضوابط

كان من الممكن للبنان أن يمتلك بدائل أفضل لا تمر بصندوق النقد الدولي، لو أنّ الحكومات السابقة وضعت خططًا موثوقة تتلافى الوصول إلى مرحلة الانهيار الكامل، بما يسمح بإعادة إنتاج نموذج اقتصادي جديد ومستدام.

لكن بعد الوصول إلى مرحلة الانهيار، لم تملك السلطة في لبنان سوى برنامج صندوق النقد كرهان وحيد، بعدما تأخرت في العمل على بدائل جديّة أخرى، وبعدما فقدت ثقة الأسواق والمجتمع الدولي. ورغم ذلك، فشل لبنان في دخول برنامج صندوق النقد، رغم كل المحاولات التي بذلها بهذا الاتجاه على مدى السنوات الثلاث الماضية.

ومع استمرار التناقض بين شروط الصندوق ومصالح كبار النافذين في لبنان، صار من غير المتوقّع أن ينجح لبنان في الدخول في برنامج قرض مع الصندوق على المدى المنظور.

وهكذا باتت النتيجة المتوقّعة استمرار سقوط البلاد في دوامة الانهيار المالي، دون أي ضوابط، ودون أية خيارات إنقاذيّة أخرى يمكن الرهان عليها في الوقت الحالي.

فكما بات واضحًا اليوم، من الصعب أن يتمكن لبنان من فرض أي مسار للتصحيح الاقتصادي والمالي، ما لم يتمكن أولًا من إنجاز مسار التغيير السياسي، الذي يسمح باستبعاد المنظومة السياسيّة التي تعيق الوصول إلى أي حل يتعارض مع مصالحها.