وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

نهاية السريّة المصرفيّة في لبنان: الأسباب والنتائج

وقّع رئيس الجمهوريّة على تعديل قانون السريّة المصرفيّة في 29 أكتوبر/تشرين الأوّل 2022، وبات بالإمكان القول إنّ لبنان ودّع رسميًّا زمن السريّة المصرفيّة الواسعة النطاق.

 السريّة المصرفيّة في لبنان
المودعون اللبنانيون يصطفون لسحب الأموال من فرع فرنسبنك في بيروت في 26 سبتمبر 2022. جوزيف عيد / وكالة الصحافة الفرنسية

علي نور الدين

المقدمة

صوّتت الهيئة العامّة للمجلس النيابي في لبنان في 18 أكتوبر/تشرين الأوّل 2022 على تعديل قانون السريّة المصرفيّة، بما يفضي إلى رفع هذه السريّة تجاه مجموعة من الجهات الرسميّة المختصّة، كالسلطة الضريبيّة والمحاكم ولجنة الرقابة على المصارف والمصرف المركزي.

وبعدما وقّع رئيس الجمهوريّة هذه التعديلات في 29 أكتوبر/تشرين الأوّل 2022، بات بالإمكان القول إنّ لبنان ودّع رسميًّا زمن السريّة المصرفيّة الواسعة النطاق، والتي مثّلت تاريخيًّا ركنًا أساسيًا من أركان النظام الاقتصادي في لبنان. ولهذا السبب، يمثّل هذا الحدث تحوّلًا ماليًا كبيرًا يستحق التوقّف عنده، للبحث في أسبابه ونتائجه الاقتصاديّة.

من المهم الإشارة إلى أنّ إقرار هذه التعديلات جرى اليوم بعد سنتين وخمسة أشهر من المماطلة، التي نتجت عن محاولة المجلس النيابي التلاعب والتحايل لتفادي الرفع الفعلي للسريّة المصرفيّة. ومنذ الأساس، لم يتم العمل على هذه التعديلات إلا بفعل شروط صندوق النقد الدولي، الذي طلبها كجزء من شروط التفاهم على مستوى الموظفين المعقود مع لبنان.

فالمستفيدون من السريّة المصرفيّة، ليسوا سوى المصارف المتورّطة بالمخالفات التي بددت أموال المودعين، وكبار المتموّلين من مرتكبي التهرّب الضريبي، بالإضافة إلى المسؤولين البارزين المتهمين بعمليّات الإثراء غير المشروع. وبالنظر إلى نفوذ هؤلاء داخل النظامين السياسي والمالي، كان من المتوقّع أن لا تمر هذه التعديلات بسهولة، إلا بعد جهد كبير وبضغط قوي من الصندوق، وهو ما جرى بالفعل في النهاية.

تاريخ السريّة المصرفيّة ودورها في لبنان

بدأ العمل بمبدأ السريّة المصرفيّة في لبنان منذ الثالث من شهر سبتمبر/أيلول عام 1956، يوم تم إصدار قانون خاص يحظر على المصارف اللبنانيّة إفشاء أسماء وأرصدة وعمليّات زبائنها، لمصلحة أي طرف، بما فيها الجهات المختصّة الرسميّة. كما تشدد القانون في فرض هذه السريّة، إلى حد معاقبة مديري وموظفي المصارف بالحبس لفترات تتراوح بين ثلاثة أشهر وسنة في حال مخالفتهم مبدأ السريّة المصرفيّة، عبر إعطاء المعلومات المصرفيّة لأيّ جهة رسميّة.

وفي العشرين من شهر أبريل/نيسان 2001، تم إصدار قانون مكافحة تبييض الأموال، الذي حافظ على مبادئ السريّة المصرفيّة الصارمة، كما نص عليها قانون سريّة المصارف. إنما تم استحداث جهاز باسم “هيئة التحقيق الخاصّة”، الذي تم إعطاؤه وحده صلاحيّة رفع السريّة المصرفيّة للتحقق من حالات تبييض الأموال داخل النظام المصرفي. مع الإشارة إلى أنّ الهيئة نشأت تحت مظلّة المصرف المركزي، وبرئاسة حاكمه، ما ترك صلاحيّة رفع السريّة المصرفيّة معزولة عن أجهزة الدولة الرقابيّة الأخرى.

كل هذه التطوّرات، جعلت من النظام المصرفي اللبناني جنّة ضريبيّة لعقود من الزمن. فالمغتربون اللبنانيّون ورجال الأعمال الأجانب كانوا يبحثون عن ملجأ لادخار أموالهم، بعيدًا عن أعين السلطات الضريبيّة في الدول التي يعملون فيها. كما كان تجار دول الشرق الأوسط يحتاجون إلى نظام مالي آمن، بينما كانت الكثير من الدول العربيّة المجاورة تعيش في ظل أنظمة اقتصاديّة موجهة أو اشتراكيّة خلال القرن الماضي.

وفوق كل هذا، كانت طفرة العوائد النفطيّة تنتج ثروات هائلة بيد الأمراء ورجال الأعمال الخليجيين، الذين جذبهم النظام المصرفي اللبناني المنفتح على النظام المالي العالمي، في الوقت الذي لم تكن قد طوّرت فيه بعد دول الخليج أنظمتها المصرفيّة.

لكل هذه الأسباب، تحوّلت السريّة المصرفيّة إلى ركن أساسي من أركان النظام المصرفي اللبناني. إذ سمح هذا المبدأ الذي اعتمده لبنان باجتذاب رؤوس أموال ضخمة إلى النظام المالي المحلّي، ما تكامل مع السياسات الماليّة الرسميّة التي لطالما سعت إلى تضخيم النظام المصرفي بأي ثمن. وهذا النموذج كان يستهدف السماح للحكومات بالاقتراض من النظام المصرفي المتضخّم، لتمويل العجوزات في الميزانيّة العامّة.

سبب إصرار صندوق النقد على رفع السريّة المصرفيّة

بعد حصول الانهيار المالي، كان تعديل قانون سريّة المصارف ورفع هذه السريّة أولى الخطوات الإصلاحيّة المطلوبة من لبنان، في إطار خطة التعافي المالي المتفق عليها مع صندوق النقد الدولي. ولعلّ أبرز الأسباب التي دفعت الصندوق للمطالبة بإلغاء السريّة المصرفيّة كجزء من الخطة، كان اتجاه المؤسسات الدوليّة خلال السنوات الماضية للعمل على زيادة الشفافيّة في عمليّات المصارف، والسماح بتبادل المعلومات المتعلّقة بعملائها مع الجهات الرسميّة، بما يساعد على مكافحة الجرائم الماليّة وتبييض الأموال وتمويل الإرهاب.

في الوقت نفسه، لم تعد السريّة المصرفيّة تؤدّي أي دور إيجابي بالنسبة إلى النظام المصرفي اللبناني. فمنذ العام 2015، فُرض على لبنان توقيع معاهدات دوليّة، تسمح بتبادل المعلومات المصرفيّة مع الدول الأجنبيّة، لتتمكن هذه الدول من تتبع ودائع المقيمين لديها داخل النظام المصرفي اللبناني. مع الإشارة إلى أنّ لبنان كان مضطرًا إلى توقيع هذه المعاهدات، تحت طائلة الخروج من النظام المالي العالمي. لهذا السبب بالتحديد، لم تعد السريّة المصرفيّة تجتذب التحويلات والودائع من الخارج، من قبل الباحثين عن جنات ضريبيّة، طالما أن لبنان بات يصرّح عن هذه الودائع للدول الأجنبيّة.

إلا أنّ تلك المعاهدات لم تُلغِ السريّة المصرفيّة في ذلك الوقت. بل على العكس تمامًا، ظلّت القوانين تقدّم الحماية للمقيمين داخل لبنان، بما يمنع السلطات الضريبيّة والقضاء في لبنان من الاطلاع على حساباتهم المصرفيّة، من أجل التحقق الضريبي ومكافحة الفساد والإثراء غير المشروع.

باختصار، تحوّلت السريّة المصرفيّة خلال السنوات السبع الأخيرة إلى عبء على الاقتصاد اللبناني، دون أن تقدّم أي منفعة للنظام المصرفي في المقابل، وهو ما دفع صندوق النقد للمطالبة بإلغائها.

وأخيرًا، بعد الانهيار المصرفي الكبير الذي حصل بدءًا من العام 2019، ارتفعت المخاطر المحيطة بالنظام المصرفي اللبناني، ما أفقده القدرة على استقطاب الودائع الجديدة، ما أفقد الحاجة للسريّة المصرفيّة كعنصر جاذب للمودعين. في المقابل، من المعلوم أن مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف سيحتاجان إلى رفع السريّة المصرفيّة خلال مسار التصحيح المالي، لتدقيق أصول القطاع المصرفي المنهار، والشروع بعمليّة إعادة هيكلته من جديد.

إقرار رفع السريّة المصرفيّة بعد العراقيل

كما ذكرنا سابقًا، حاول مجلس النوّاب منذ مايو/أيّار 2020 عرقلة مسار تعديل القانون لرفع السريّة المصرفيّة، بالنظر إلى النفوذ الكبير الذي يحظى به كبار المتمولين والسياسيين والمصارف، الذين يستفيدون من السريّة المصرفيّة. وهذه العرقلة، جرت أحيانًا عبر المماطلة وتأجيل العمل على القانون، أو عبر محاولة تمرير صيغ لا ترفع السريّة بالكامل عن الحسابات المصرفيّة. لكن بفعل الضغط الدولي وضغط الرأي العام المحلّي، أقرّ المجلس النيابي هذه التعديلات ووقعها رئيس الجمهوريّة قبل انقضاء ولايته.

في النتيجة، وبحسب التعديلات، سيتمتّع القضاء بحق رفع السريّة المصرفيّة، عبر طلب المعلومات مباشرة من المصارف، ودون المرور بأي هيئة إداريّة أخرى. كما سيكون بإمكان السلطات الضريبيّة المحليّة مطابقة التصريحات الموجودة لديها مع داتا حسابات المصارف، للتحقق من عدم وجود أي تهرّب ضريبي.

أمّا أهم ما في الأمر، فهو أنّ مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف سيتمكنان من تجاوز حاجز السريّة المصرفيّة، للاطلاع على تفاصيل الميزانيّات المصرفيّة وتدقيقها، بدل أن يُحصر هذا الحق بهيئة التحقيق الخاصّة في حالات تبييض الأموال كما كان الحال سابقًا.

في خلاصة الأمر، لم تكن هذه التعديلات مثاليّة، إذ تضمّنت الكثير من الثغرات التي تحد من فعاليّة القانون، كحصر صلاحيّة القضاء برفع السريّة المصرفيّة بالحالات التي يوجد فيها دعوى قضائيّة مقامة، بدل منحه هذا الحق حتّى في مرحلة التحقيقات الأوليّة التي تسبق رفع الدعاوى. لكن من الأكيد أن ما جرى إقراره من تعديلات يمثّل تقدمًا نسبيًّا على مستوى الشفافيّة الماليّة، المطلوبة بشدة في المرحلة الراهنة في لبنان، فيما يمكن معالجة جميع هذه الثغرات على مراحل في المستقبل.

Advertisement
Fanack Water Palestine