وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

ثروة لبنان الغازيّة: ضحيّة مساومات زعمائه

ثروة لبنان الغازيّة
صورة مأخوذة من أقصى جنوب بلدة الناقورة اللبنانية ، تظهر سفينة تابعة للبحرية الإسرائيلية تقوم بدورية في المياه. محمود زيات / وكالة الصحافة الفرنسية

علي نور الدين

حرّكت إسرائيل ملف نزاعها الحدودي مع لبنان، باستقدامها سفينة تابعة لشركة “إنرجيان باور” اليونانيّة إلى حقل “كاريش” الغازي الواقع في المنطقة المتنازع عليها. سفينة شركة “إنرجيان باور”، المتعاقدة مع اسرائيل، يُفترض أن تقوم خلال الفترة المقبلة بإنتاج الغاز الطبيعي المُسال وتخزينه، بعد استخراجه من حقل “كاريش”، تمهيدًا لتصديره أو استخدامه محليًّا. مع الإشارة إلى أنّ شركة “إنرجيان باور” عززت حضور هذه السفينة بسفينتين تم تخصيصهما للدعم اللوجستي، وتحديدًا للدعم المتعلّق بنقل طواقم العمل والمعدّات وإطفاء الحرائق، لمباشرة العمل سريعًا في الحقل المتنازع عليه فور وصول السفينة إلى منطقة العمليّات. وبذلك، بدا من الواضح أن الشركة اليونانيّة تحاول استعجال بدء عمليّة الإنتاج من الحقل، الذي استحوذت على امتياز تشغيله واستثماره منذ العام 2017، بمعزل عن أي مفاوضات بين إسرائيل ولبنان على المنطقة البحريّة المتنازع عليها.

احتجاجات رسميّة

سرعان ما أدرك الزعماء اللبنانيّون خطورة الموقف، خصوصًا أن حقول الغاز في المناطق البحريّة عادةً ما تتصل ببعضها البعض تحت الأرض، ما يعني أن مخزون حقول الغاز اللبنانيّة المحتملة ستتأثّر بالنشاط الإسرائيلي بمعزل عن كيفيّة رسم الحدود البحريّة في المنطقة المتنازع عليها لاحقًا. وعوضًا عن انتظار المفاوضات والتفاهم النهائي بين الطرفين الإسرائيلي واللبناني على كيفيّة رسم الحدود، ومن ثم الاتفاق على كيفيّة تقاسم الإنتاج في الحقول المتصلة تحت الأرض، ستكون إسرائيل قد فرضت بدء الاستخراج من طرف واحد، ليكون لبنان أمام أمر واقع مستجد. من هنا، كان من الواضح أن لبنان سيتضرّر اقتصاديًّا بشكل قاسٍ من الخطوة الإسرائيليّة، وهو ما أثار حفيظة جميع الأطراف في لبنان.

لهذا السبب بالتحديد، أطلق رئيس الجمهوريّة اللبنانيّة ميشال عون موقفًا اعتبر فيه أنّ أي عمل أو نشاط في المنطقة المتنازع عليها سيشكل استفزازًا وعملًا عدائيًّا، فيما طلب عون من الجيش اللبناني تزويده بالمعطيات المفصّلة المتعلّقة بالتحركات الإسرائيليّة المستجدة على الحدود. أمّا رئيس الحكومة اللبنانيّة نجيب ميقاتي، فاعتبر بدوره أنّ تعدي إسرائيل على ثروة لبنان المائيّة وفرض أمر واقع في منطقة متنازع عليها مسألة في غاية الخطورة، مفسّرًا ما يجري من جانب إسرائيل بمحاولة “افتعال أزمة جديدة”. أمّا الرهان الأساس الذي يتطلّع إليه المسؤولون اللبنانيّون، فليس سوى وساطة  آموس هوكشتين في الملف،  الوسيط  الاميركي وكبير مستشاري الولايات المتحدة الأميركيّة لأمن الطاقة العالمي، الذي توسّط خلال الفترة الماضية بين لبنان وإسرائيل لمحاولة إيجاد حلول للنزاع الحدودي القائم.

أخطاء ومساومات خطيرة

إنما بمعزل عن جميع تصريحات الزعماء اللبنانيين المستنكرة، كان من الواضح أن الرأي العام اللبناني مستاء من طريقة تعامل دولته مع هذا الملف، بالتوازي مع توجّسه من النشاط الإسرائيلي في المنطقة البحريّة المتنازل عليها. وبصورة أوضح، كان من الأكيد أن الزعماء اللبنانيين ارتكبوا أخطاء فادحة خلال الفترة الماضية، بل وأقدموا على مساومات خطيرة غير مبرّرة، سمحت لإسرائيل بالإقدام على هذه الخطوة المستجدة مؤخرًا. وفي طليعة هذه المساومات الخطيرة، كان عدم إقدام السلطة اللبنانيّة على إصدار مرسوم يثبّت حق لبنان بالمساحات البحريّة المتنازع عليها، التي تمتد حتّى النقطة التي باتت تُعرف اليوم بالخط 29.

وهكذا، ومع تلكّؤ الدولة اللبنانيّة عن إصدار هذا المرسوم، افتقدت البلاد اليوم إلى السند القانوني الذي يسمح لها اليوم بالاحتجاج دوليًّا على النشاط الإسرائيلي في المنطقة المتنازع عليها، أو بالطلب من الشركة اليونانيّة فرملة نشاطها بانتظار البت بالنزاع الحدودي. بصورة أوضح: طالما أنّ الدولة اللبنانيّة لم تصدر المرسوم الذي يدعي ملكيّة لبنان هذه المساحات البحريّة، لا يمكن للدولة أن تبادر لاتخاذ أي إجراء قانوني دولي في وجه إسرائيل. مع الإشارة إلى أنّ خبراء المساحة والقانون يؤكّدون أحقيّة لبنان بهذه المساحات البحريّة المتنازع عليها، بينما تحتاج الدولة اللبنانيّة لاتخاذ قرار سياسي بضم هذه المساحات إلى حدودها التي تطالب بها بشكل رسمي، للتمكّن من التفاوض عليها مع إسرائيل، ومنع أي نشاط في المنطقة المتنازع عليها.

إلا أنّ عدم إصدار هذا المرسوم، على أهميته، لم يكن أخطر ما في الموضوع. فمنذ العام 2007، وهو العام الذي شهد بداية تعامل الدولة اللبنانيّة مع ملف حدودها البحريّة، اتسم أداء الحكومات المتعاقبة بالتسرّع وقلّة الخبرة، ناهيك عن التفريط بالمساومة على حقوق الدولة في مساحاتها البحريّة. وهذا الأداء بالتحديد، نتج عنه تراكم كبير في الأخطاء والعثرات، التي يدفع ثمنها لبنان اليوم. وفي كثير من الأحيان، كان المتابعون يشيرون إلى منافع شخصيّة تقف خلف بعض التنازلات والمساومات، التي دفعت ثمنها البلاد.

خطأ العام 2007

سنة 2007، بدأ لبنان بالتفاوض مع قبرص على الخط الحدودي الذي يفصل بين المناطق الاقتصاديّة البحريّة الخالصة لكل من الدولتين. وفي تلك المرحلة، دخلت قبرص المفاوضات بفريق كبير من الخبراء التقنيين من أصحاب الخبرة الطويلة في هذا المجال، والذين أعدّوا ملفّاتهم بإتقان بناءً على تجارب طويلة ومتنوّعة في هذا المجال. أمّا لبنان، فلم يكن قد باشر بعد تحضير أي مقاربة رسميّة لملف ترسيم حدوده البحريّة، بل ولم يكن قد أعد أي فرق تقنيّة متخصصة ومدرّبة لهذه الغاية. ولهذا السبب بالتحديد، دخل الفريق اللبناني المفاوضات دون أن يكون محصّنًا لحماية ثروات البلاد الطبيعيّة من أي خطأ يمكن أن يفضي إلى حرمان البلاد من مساحات بحريّة ثمينة.

وهكذا، أفضت المفاوضات إلى ترسيم الحدود البحريّة بين لبنان وقبرص، إنما مع ارتكاب الوفد اللبناني خطأً فادحًا، أدّى إلى تحديد نقطة بداية الحدود اللبنانيّة من جهة الجنوب عند الخط رقم 1، الذي يحرم لبنان من مساحات واسعة من المياه البحريّة، لمصلحة إسرائيل. وسرعان ما استفادت إسرائيل من هذا الخطأ الفادح الذي ارتكبه لبنان خلال ترسيمه الحدود مع قبرص، فسارعت إسرائيل إلى التفاوض مع قبرص وترسيم الحدود معها على هذا الأساس، لتكريس الترسيم المجحف بحق لبنان كأمر واقع وكحدود معتمدة بين الأطراف الثلاثة. لاحقًا، التفت لبنان إلى الخطيئة التي ارتكبها مسؤولوه، فحاول تصحيح المسألة عبر امتناع مجلس النوّاب عن المصادقة على الاتفاقيّة مع قبرص، ومن خلال رسائل إلى الأمم المتحدة، لكنّ ما كُتب كان قد كُتب.

منذ ذلك الوقت، تحوّل الخط رقم 1، الذي نتج عن مفاوضات لبنان مع قبرص، إلى الخط التي تطالب به إسرائيل كخط حدودي يفصلها مع لبنان، نظرًا للمساحات الشاسعة التي يقتطعها هذا الخط من المياه البحريّة اللبنانيّة لمصلحتها. ومنذ ذلك الوقت أيضًا، بات ملف الحدود البحريّة اللبنانيّة أسير ذلك الخطأ التاريخي، وبات كل ما يقوم به لبنان مجرّد محاولات للتعامل مع الضرر الناتج عن ذلك الخطأ. أما المشكلة الأساسيّة، فهي أن السلطة في لبنان قامت في كل مرحلة بمحاولة تصحيح هذا الخطأ، إنما عبر ارتكاب خطأ آخر.

خطأ العام 2010

أراد لبنان تصحيح الخطأ السابق الذي تم ارتكابه عام 2007، فتم تكليف لجنة خاصّة لإعادة درس مسألة الحدود البحريّة، وإعداد تقرير يمكن على أساسه أن تتبنّى الحكومة اللبنانيّة خطوطًا حدوديّة جديدة. وبتاريخ 14/07/2010 تبنّت الحكومة اللبنانيّة نتائج عمل هذه اللجنة، وأودعت الأمم المتحدة إحداثيّات جديدة لحدودها البحريّة، تم من خلالها تحديد ما بات يُعرف بالخط 23 كنقطة الحدود الجنوبيّة للبنان. هكذا، أعطى الخط الجديد لبنان 860 كلم2 من المساحات البحريّة الإضافيّة، التي تقع جنوب الخط رقم 1. ولذلك، تحوّلت ال860 كلم2 إلى منطقة متنازع عليها بين لبنان وإسرائيل، نظرًا لإصرار إسرائيل على تحديد الخط الحدودي عند الخط رقم 1.

ثروة لبنان الغازيّة
@FANACK

لاحقًا، اكتشف لبنان أنّ تبنّي الخط رقم 23 كان بدوره خطأ آخر. فبعد أن كلفت الحكومة اللبنانيّة المكتب الهيدروغرافي البريطاني UKHO بإعداد تقرير حول تعيين الحدود اللبنانية، تبيّن أن القانون الدولي يعطي لبنان مساحات بحريّة إضافيّة تُقدّر ب1430 كلم2، فوق تلك التي يعطيه إياها الخط رقم 23. بمعنى آخر، يضيف الخط رقم 23 –الذي اعترف به لبنان- نحو 860 كلم2 من المساحات البحريّة جنوب الخط الذي تطالب به إسرائيل، لكنّه يحرم لبنان من أكثر من 1430 كلم2 من المساحة البحريّة الإضافيّة التي يُفترض أن تكون من حقّه. وهذا التقرير، هو ما حدد خطًا جديدًا سمّي بالخط 29، والذي من شأنه –في حال تثبيته- أن يشمل كل المساحات البحريّة التي يحق للبنان الاستفادة منها بحسب القانون الدولي.

أهم ما في الموضوع، هو أن الخط رقم 29 يمكن أن يسمح للبنان بالمنافسة على حقوق في حقل كاريش، الذي يصبح أكثر من نصفه من حق لبنان في حال تحديد حدود لبنان الجنوبيّة عند هذا الخط. كما يمكن للخط 29 أن يحيّد حقل قانا المحتمل عن أي مطالب إسرائيليّة، حيث يصبح كامل هذا الحقل في الجانب اللبناني في حال تثبيت حدود لبنان الجنوبيّة عند هذا الخط. ولهذا السبب بالتحديد، تعالى صوت قيادة الجيش اللبناني، التي تابعت تفاصيل هذا الملف بدقّة، لمطالبة الحكومة اللبنانيّة بإصدار مرسوم بتبنّى الخط رقم 29 كنقطة حدود لبنان البحريّة الجنوبيّة. مع الإشارة إلى أنّ مجرّد تبنّي الحكومة الخط 29، سيجبر إسرائيل على فرملة أي مشاريع بتروليّة في المنطقة الواقعة شمال هذا الخط، بانتظار التفاوض مع لبنان على المنطقة المتنازع عليها.

كلفة عدم إصدار المرسوم

لم تصدر الحكومة اللبنانيّة أي مرسوم يتبنّى الخط رقم 29، رغم كل الدراسات التي تؤكّد أحقيّة لبنان بالمساحات البحريّة حتّى هذه النقطة، بل ورغم تأكيد المسؤولين اللبنانيين أن أنشطة إسرائيل شمال هذا الخط تمثّل اعتداء على منطقة متنازع عليها. أمّا كلفة عدم إصدار المرسوم، فهي مبادرة إسرائيل لإطلاق أنشطة بتروليّة في حقل كاريش، الذي يقع معظمه شمال الخط 29، دون أن يتمكّن لبنان من المبادرة بأي خطوة قانونيّة في المحافل الدوليّة. ولهذا السبب بالتحديد، بدأ المجتمع المدني اللبناني بتنظيم احتجاجات واعتصامات رفضًا لتقاعس السلطة عن حماية ثروات الشعب اللبناني، المتمثّلة بمخزون الغاز الواقع في المناطق البحريّة المتنازع عليها. أمّا الملفت للنظر، فهو تصدّي النوّاب التغييريين، الذين يمثّلون قوى المعارضة المنبثقة عن ثورة 17 تشرين، لهذه المسألة، من خلال مطالبة السلطة بخارطة طريق تبدأ بإصدار مرسوم بتبنّى الخط 29، ومن ثم إطلاق مسار للضغط على إسرائيل في المحافل الدوليّة، لوقف أنشطتها البتروليّة شمال هذا الخط. لكن حتّى اللحظة، لم تتجاوب السلطة مع أي من هذه المناشدات، بل ولم تقدّم أي تفسير لعدم القيام بالخطوة القانونيّة التي يحتاجها لبنان لوقف الاعتداء الإسرائيلي على حقوله الغازيّة.

تتنوّع التحليلات التي تعلّل تقاعس السلطة وعدم إقرارها هذا المرسوم. ثمّة من يربط بين هذا التقاعس ووجود عقوبات أميركيّة مفروضة على بعض أقطاب الحكم كصهر رئيس الجمهوريّة جبران باسيل، حيث يعتبر أصحاب هذه النظريّة أن باسيل يحاول القيام بمقايضة تفضي إلى رفع العقوبات الأميركيّة المفروضة عليه، مقابل تنازل السلطة اللبنانيّة عن الخط رقم 29 وغض النظر عن أنشطة إسرائيل البتروليّة في المنطقة المتنازع عليها. مع الإشارة إلى أنّ هذه العقوبات مفروضة على باسيل جرّاء تورّطه بملفّات فساد محليّة، بالإضافة إلى تحالفه مع حزب الله. كما يربط البعض تقاعس السلطة بوجود مصالح ماليّة دوليّة لبعض أقطاب الحكم الآخرين، كرئيس الحكومة نجيب ميقاتي، الذي يخشى على استثماراته في الخارج من أي عقوبات دوليّة يمكن أن يتم فرضها عليها، في حال إقدامه على إصدار مرسوم الاعتراف بالخط 29. مع الإشارة إلى أنّ ثمّة شبهات تحوم حول تورّط ميقاتي بملفّات فساد محليّة، وهو ما يجعله يخشى من عقوبات شبيهة بتلك التي تم فرضها على جبران باسيل.

باختصار، يبدو من الواضح أن الولايات المتحدة الأميركيّة تبدي الكثير من الاهتمام بملف الغاز في شرق المتوسّط، وهو ما يدفعها إلى محاولة لجم الخلاف الحدودي اللبناني الإسرائيلي بأي وسيلة ممكنة. وفي المقابل، يبدو من الواضح أيضًا أن الغالبيّة الساحقة من القادة اللبنانيين يملكون المصالح الخاصّة التي تدفعهم إلى مقايضة تنازلهم عن ثروة لبنان البتروليّة، مقابل حصولهم على منافع شخصيّة. وهذه المنافع، يمكن أن تتنوّع بين رفع العقوبات على بعضهم، أو حماية بعضهم الآخر من عقوبات محتملة، أو حتّى استفادة آخرين من صفقات محتملة في الخارج. في جميع الحالات، الطرف الوحيد الذي سيدفع الثمن في النهاية هو الشعب اللبناني.