يؤثر النموّ الاقتصادي الهندي على دول الشرق الأوسط، وخصوصًا الخليجيّة منها، ويجلب فرصًا للتجارة والاستثمار والتعاون الجيوسياسي.
علي نور الدين
تراقب دول الشرق الأوسط، وخصوصًا دول مجلس التعاون الخليجي والعراق، تنامي الدور الذي تلعبه الهند كأبرز التكتلات الاقتصاديّة السريعة النمو.
فحاليًا، ثمّة من يصف الهند بالصين الجديدة، في إشارة إلى تحوّلها إلى أحد أهم الأقطاب الصناعيّة الواعدة على المستوى العالمي.
وهذا ما يفتح آفاقا واسعة للشراكات التجاريّة والاستثماريّة ما بين الهند والاقتصادات القريبة منها جغرافيًا، ومنها دول الشرق الأوسط. كما ستملك دول الشرق الأوسط فرصة بالغة الأهميّة لتعزيز أدوارها الجيوسياسيّة، وتنويع علاقاتها الاقتصاديّة الدوليّة، بالاستفادة من النموّ الاقتصادي الهندي.
معجزة تنمويّة في الهند
تشهد الهند حاليًا نموًّا اقتصاديًا سريعًا ومستدامًا، بفضل سياسات عامّة اتبعتها، بالإضافة إلى بعض العوامل السياسيّة والديموغرافيّة.
فبحسب صندوق النقد الدولي، سيكون الاقتصاد الهندي الأسرع نموًا في العالم خلال العام 2023، إذ من المتوقّع أن يسجّل الناتج المحلّي الهندي ارتفاعًا بنسبة 6.1%، وهي نسبة تتجاوز متوسّط نمو الأسواق الناشئة البالغ 4%، وتوازي خمسة أضعاف متوسّط نمو أسواق الدول الصناعيّة البالغ 1.2%.
في واقع الأمر، لم تصل الهند إلى نسب النمو السريعة هذه بشكل مفاجئ هذا العام، بل كان الاقتصاد الهندي يراكم خلال الأعوام الماضية عوامل القوّة، التي سمحت له بمنافسة كبرى الاقتصادات العالميّة.
فقبل عقد واحد من الزمن، كانت الهند تحل في المرتبة رقم 11 من حيث حجم الناتج المحلّي الإجمالي، من بين كبرى الاقتصادات العالميّة، في حين أنّ المرتبة الخامسة كانت من حصّة المملكة المتحدة. وبعدما زحفت الهند تدريجيًا خلال السنوات اللاحقة باتجاه المراتب الأولى، تمكنت في الربع الأخير من العام 2021 من تجاوز المملكة المتحدة، وانتزاع المرتبة الخامسة عالميًا، بينما حلّت المملكة المتحدة في المرتبة السادسة.
باختصار، ثمّة ظاهرة اقتصاديّة يصفها البعض بالمعجزة التنمويّة في الهند، التي استيقظت متأخّرة مقارنة بجيرانها في دول شرق وجنوب آسيا، لكنّها باتت اليوم تسابق كبرى التكتلات الاقتصاديّة العالميّة، ما يمثّل أبرز القفزات الاقتصاديّة التي يشهدها التاريخ الحديث. وخلال السنوات الخمس المقبلة، من المتوقّع بحسب خطط الحكومة الهنديّة أن تتمكن البلاد من التقدّم إلى المرتبة الثالثة عالميًا بعد الولايات المتحدة الأميركيّة والصين، على مستوى حجم الناتج المحلّي، بفضل النمو السريع الذي يشهده القطاع الصناعي الهندي.
القوّة الديموغرافيّة الهنديّة
تتنوّع عوامل القوّة الاقتصاديّة التي تمتلكها الهند حاليًا، والتي تسمح لها بمنافسة الصين وسائر دول شرق آسيا على مستوى تنمية واستقطاب الاستثمارات في القطاعات الإنتاجيّة.
أبرز هذه العوامل، يتمثّل في القوّة الديموغرافيّة التي تملكها الهند، والتي ترتبط بشكل وثيق بحجم القوّة العاملة المتوفّرة. فبحسب أرقام صندوق الأمم المتحدة للسكان، وبحلول منتصف العام 2023، تجاوز عدد سكّان الهند مثيله في الصين، ليتجاوز مستوى ال1.4286 مليار نسمة، ما جعل الهند منذ ذلك الوقت الدولة الأكثر اكتظاظًا بالسكان في العالم. وبينما بلغ عدد سكّان الصين ذروته خلال العام 2022 وبدأ بالتراجع بعدها، بفعل شيخوخة الهرم السكّاني هناك، من المتوقّع أن يستمر عدد سكّان الهند بالنمو على مدى العقود المقبلة.
أمّا أهم ما في القوّة الديموغرافيّة الهنديّة، فهو متوسّط الأعمار المنخفض مقارنة بالصين، إذ إنّ نصف سكّان الهند تقل أعمارهم عن ال30 عامًا، في حين أنّ الصين تعاني اليوم من انخفاض نسبة الشباب لديها إلى ما دون ال17% من إجمالي عدد السكّان. وهذه التحوّلات الديموغرافيّة، تعطي الهند أفضليّة حاسمة في السباق بين الدولتين على اجتذاب الاستثمارات الصناعيّة الأجنبيّة، التي تبحث عن توفّر اليد العاملة المنتجة وبأجور منخفضة نسبيًا.
مزايا القوّة العاملة في الهند لا تقتصر على معدلات الخصوبة المرتفعة والهرم السكّاني الشاب، بل تشمل توفّر الخبرات في القطاعات الرقميّة والتقنيّة المتقدمة، وانتشار اللغة الإنكليزيّة في صفوف خرّيجي المعاهد والجامعات الهنديّة. كما تمتاز الهند بتوفّر أكبر نظام تعليمي جامعي في العالم، من حيث عدد الكليّات والطلّاب، وهذا ما يسمح بتخرّج 20 مليون طالب سنويًا إلى سوق العمل. وجميع هذه العوامل، جعلت الهند مقصدًا للشركات الأجنبيّة الباحثة عن مراكز إنتاج جديدة، كبديل عن الصين.
أثر سياسات مودي الخارجيّة والقيود التجاريّة على الصين
بالتوازي مع كل هذه المزايا التنافسيّة، ركّز رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي على مجموعة من الإصلاحات والسياسات العامّة، الكفيلة بالاستفادة من هذه القوّة العاملة المحليّة وجذب الاستثمارات الأجنبيّة.
بعد وصول مودي إلى الحكم عام 2014، وخلال السنوات الخمس الأولى من عهده، ارتفعت قدرة المحطات الكهربائيّة الهنديّة بنسبة 66%، كما ازدادت الطرق الريفيّة بنسبة 85%، فيما تم توسعة شبكة الطرق السريعة بنسبة 45%. وبهذا الشكل، كان مودي يزيد من قدرة البنية التحتيّة المحليّة على تحقيق معدلات النمو الاقتصادي المنشودة، كما زاد من قدرة هذه البنية التحتيّة على استيعاب توسّع النشاط الصناعي.
في المقابل، حافظ مودي على سياسة خارجيّة براغماتيّة جدًا، وعلى علاقات استراتيجيّة متوازنة مع جميع القوى الدوليّة المؤثرة اقتصاديًا وسياسيًا. فعلى سبيل المثال، تمكن مودي من الاستفادة من العقوبات المفروضة على روسيا منذ العام 2022، للاتفاق مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على شراء النفط الروسي بأسعار منخفضة وبحسومات كبيرة، ما خدم القدرة التنافسيّة للصناعات المحليّة الهنديّة. لكن في السنة عينها، أحيا مودي مفاوضاته مع الاتحاد الأوروبي، للتوصّل إلى اتفاقيّة للتجارة الحرّة، بهدف فتح الأسواق الأوروبيّة أمام الصناعات الهنديّة.
وداخليًا، أطلق مودي مجموعة من الحوافز والتسهيلات الهادفة إلى استقطاب استثمارات الشركات الأجنبيّة. ومن هذه الحوافز مثلًا تقديم قروض مدعومة تغطّي نصف كلفة أي مصنع في قطاع المواصلات والشرائح الإلكترونيّة، و30% من كلفة إنشاء مصانع الشاشات الذكيّة. وبهذا الشكل، سعت الحكومة الهنديّة إلى استقطاب الاستثمارات في المجالات التي تكمّل سلاسل الإنتاج، في القطاعات المتقدمة تقنيًا. كما قدّمت الحكومة الهنديّة رزمًا كبيرة من التسهيلات والحوافز الضريبيّة، للشركات الأجنبيّة التي ترغب بنقل جزء من سلاسل إنتاجها من دول أخرى إلى الهند.
لاحقًا، جاءت العقوبات والقيود الأميركيّة على الشركات والسوق الصينيّة، وهذا ما حوّل الصين إلى بيئة طاردة للاستثمار الأجنبي، وخصوصًا في قطاع التكنولوجيا. وهنا، بدأت الهند تحصد خلال السنوات الأخيرة ثمار السياسات العامّة التي قام مودي بتطبيقها منذ العام 2014، فبدأ العديد من كبرى الشركات الأجنبيّة بنقل أجزاء وازنة من سلاسل إنتاجها من الصين إلى الهند، تمامًا كما فعلت آبل وغوغل ومايكروسوفت وديل وغيرها من شركات الصناعات التكنولوجيّة.
هكذا، ساهمت جميع هذه العوامل السياسة والديموغرافيّة والاقتصاديّة بالتأسيس للنهضة الاقتصاديّة التي تشهدها الهند اليوم، والتي يفترض أن تستمر بقيادة معدلات النمو على مدى السنوات المقبلة. وهذا بالذات ما يقلق العديد من دول شرق وجنوب آسيا، مثل الصين، إزاء تحوّل الهند إلى قطب جاذب للاستثمارات الأجنبيّة، بدل أن تتجه هذه الاستثمارات إلى الصين وسائر الدول الآسيويّة.
فرص دول الشرق الأوسط
من الأكيد أنّ كل هذه التطوّرات ستحمل فرصًا مهمّة لدول الشرق الأوسط، بالنظر إلى الترابط التاريخي ما بين الاقتصاد الهندي واقتصادات هذه الدول، وخصوصًا الخليجيّة منها، بالإضافة إلى التقارب الجغرافي ما بين الهند والشرق الأوسط. وهذه الفرص لن تقتصر على الجانب الاستثماري والتجاري فحسب، بل ستشمل بعض التحوّلات السياسيّة التي يمكن أن تنتج عن الصعود الاقتصادي الهندي.
فالهند تُعتبر اليوم ثالث أكبر مستورد للنفط والغاز عالميًا، بعد كل من الصين والولايات المتحدة، حيث تصل قيمة وارداتها من مصادر الطاقة إلى حدود ال119 مليار دولار أميركي سنويًا. ورغم استفادة الهند من انخفاض أسعار النفط الروسي، مازالت دول الخليج، وخصوصًا قطر والإمارات العربيّة المتحدة والمملكة العربيّة السعوديّة، تؤمّن 60% من حاجات الشركات الهنديّة لمصادر الطاقة.
ولهذا السبب، من الأكيد أنّ تنامي حجم الصناعات الهنديّة سيعني تلقائيًا زيادة طلب الشركات الهنديّة على النفط والغاز الخليجي، ما سيؤمّن سوقًا مستقرًا لهذا النوع من الصادرات الخليجيّة. مع الإشارة إلى أنّ التقارب الجغرافي ما بين الهند ودول الخليج، يسمح بتحييد سلاسل توريد الطاقة بين الطرفين عن التوترات الأمنيّة والعسكريّة، التي يمكن أن تهدد هذه الإمدادات في أنحاء أخرى من العالم.
وتجدر الإشارة إلى أنّ تنامي طلب الهند على مصادر الطاقة الخليجيّة يكتسب أهميّة استثنائيّة في سوق الغاز المُسال بالتحديد، وخصوصًا بالنسبة لقطر، التي تعتمد بشكل كبير على صادرات الغاز. فتأمين بيع إنتاج الغاز، وبموجب عقود طويلة الأجل، يمثّل شرطًا لا يمكن تجاوزه قبل تطوير حقول الغاز الموجودة.
ومن المعلوم أن شركة “بترونت”، أكبر مستورد للغاز في الهند، طلبت في فبراير/شباط 2023 زيادة مشترياتها من الغاز القطري المُسال بنحو مليون طن سنويًا، بالإضافة إلى الكميّات التي كانت تستوردها سابقًا، والتي كانت تقارب ال8.5 مليون طن سنويًا. وهذا النوع من الصفقات الطويلة الأجل، هو ما يسمح لقطر اليوم بتطوير حقل غاز الشمال، بهدف رفع إنتاجها من الغاز المُسال.
في هذا الوقت، تمثّل القطاعات الإنتاجيّة الهنديّة اليوم عامل جذب للاستثمارات والصناديق السياديّة الخليجيّة، الباحثة عن فرص مغرية في أسواق جنوب آسيا، لتنويع توظيفاتها وعدم حصرها بالأسواق الغربيّة. ولاستقطاب هذه الرساميل، قدّمت الحكومة الهنديّة أساسًا إعفاءات ضريبيّة كبيرة لأرباح صناديق الثروة السياديّة، من استثماراتها في الهند. وهذا ما دفع جهاز أبو ظبي للاستثمار، وشركة مبادلة للاستثمار الإماراتيّة، وصندوق الاستثمارات العامّة السعودي، للدخول في استثمارات طويلة الأجل في قطاعات البنية التحتيّة والطاقة والصناعة في الهند.
وعلى أي حال، يتسق اتجاه الدول الخليجيّة للاستثمار في الهند مع سعي بعض زعماء هذه الدول، مثل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، لتقليص الاعتماد على الشركات الاستراتيجيّة مع الولايات المتحدة الأميركيّة والدول الغربيّة. ومن هذه الزاوية بالتحديد، يمكن فهم حرص بن سلمان على إنشاء مجلس خاص للشراكة الاستراتيجيّة مع الهند، بهدف تطوير علاقات البلدين في المجالات الدفاعيّة والأمنيّة والنفطيّة.
في المقابل، وبينما يسعى العراق إلى التحوّل إلى مركز إقليمي للنقل في منطقة الشرق الأوسط، سيسمح تنامي الصادرات الهنديّة بزيادة الحاجة إلى البنية التحتيّة العراقيّة، التي ستقوم بنقل هذه الصادرات شمالًا باتجاه أوروبا. مع العلم أن الهند تمثّل حاليًا ثاني أكبر شريك تجاري للعراق، بعد الصين، بينما يمثّل العراق خامس أكبر شريك تجاري للهند.
ولذلك، يمكن القول إن خطوط التوريد الموجودة أصلًا بين البلدين ستسمح للعراق بالتحوّل إلى مركز لإعادة تصدير المنتجات الهنديّة، بعد إنجاز الاستثمارات التي تكفل بتحويله إلى مركز للنقل في منطقة الشرق الأوسط.
في خلاصة الأمر، سيكون على دول الشرق الأوسط خلال السنوات المقبلة تعميق علاقتها السياسيّة والاقتصاديّة مع الهند، التي تتجه للعب أدوار مهمّة على مستوى الاقتصاد العالميّة.
ولتحقيق هذه الغاية، بإمكان دول الخليج الاستفادة من القواسم المشتركة التي تجمعها بالهند في مجال السياسة الخارجيّة. فالهند، تمامًا كدول الخليج، تحافظ على علاقات متوازنة وبراغماتيّة مع الدول الغربيّة وروسيا والصين في الوقت عينه، وهذا سيسمح للهند ودول الخليج بالبحث عن فرص التعاون الاستراتيجي بعيدًا عن الاستقطابات التي تثيرها النزاعات الدوليّة الآخذة بالتزايد.