علي نور الدين
للمرّة الثالثة خلال عشر سنوات، تتجه تونس إلى طلب قرض جديد من صندوق النقد، على أساس رزمة من الإصلاحات النقديّة والاقتصاديّة التي تحاول الحكومة التفاهم عليها مع الصندوق. القرض الجديد، الذي تسعى الحكومة التونسيّة لأن يتخطّى حدود الأربع مليارات دولار يُفترض أن يتوازى مع رزمة مع شروط الصندوق الموجعة. وأبرز هذه الشروط، يتمثّل بخفض حجم قطاع الوظيفة العامّة، الذي يبلغ “أحد أعلى المستويات في العالم”، على حد قول جيروم فاشيه، ممثّل صندوق النقد في تونس. فبالنسبة إلى الصندوق، تُعتبر هذه المسألة بالتحديد إحدى أبرز التحديات التي يُفترض أن تتعامل معها تونس كجزء من أي مسار للإصلاح الاقتصادي المتفق عليه مع الصندوق، نظرًا لحجم لفاتورة أجور موظفي القطاع العام التي تجاوزت ال6.8 مليارات دولار لغاية العام 2021، أي ما يقارب ال35% من إجماليّة الميزانيّة العامّة. مع الإشارة إلى أنّ كتلة الأجور هذه باتت توازي أكثر من 17.4% من حجم الناتج المحلّي للبلاد، في الوقت الذي تعد فيه الحكومة بتخفيض هذه الكلفة إلى أقل من 15% من الناتج.
شروط الصندوق القاسية
على أي حال، سرعان ما تبيّن أن ما يتم التحضير له من شروط لبرنامج صندوق النقد الجديد مع تونس لن يقتصر على تحجيم فاتورة أجور موظفي القطاع العام، أو تخفيض عدد موظفيه. فمع تقدّم المفاوضات بين الحكومة التونسيّة والصندوق، تبيّن أن هذه لائحة الشروط هذه امتدت لتشمل إلغاء الدعم الحكومي في قطاعات الكهرباء والمحروقات والغاز، وتطبيق إجراءات تقشفيّة قاسية على الميزانيّة العامّة للدولة. كما شملت لائحة الإصلاحات التي تناولتها مفاوضات الحكومة مع الصندوق رفع أسعار الخدمات العامّة التي تقدّمها مؤسسات الدولة، وإعادة هيكلة هذه المؤسسات، مع ما يعنيه ذلك من خصخصة بعض المرافق العامّة، وخفض عدد موظفيها والاستغناء عن خدمات بعضهم.
باختصار، كان من الواضح أن برنامج صندوق النقد الجديد، الذي يتم التحضير له في المفاوضات الحاليّة، سيشمل سلسلة من الإجراءات الموجعة على المستوى المعيشي، وخصوصًا بالنسبة إلى الفئات المحدودة الدخل، وتلك التي تستفيد من رواتب الوظيفة العامّة. مع العلم أنّ أقسى هذه الشروط ارتبط تحديدًا فكرة تجميد الأجور لمدّة خمس سنوات، ما يعني عدم تأقلم هذه الأجور مع معدلات التضخم المتوقعة. ويكفي أن نشير إلى أنّ معدّل التضخّم بلغ في شهر آذار الماضي حدود ال7.2%، لندرك مدى قسوة تجميد الأجور على مدى خمس سنوات متتالية في المستقبل، وتحديدًا من جهة التدهور الذي سيطرأ على قيمة هذه الأجور الشرائيّة بالتوازي مع ارتفاع أسعار السوق.
إضراب الاتحاد العام التونسي للشغل
لكل هذه الأسباب، واستباقًا للاتفاق النهائي الذي تنوي الحكومة التونسيّة توقيعه مع الصندوق، ورفضًا للشروط التي يتم التحضير لها، أعلن الاتحاد العام التونسي للشغل أحد أكبر الإضرابات العماليّة الشاملة التي شهدتها البلاد في تاريخها. الاتحاد، الذي يمثّل أكبر التجمعات النقابيّة في تونس، تمكّن من حشد مئات آلاف العمال والموظفين في 159 مؤسسة عامّة في جميع أنحاء البلاد، من أجل فرض التزام 97% من الدوائر الرسميّة والإدارات العامّة بهذا الإضراب. وبذلك، وجّه الاتحاد يوم الإضراب، في 16 حزيران/يوليو الماضي، ضربة مؤلمة للحكومة التونسيّة وما أحرزته من تفاهمات مع صندوق النقد.
أمّا الأهم، فكان المدلولات السياسيّة لهذا الإضراب، إذ تحوّل الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي يضم أكثر من مليون عضو في جميع أنحاء تونس، إلى أشرس معارضي الرئيس قيس سعيّد. وبذلك، خلق الاتحاد كتلة قادرة على تحدّي سياسات سعيّد الاقتصاديّة والاجتماعيّة، في مواجهة محاولات سعيّد تركيز السلطات في يده، وتعزيز سلطته عبر استقدام دعم صندوق النقد الدولي، ولو على حساب الأمن المعيشي للشرائح الاجتماعيّة الأكثر هشاشة. ولفهم قدرة الاتحاد العام التونسي للشغل على كسر سطوة سعيّد، تكفي الإشارة إلى أن الإضراب الذي نظّمه الاتحاد تمكّن من شلّ الملاحة البحريّة والجويّة بشكل تام، كما عطّل حركة القطاعات والنقل العام في جميع أرجاء البلاد، فيما أقفلت مؤسسات البريد والصناديق الاجتماعيّة وشركات الكهرباء أبوابها.
هكذا، سرعان ما تحوّل الإضراب النقابي إلى مناسبة لتكتّل معارضي السلطة في وجه الرئيس قيس سعيّد: من القضاة والمحامين، إلى الحركة النقابيّة، وصولًا إلى أحزاب المعارضة بمختلف تلاوينها وخلفيتها الأيديولوجيّة، ومؤسسات المجتمع المدني التي امتعضت من إطباق الرئيس على الحريّات العامّة. فالرئيس التونسي، جمّد قبل نحو سنة سلطة البرلمان، وأقال رئيس الوزراء السابق، ونفّذ ما يشبه الانقلاب القاسي على سلطات البلاد الدستوريّة، ثم سار باتجاه ضرب القضاء التونسي، وهو ما راكم طوال هذه الفترة ما يكفي من أسباب الاحتقان السياسي القادرة على التفجّر في وجهه خلال مواجهة نقابيّة من هذا النوع.
الإضراب يعرقل التفاهم مع صندوق النقد
على أي حال، مثّل الإضراب نكسة كبيرة لمسار مفاوضات الحكومة مع صندوق النقد، بعد أن تفاءلت الحكومة –قبل حصول الإضراب- بالتقدّم الذي أحرزته في تلك المفاوضات. فصندوق النقد، اعتاد على اشتراط وجود “إجماع مجتمعي” في تونس على أي برنامج اقتصادي تريد الحكومة التوافق عليه مع الصندوق، ما يعني ضرورة تفاهم السلطة مع الحركة النقابيّة على إصلاحات هذا البرنامج. وهذا الإصرار من جانب صندوق النقد، يأتي تحديدًا بسبب علمه أنّ الحركة النقابيّة القويّة في تونس قادرة على تعطيل تنفيذ أي برنامج اقتصادي في المستقبل، إذا لم يحظَ هذا البرنامج بموافقتها الصريحة.
ولهذا السبب بالتحديد، كان الإضراب الشامل، وحجم الرفض الشعبي للشروط التي تسرّبت من مفاوضات الحكومة التونسيّة مع الصندوق، رسالة تفيد بعدم وجود أي “إجماع مجتمعي” على البرنامج الذي تفاوض على أساسه الحكومة. وهذا تحديدًا ما دفع كثيرين للاعتقاد بأن توتّر علاقة الحكومة مع الاتحاد العام التونسي للشغل سيصعّب على الحكومة مهمّة إقناع صندوق النقد بقدرتها على تنفيذ أي برنامج إصلاحي سيتم الاتفاق عليه في المفاوضات. وهكذا، بات من الواضح أن الحكومة التونسيّة ستحتاج إلى الذهاب إلى طاولة مفاوضات صعبة مع الاتحاد العام التونسي للشغل، للتفاهم على ما يمكن أن يقبله الاتحاد من إجراءات، قبل العودة إلى التفاوض مع صندوق النقد من جديد. وهذا المسار، سيعني تبديد المزيد من الوقت قبل أن ينجح الرئيس التونسي بالحصول على دعم الصندوق الموعود.
تجارب سابقة غير موفقة
في واقع الأمر، لم تكن هذه المرّة الأولى التي تخوض فيها تونس غمار التفاوض مع صندوق النقد، وتجربة التوفيق بين شروطه القاسية، والخطوط الحمر التي تفرضها الحركة النقابيّة في البلاد. وفي المرّتين اللتين وافق فيهما صندوق النقد على منح قروض لتونس، مقابل برامج إصلاحيّة، فشلت تونس بالالتزام بشروط الصندوق بحذافيرها، ولم تتمكن من تطبيق البرامج التي تم الاتفاق عليها مع الصندوق.
ففي العام 2012، توصّلت تونس إلى تفاهم مع الصندوق على برنامج إصلاحي حصلت بموجب على قرض بقيمة 1.74 مليار دولار. وفي ذلك الوقت، شملت الإصلاحات التي طلبها صندوق النقد تشديد السياسة النقديّة ورفع معدلات الفائدة، واعتماد سياسة أكثر مرونة لسعر صرف العملة المحليّة، بالإضافة إلى زيادة معدلات التحصيل الضريبي. يومها، كان من المفترض أن تستفيد تونس من قيمة القرض على مراحل، وعلى مدى نحو سنتين من الزمن، على أن يُربط صرف المبالغ للحكومة التونسيّة خلال هذه المدّة بالتزامها ببنود البرنامج. ومع بدء صرف المبلغ سنة 2013، لم تتمكّن تونس من الالتزام بجميع بنود هذا البرنامج نتيجة الاضطرابات الأمنيّة التي مرّت بها البلاد، وهو ما أدّى إلى تأجيل صرف بعض المبالغ التي كان يفترض أن تحصل عليها تونس من صندوق النقد.
بعد الكثير من المصاعب التي واجهت ذلك البرنامج، عادت تونس عام 2016 لتطرق باب صندوق النقد، ليوافق الصندوق على منح تونس قرضا بقيمة 2.9 مليار دولار، مقابل الاتفاق على رزمة من الإصلاحات الاقتصاديّة التي يجب أن تنفذها البلاد قبل العام 2020. ومرّة جديدة، تم الاتفاق على استفادة تونس من قيمة القرض على مراحل خلال أربع سنوات، يتم خلال صرف المبالغ لتونس بعد التأكد من التزامها برنامج الإصلاحات المتفق عليه. وفي النتيجة، لم تحصل تونس إلا على 1.4 مليار دولار من قيمة القرض، بعد أن توقّف صرف مبالغ القرض لتونس، نتيجة فشلها في تنفيذ الإصلاحات المتفق عليها مع الصندوق.
شروط الصندوق والواقع التونسي
باختصار، لم تتمكّن تونس طوال السنوات العشر الماضية من الالتزام بوصفات صندوق النقد القاسية على المستوى الاجتماعي، والتي تتعارض مع النموذج الاقتصادي المعتمد تاريخيًّا في البلاد، والقائم على توسّع الدولة في إدارة المرافق الأساسيّة بنفسها، ومن خلال كتلة ضخمة من موظفي القطاع العام.
وشروط الصندوق، تعارضت أيضًا مع واقع البلاد السياسي والاجتماعي، الذي يتميّز بوجود حركة نقابيّة فاعلة وقادرة على فرض شروطها، وحماية موظفي القطاع العام من الشروط ا التقشفيّة التي تهدد أمنهم الوظيفي واستقرارهم الاجتماعي. كما تعارضت شروط الصندوق مع إصرار الحركة النقابيّة على رفض أي مساس بالمكتسبات الاجتماعيّة التاريخيّة، وفي طليعتها الدعم الذي تقدّمه الدولة لبعض السلع الأساسيّة. وكما فشلت الحكومات السابقة في الالتزام بوصفات الصندوق المعلّبة والجاهزة، بسبب هذه الخصوصيّة المحليّة، تعاني الحكومة الحاليّة من صعوبات تحول دون تمكينها من التوصّل إلى اتفاق نهائي مع صندوق النقد، وفق الشروط التي تسرّبت مؤخرًا من المفاوضات معه.