وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الممثل والمخرج المسرحي اللبناني هشام جابر: الرهان على الجمهور سر نجاح الفن الراقي

Hisham Jaber
Photo: Hisham Jaber

في أول شارع الحمرا بقلب بيروت العامر بالبشر، وتحت طابقين من سطح الأرض كمن أخفى كنزاً، يقع مترو المدينة؛ أحد أكثر المسارح المستقلة حيوية في العاصمة اللبنانية. فعلى مدى عقود، اجتذب شارع الحمرا الفنانين والمؤدين والشعراء والأكاديميين، وخلف هذه الحالة الفنية الثرية يقف فنان آمن بأن الفن الأصيل والراقي يستطيع أن يخلق مساحته وسط الفوضى، إنه هشام جابر، مؤسس ومدير مترو المدينة.

منذ بداية مشواره الفني الذي بدأه عام 2002، كان الدافع الرئيسي لهذه المسيرة الناجحة هو إيمانه الشديد بالجمهور. في الواقع، يُنتج جابر أعماله ويعرضها اعتماداً على ذوق الجمهور وشباك التذاكر وحده، مبتعداً عن مصادر التمويل الخارجية لينشأ فناً مستقلاً حقاً. كما أنه معروفٌ أيضاُ بتجاربه الجديدة، بل وأيضاً التدخل بالنوع المسرحي، إذ بدأ بعرض مسرحي يقف الجمهور فيه على خشبة المسرح بينما كان الممثلين فوق المقاعد.

كانت تلك هي البداية مع مسرحية “كولا، بربير، متحف، دورة،” والتي كانت مشروع تخرجه من قسم المسرح بكلية الفنون بالجامعة اللبنانية، وهي الكوميديا السوداء التي تناولت الحرب الأهلية (1975-1990) بين جيل عاشها وجيل آخر ولد في قلبها.

تستمر أعمال جابر المسرحية منذ ذلك التاريخ وحتى عام 2006، والتي قدم خلالها مسرحيات “صولو أو صولو” عام 2003 والتي تناولت الحرب الأهلية أيضاً وتأثيرها الاجتماعي على الناس والتي استخدم فيها التكنولوجيا واللقطات المصورة على خشبة المسرح، ثم “خبز عربي” عام 2005 والتي تروي قصة 5 شخصيات لبنانية يعيشون بعد 3 ملايين عام ويتفقون على هدم النظام السياسي فيأكلون بعضهم، ثم “قصة موت نجيب براكس”، التي قدمها في نفس العام.

إلا أنه بعد سلسلةٍ من التفجيرات والاغتيالات السياسية، التي حصلت غالبيتها في بيرت وضواحيها، انتقل جابر إلى مصر في عام 2006. تمثل مشروعه الأول في انتاج فيلم وثائقي عن فن السينما في مصر، لكنه في الحقيقة كان على موعد مع تاريخ الفن المصري الذي ظل لعقود طويلة قاطرة الفن في البلاد العربية من المحيط إلى الخليج. وبعد جهد بحثي عميق صنع جابر 12 فيلماً وثائقياً عن تاريخ السينما المصرية منذ بدايتها وحتى عام 2000، ليكتشف كنوزاً من الأعمال والشخصيات والأبطال ستُثري مشواره الفني. وأثناء إقامته في القاهرة بدأ في كتابة مسرحيته “عرض غير مُخصص للجمهور العريض،” قبل أن يُقرر العودة إلى بيروت عام 2008 ليستأنف دوره في صناعة الفن في بلده.

لطالما كان يحلم هشام بإقامة مكان ثقافي وفني يُقدم فناً حقيقياً راقياً. بدأ بتحقيق الحلم في اليوم الأول من عام 2010 بتأسيسه مترو المدينة. وفي مقابلةٍ مع فَنَك، قال لنا: “كنت مهموماً بمكانة الفن، وإيجاد مكان للفن الحقيقي غير المبتذل، فأنشأنا مترو المدينة، ذلك المترو الذي تتنوع محطاته بتنوع الأذواق في الفن، ليجد كل واحد من الجمهور المحطة التي تُناسب ذائقته الفنية بل ويُشارك في تطويرها برأيه واقتراحاته الدائمة.”

راهن جابر على الجمهور فلم يخذله، لسنوات وسنوات استمر مترو في تقديم العروض اعتماداً على إيرادات شباك التذاكر والخدمات المقدمة للجمهور من مطعم المترو وباره، وكانت البداية الصعبة ومُكلفة ورغم تذبذب الإيرادات صعوداً وهبوطاً إلا أنه لا يزال مصمماً على رهانه على جمهوره المتذوق للفن.

وخلال شهوره الأولى قدم مترو المدينة عدة عروض مسرحية وغنائية ناجحة كان منها “العميل الملتهب والراقصة المزدوجة وعام التفنيص وعين الشيطان وكباريه شوز”.

جاء عرضه الأكبر والأهم والأكثر نجاحاً واستمرارية “هشك بشك،” وهو عرض مسرحي غنائي يصور قاهرة المعز في بدايات القرن العشرين خلال العصر الذهبي للموسيقى المصرية. فقد كان من المُقرر أن يستمر العرض لمدة شهرين فقط لكنه فرض نفسه على قمة النجاح ليستمر لسبع سنوات حتى الآن ولا يزال يُعرض في أوقاتٍ مختلفة حتى الآن.

يقول هشام “هشك بشك هو نتاج التجارب والخبرات السابقة وكان وش السعد علينا وعوضنا عن كل الخسارات التي سبقته.”

وبجانب التأليف والإخراج، بدأ هشام بتطوير مشروع فني آخر، “مترو فون،” وهو مشروع لإحياء تاريخ لبنان الموسيقي من خلال إعادة الأعمال المنسية ولكن المهمة التي قام بها 16 مطرباً وملحناً مثل “فريال كريم، وسامي الصيداوي، وسامي حوّاط، ونهاوند وغيرهم. واكب هذا المشروع فرحة عارمة من أُسر وأهالي هؤلاء الفنانين بل وبعض الذين لا زالوا على قيد الحياة منهم وحضروا الحفلات الخاصة.

وأوضح جابر، “مترو فون هو بحث عن رحلة الفن وتاريخ صناعته في مصر وسوريا ولبنان،” وأضاف “لنكتشف ما غاب عنّا جميعاً بعد أن اكتفينا بالمنتج النهائي من الفنانين الذين لا يزالون حاضرين في الذهن الفني مثل فيروز وأم كلثوم، وأردنا التغلب على مُعضلة حب الجمهور للتراث الذي يعرفه بالبحث الدقيق المُشجع له على استكمال هذا البحث والتتبع لثبر أغوار تاريخ الفن.”

وتابع جابر القول، “هناك جزء من الطرب منسي في هذه المدينة، فأردنا أن نُعيده إلى مكانه بتقديم وجبة طرب دسمة لجمهور مشتاق لجلسات الطرب بمفهومها القديم وحفلاتها الطويلة، ورغم أنها كانت مغامرة أن تُقدم أغنية واحدة في حفلة كاملة لمدة ساعة إلا أنها كانت مغامرة ناجحة وناجحة جداً، فمنذ بدايته عام 2013 وحتى الآن لا يزال حضور الجمهور مبهر ومتجدد، فبعد أن كان مُقتصراً على كبار السن أصبح المسرح الآن يمتلئ بكل الفئات العمرية.”

وبجانب انشغاله بالفن الراقي وعمله على إعادته تقديم المشهد الثقافي اللبناني كان الفنانين نفسهم جزءاً من مشروعه، فأصبح آخر يوم سبت من كل شهر موعداً لاكتشاف المواهب الجديدة بمترو، حيث يقدم إليه كل من يتطلع إلى الدخول إلى عالم السحر، وكان لهذا فضل في اكتشاف كثير من الفنانين الذين صاروا اليوم نجوماً في سماء بيروت مثل شنتال بيطار وكوزيت شديد وروزيت وغيرهم.

وهو ما يقول عنه هشام “يجب أن يكون الفنان راضٍ كي يُقدم عملاً جيداً، نحن بالأساس شركة وليس جمعية وكل فنان مُشارك في عرض هو جزء من هذه الشركة وأجره جزء من تقدير المكان له وهو ما يجعله راضٍ عن نفسه وعن ما يقدمه.”

“لقد وجدت في مترو مساحة وذائقة موسيقية أحبها وألوان فنية أكسبتني خبرة ومهارات جديدة، فبجانب كوني عازفة أصبحت آخذ أدوار مسرحية داخل العروض، وأُصقِل حضوري على المسرح بمهارات مسرحية جديدة، ولقد كان لهشام دور كبير في فتح آفاق جديدة على أنواع وأساليب في الفن والموسيقى، أنا وكثير من الموسيقيين” تقول فرح قدّور، الفنانة والعازفة اللبنانية التي بدأت مشوارها في مترو المدينة.

وتُضيف قدّور “إن أهم ما يُميز هشام جابر هو أذنه الموسيقية، فهو يتمتع بذكاء شديد في اختياراته للمغنيين الذين سيقومون بتأدية أدوار المغنيين السابقين على سبيل المثال، كما أن له مهارات بحثية مبهرة، فهو لا يكتفي بالبحث السطحي عن الموسيقيين مثلاً، ولكنه يتنقل ويزور أمكان إقامتهم ويلتقي بأهلهم وأسرهم، ولقد كان لمترو ومشاريعه الفنية تلك دور عظيم في إثراء الفن في لبنان، فالمشهد الموسيقي والفني قبل مترو المدينة يختلف كثيراً كما بعده.”

بدوره، اختتم جابر حديثه معنا بالقول، “أعتقد بأن أهم ما صنعه مترو هو أنه أعطى أمل بإمكانية عمل شيء جيد وتقديم فن حقيقي، وهو ما أعاد الحياة بنسبة ما إلى الفن في لبنان وعادت المسارح تنافس السينمات الآن، لقد حلمنا بأن نُنشئ واحة في مدينة تضج بالمشاكل مُستغلين هوامش الحرية التي تتمتع بها، وأن نُعيد لصُناع الفن ثقتهم بالجمهور وخوض مغامرة الإنتاج اعتماداً على شباك التذاكر، ذلك الجمهور الذي سيعرف طريقه للفن الحقيقي وسط مشهد يمتلئ بألوان أخرى.”