وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

العصر الذهبي للموسيقى المصرية

لقرابة عقدٍ من الزمان، كانت تتمتع مصر بإنتاجٍ موسيقي ضخم ومتنوع على نحوٍ استثنائي مما جعل من القاهرة عاصمة الترفيه الأولى في الشرق الأوسط. تمتد تلك الفترة من أواخر القرن التاسع عشر وحتى القرن العشرين. وعلى الرغم من معاناتها من أوقاتٍ صعبة في السنوات الأخيرة، إلا أن مصر لا تزال تعيش على سمعةٍ اكتسبتها في عصرٍ يُشار إليه بمحبة، بالعصر الجميل (la belle époque).

وحتى يومنا هذا، لا تزال الأغاني من ذلك العصر تُسيطر على مشهد الموسيقى الشعبية في العالم العربي. فإذا ما شاهدت برامج مثل أراب أيدول (محبوب العرب)، أو ذا فويس (أحلى صوت)، أو أي برنامجٍ تلفزيوني آخر، فلا يسعك سوى أن تلاحظ أن جزءاً كبيراً- إن لم يكن الغالبية- من الأغاني التي يختارها المتسابقون الشباب هي من تلك الأغاني التقليدية.

ومثلما هو الحال في الحياة الاجتماعية والسياسية المصرية، كان التصادم مع الثقافة الغربية ما أشعل شرارة هذه الفترة من الإزدهار الموسيقي غير المسبوق. فقد احتل نابليون بونابرت مصر لفترةٍ وجيزة (1798-1801)، ثم استعمرها البريطانيون لأكثر من سبعة عقود (1881-1956).

هذا التصادم، على الرغم من كونه قمعياً وعنيفاً في بعض الجوانب، إلا أنه أدى في نهاية المطاف إلى تطور نوعٍ جديد من التعبير الموسيقي، وتم إدخال آلات موسيقية جديدة مثل الكمان، والبيانو، والكونتراباس، والبوق والأكورديون إلى الأوركسترا التقليدية.

وقد اعتمدت أنواع وأنماط جديدة مثل الفالس والتانغو والسامبا، مما خلق إدماجاً جذاباً راق للأذن العربية. ويعتبر محمد القصبجي (1892-1966)، غزير الإنتاج، أحد أوائل المبتكرين الذي نقل بشكلٍ مكثف من الموسيقى الغربية. واحدة من أشهر أغانيه هي أغنية أنا قلبي دليلي، وهي من الفالس الشرقي المؤلف خصيصاً لنجمة عصرها آنذاك، ليلى مراد. ولا تزال الأغنية تتمتع بشعبيةٍ كبيرة. وكما هو حال العديد من هذه الأغاني، كان هذا أيضاً الحال في عالم صناعة السينما المزدهرة.

كما كان الفالس أيضاً الأسلوب المفضل لأغنية ضاربة أخرى من نفس الفترة، وهي أغنية ليالي الأنس في فيينا، من تلحين الموسيقار فريد الأطرش (1074-1917) لشقيقته أسمهان، واحدة من نجمات ذلك العصر. فالتوليف بين الغناء العربي التقليدي (المعروف باسم الطرب) والألحان الغربية واضحٌ للغاية.

أما الرجل الذي يُعرف على نطاقٍ واسع بكونه عرّاب هذه الثورة، فهو سيد درويش (1892-1923). فقد كان أحد عمّال المُياومة قبل أن يُصبح ملحن ومغني بوهيمي في مقاهي ونوداي الاسكندرية، التي كانت في ذلك الوقت مركزاً عالمياً يجذب المواهب من جميع أنحاء أوروبا.

ويعود الفضل له في التغيير الجذري الذي طرأ على صوت الموسيقى العربية بإخراجها من قصور الأغنياء وجعلها متاحةً من وإلى الشعب. فقد كتب البروفسور فريدريك لاغرانج من جامعة السوربون في باريس عنه، إذ قال “في التاريخ العربي الحديث للموسيقى، أصبح سيد درويش رمزاً يُمثل التقدم والحداثة والتحول من” الموسيقى الشرقية،” الموسيقى النخبوية التي يتم تأليفها للباشوات والتي لا تزال تعوم في المصفوفة العثمانية الأصلية، إلى “الموسيقى المصرية،” التعبير الأول عن روح الشعب ومطالبهم القومية.”

وفي حين كانت الأغاني تقتصر قبله على موضوعين رئيسيين، هما الحب والأنشاد الديني، إلا أن درويش أدخل مواضيع جديدة كلياً. فقد غنى عن حياة الفلاحين والعمال المتجولين، بل إنه دافع أيضاً عن قضية المرأة المصرية. رافق ذلك مجموعة كبيرة من الأغاني التقليدية عن الحب البائس غير المتبادل، التي ألفها وغناها بقدرٍ كبير من الطرافة والهجران المفعم بالمرح. كما جسدت أغانيه الوعي السياسي في ذلك الوقت الذي كافحت فيه مصر لتخليص نفسها من الهيمنة البريطانية؛ صراعٌ ارتبط به ارتباطاً وثيقاً من خلال فنه. وقد أصبحت أغنيته، بلادي، المأخوذة من كلمات خطاب القائد القومي مصطفى كمال، النشيد الوطني المصري.

ولا تزال العديد من أغانيه تحظى بشعبية بين الشباب وباتت مرادفةً تقريباً للفلكلور العربي، بالرغم من مفرداتها وروحها المصرية. وتشتمل هذه الأغاني على أغنية الحلوة دي قامت تعجن، وهي أغنية مُهداة للفلاحات المصريات وجمال الحياة الريفية، وأغنية سالمة يا سلامة، التي احتفلت بعودة المصريين الذين تم تجنيدهم للقتال إلى جانب البريطانيين في الحرب العالمية الأولى.

نعرض لكم هنا أغنية طلعت يا محلا نورها، التي أدتها المطربة اللبنانية الكبيرة، فيروز، والتي تتحدث عن حياة الفلاحين البسيطة.
توفي درويش مبكراً في عمر الـ30، لأسباب غير واضحة.

بيد أنه ولّد زخم التغيير، إذ واصل العديد من معاصريه ما بدأ به، إذ كان من أبرزهم الملحن رياض السنباطي (1906-1981)، ومحمد القصبجي (1892-1966) ومحمد عبد الوهاب (1902-1991). في الواقع، هيمن محمد عبد الوهاب على المشهد الموسيقي لفترةٍ طويلة من القرن العشرين، إذ كان مغنٍ وملحن غزير الإنتاج في الثمانينات. وقد ترك وراءه مجموعة موسيقية ضخمة، تتألف غالبيتها من أغانٍ تم تلحينها لنجوم مثل عبد الحليم حافظ، وفايزة أحمد، وصباح، ووردة الجزائرية ونجاة الصغيرة. كانت معظمها أغاني حب، إلا أن القليل منها حملت أيضاً لهجةً قومية.

وإلى جانب عبد الوهاب، ظهر جيلٌ من المؤلفين الشباب- بمن فيهم كمال الطويل، ومحمد الموجي، وبليغ حمدي- الذين تخطت ألحانهم عقوداً من الزمان ولا تزال تتمتع بشعبيةٍ كبيرة.

ومع ذلك، لم يكن الملحنيين فقط من جعلوا من هذه النهضة الموسيقية أمراً ممكناً. في الواقع، ما جعل من هذا العصر استثنائياً كان مصادفة تواجد هذه المواهب الموسيقية الفذة معاً- من المؤلفين، والمغنين، والشعراء/كتاب الأغاني. ومعاً، سيّروا هذا المحرّك الفني مخلفين إرثاً ضخماً.

تتربع على رأس قائمة هذا التقليد الموسيقي للعصر الجميل، المطربة المصرية أم كلثوم (1898-1975). وعلى الرغم من كونها مغنية مثيرة للإعجاب على جميع الأصعدة، إلا أنه يُقال أنها ما كانت ستصبح هذه القامة الفنية الرائعة في جميع أرجاء الشرق الأوسط (حيث عُرفت بكوكب الشرق) دون كلمات شعراءٍ مثل أحمد رامي، أو بيرم التونسي، أو كامل الشناوي، أو دون ألحان السنباطي والقصبجي وعبد الوهاب.

وعلى الرغم من أنها توفيت قبل أكثر من 40 عاماً، إلا أن أغانيها أصبحت جزءاً من المشهد الصوتي لمصر المعاصرة، والتي تأتي في المرتبة الثانية فحسب لتلاوة القرآن. الأغنية الأولى التي لحنها لها عبد الوهاب في الستينيات كانت أغنية إنت عمري، وهي أغنية كلاسيكية حديثة تخطت الإنقسام الثقافي، والأهم من ذلك، الإنقسام السياسي. نعرض هنا أداءً فنياً للأغنية بصوت المغنية الإسرائيلية سريت حداد

وعلى الرغم من أن العصر الجميل كان إلى حدٍ كبير ظاهرةً مصرية، إلا أن بعض الملحنين والمغنين لم يكونوا من مصر. فقد انتقلت المواهب الرئيسية إلى مصر من بلاد الشام وشمال أفريقيا، فعلى سبيل المثال، فريد الأطرش وشقيقته أسمهان لبنانيان، كما أن وردة، وهي جزائرية، كانت من بين أفضل وأكثر المطربين المحبوبين وجزء لا يتجزأ من هذا التراث الموسيقي.

لا شيء يُجسد مدى وصول وثبات هذا التقليد أفضل من اختيار المغنين الشباب في برامج المواهب اليوم عرض مواهبهم الموسيقية من خلال تأديتهم أغانٍ لنقل مثلاً لأم كلثوم، أو ليلى مراد أو صباح. وهنا على سبيل المثال، تُطرب فتاة صغيرة لبنانية الجمهور والحكام على حد سواء أثناء تأديتها لأغنية ليلى مراد بشكلٍ شبه متقن.

أداء بارز آخر لخمسة شبان في أحد برامج المواهب، من السعودية، والعراق، وفلسطين، واثنين من مصر، وهم يغنون أغنية التانغو الشرقي لعبد الوهاب، بلاش تبوسني في عينيا.

Advertisement
Fanack Water Palestine